مستقبل العلاقات الأوربية الأمريكية والمتغيرات الجديدة

جَسّد تعاطي دونالد ترامب مع الحرب الروسية الأوكرانية، مصدرا كبيرا للقلق في أوروبا التي تتوقع أن تبقى وحيدة مستقبلا بعد تخلي الولايات المنجدة الأمريكية عنها.

مَثّل التغير الواضح في الاستراتيجية الأمريكية والاختلاف في الأولويات والرؤى والمصالح بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، مصدر قلق بالغ بين دول الاتحاد، وسط تساؤلات حول مستقبل العلاقات الأوروبية الأمريكية وتداعياتها على مصالح البيت الأبيض وكيفية التعامل مع الأزمة في ظل الانقسامات الداخلية وغياب قيادة أوروبية.

فوضى وشعبوية

خلقت السياسية الأمريكية الجديدة حالة من الفوضى في الأوساط الدولية، إثر تعمد الرئيس الأمريكي إطلاق تصريحات شعبوية لم تصدر عن أي رئيس سابق للولايات المتحدة الأمريكية، تزامنا مع تنفيذ انقلاب في السياسة الخارجية بدأها بتخليه عن أوكرانيا ودعمه لإنهاء الحرب مع روسيا إلى جانب اعتباره أن الاتحاد الأوروبي يمثل عبئا ثقيلا على الإدارة الأمريكية ويجب التخلص منه، وذلك تزامنا مع شن حرب عنيف ضد الدولة العميقة من خلال تسريح الموظفين والقضاة وضباط المخابرات المركزية فضلا عن ضباط البنتاجون.

وقبيل انتخابات الرئاسية الأمريكية الماضية سرت حالة من القلق في الأوساط الأوروبية من نجاح ترامب، وحينها وصف سياسيون أوروبيون بأن الضمانة الأمنية الأمريكية أهم ما يشغل أوروبا في ظل الحرب الروسية الأوكرانية، ومن ثم باتت أوروبا أمام مستقبل غامض دفعها إلى البدء في دراسة الاحتمالات المستقبلية على خلفية توتر علاقتها مع البيت الأبيض.

الدكتور فواز جرجس أستاذ العلاقات الدولية قال في تصريح لوكالة فرات للأنباء «ANF»، إنّ «عدم التزام ترامب تجاه حلف الناتو ودعم كييف يعني أن أوروبا أصبحت بمفردها، فخلال فترة رئاسته الأولى، وحالياً يتبنى ترامب موقفاً مُعادياً للناتو، مُشككاً في جدواه، وواصفاً إياه بأنه مات وانتقد الأعضاء بسبب تخصيص 2% فقط من الناتج المحلي الإجمالي للدفاع، وفيما يخص الدعم الأمريكي لأوكرانيا، ظهرت توجهاته في لقائه الأخير زيلينسكي، حيث مارس ضغطا قويا للوصول إلى تسوية مع موسكو قد تحمل بين طياتها تنازلات ضخمة».

إن تغير السياسة الأمريكية جسد منطلقا لشرعية للأحزاب اليمينية المتطرفة الشعبوية في أوروبا التي تتبنى خطاباً ضد المؤسسات العميقة، وبرغم ذلك نجحت في زيادة مقاعدها البرلمانية والمشاركة في اتخاذ القرار بالوصول إلى رئاسة عدة حكومات أبرزها إيطاليا، كما حصد اليمين نجاحات كبيرة في انتخابات البرلمان الأوروبي 2024، ورغم صمود بعض الدول تجاه هذا الصعود السريع لليمين التحالف الحاكم في ألمانيا بقيادة أولاف شولتس وشريكيه حزب الخضر والحزب الديمقراطي الحر إلا أنه يواجه موقفاً صعباً بعد الفوز الذي وُصف بالتاريخي لحزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف في الانتخابات المحلية في ولاية تورينغن، وهو ما يتوافق مع سياسة ترامب التي لا تحبذ التعاون مع التيارات الوسطية والمدارس الدبلوماسية الرصينة التي أسست لعالم قائم على المبادئ ويحتكم للقانون الدولي وهو ما يرفضه الرئيس الأمريكي الذي يفضل التعامل مع الأمور من منطلق القوة واحتقاره للمؤسسات الأممية وحتى القانون الدولي. 

سام منسي الباحث والمحلل السياسي أكد في تصريح لوكالة فرات للأنباء «ANF»، إنّ «سياسة ترامب باتت تمثل تهديدا وجودياً للاتحاد الأوروبي لعدة أسباب يأتي على رأسها عدم إيمانه بالقيم الديمقراطية التي تمثل جزءًا من الهوية الأوروبية، وهو ما أثر بالطبع على زخم الاتجاهات غير الليبرالية في أوروبا خاصةً في وسط وشرق القارة إلى جانب تعزيز الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي بسبب أرائه وتوجهاته التي لا تهتم بالقارة الأوروبية وتراها عبئا وهو ما يستوجب التعامل معه لتدارك تلك الفجوة الآخذة في الاتساع في العلاقات عبر الأطلسية من خلال صياغة استجابة أوروبية موحدة».

وحال فشل دول القارة في التوصل إلى اتفاق أمريكي، من المتوقع أن تزيد الانقسامات بوسط وشرق القارة التي تعتمد بشكل كبير على المظلة الأمنية الأمريكية وقد تسعى لعقد ترتيبات ثنائية مع ترامب، وأيضاً الدول ذات التوجهات الأطلسية والتي تختلف رؤيتها حول مقاصد الاستقلال الاستراتيجي لأوروبا، فالاختلاف حول التعامل مع الولايات المتحدة له قدرة أكبر على تقسيم الاتحاد الأوروبي عن الاختلاف حول التعامل مع الصين أو حتى روسيا، وذلك لأهمية وعُمق العلاقات الأمريكية الأوروبية، ولعل الانقسام الأوروبي على خلفية الحرب الأمريكية على العراق عام 2003 خير دليل على ذلك.