وفي وقت تتصاعد الخلافات بين مصر وإثيوبيا على خلفية أزمة سد النهضة وكذلك تجاوزات أديس أبابا تجاه الأراضي الصومالية، هبطت يوم الثلاثاء الماضي 27 أغسطس/أب طائرتان عسكريتان مصريتان محملتان بالأسلحة والذخيرة في مطار مقديشو، كخطوة تعبر عن التقارب الكبير بين القاهرة والجانب الصومالي لا سيما بعد الاتفاقات التي أبرمها الإثيوبيون مع ما يعرف بإقليم "أرض الصومال" الانفصالي.
على الفور أصدرت إثيوبيا بياناً تهاجم فيه وصول تلك المعدات العسكرية المصرية وتعتبر الأمر تهديداً لأمنها القومي، علماً أن أديس أبابا كانت وقعت مع أرض الصومال اتفاقاً يتيح لها استئجار منطقة مطلة على خليج عدن، أي ما يمنح إثيوبيا الحبيسة أخيراً منفذاً بحرياً يصلها بالبحر الأحمر مقابل اعتراف مستقبلي من أديس أبابا بهذا الإقليم الانفصالي كدولة مستقلة في خطوة لم تقدم عليها أي دولة منذ إعلان هذا الإقليم نفسه دولة من طرف واحد عام 1991.
القاهرة ومقديشو.. علاقات تتصاعد
على الفور كانت مصر التي تتمتع بعلاقات وثيقة وتاريخية مع الصومال الكبير حاضرة في المشهد، وأكد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وقتها رفضه التام لأي مساس بسيادة ووحدة أراضي الصومال، ولمح إلى أن الصومال بلد عربي وطرف في اتفاقية الدفاع العربي المشترك، وكانت هذه لهجة شديدة للغاية في يناير/كانون الثاني الماضي عندما زار الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود مصر، ثم تتجدد الزيارة مرة أخرى في أغسطس/آب الجاري.
وفي 20 يوليو/تموز الماضي وافق مجلس الوزراء الصومالي على اتفاقية دفاع مشترك مع مصر وسط محاولات إثيوبية لإنشاء قاعدة بحرية في إقليم أرض الصومال، ومع زيارة الرئيس الصومالي الثانية إلى مصر قبل أيام تم الإعلان عن توقيع بروتوكول تعاون عسكري عقب مباحثات بين شيخ محمود ونظيره المصري عبد الفتاح السيسي.
وفي إطار تصاعد العلاقات بين القاهرة ومقديشو، فتحت الأولى سفارتها لدى الثانية، كما فتح كذلك خط طيران مباشر بين العاصمتين العربيتين، وكلها مؤشرات تقول أمرين أولهما إن مصر عائدة بقوة إلى وجودها التاريخي في الصومال أحد أهم دوائر الأمن القومي المصري، والثانية أن التوترات بين الجانبين المصري والإثيوبي بدأت تأخذ مرحلة مختلفة خصوصاً وأن الأول يبدو يريد ردع الثاني.
وبينما هدد الصومال إثيوبيا في السابق بطرد 10 آلاف جندي إثيوبي يعملون في إطار مهمة حفظ السلام أو ينتشرون في إطار جهود مكافحة الإرهاب بعد اتفاق أرض الصومال، أعلن السفير الصومالي لدى القاهرة علي عبدي أن الشحنة العسكرية التي أرسلتها مصر كانت كبيرة، ودون الكشف عن تفاصيل محددة لفت إلى أن مصر ستكون أول دولة تنشر قوات في الصومال بعد انسحاب قوات أتميس أي بعثة الاتحاد الأفريقي.
هذا الواقع يفرض عديداً من التساؤلات حول ما وراء هذا التوجه المصري نحو الصومال والذي أخذ بعداً عسكرياً، وما يعنيه بالنسبة لتحولات الصراع في منطقة القرن الأفريقي، وحول ما قد تفكر فيه إثيوبيا التي اعتاد رئيس وزرائها أبي أحمد على المشاكسات خصوصاً مع القاهرة رغم كل ما يواجه من إشكاليات داخلية وصراعات سياسية وعرقية.
ضوابط التحرك المصري
"مصر لا تتجاوز بحق أي طرف"، بتلك العبارة علق اللواء أركان حرب عادل العمدة المستشار بالأكاديمية العسكرية للدراسات العليا والاستراتيجية، في تصريحات عبر الهاتف لوكالة فرات للأنباء (ANF)، على تحركات القاهرة في الصومال، قائلاً إن الرئيس الصومالي أتى إلى مصر وطلب مساندته في القضاء على أبرز تحد يواجه التنمية في بلاده ولا يساعد على الاستقرار وهو الإرهاب، مشيراً إلى النجاح المصري الواضح في التعامل مع هذا الملف، وبالتالي أرادت مقديشو الاستفادة من القدرات المصرية، وبالتالي ذهبت مصر إلى هناك بناء على طلب رئيس الصومال.
ولفت العمدة إلى أن الصومال دولة عضو في جامعة الدول العربية وبالتالي تتمتع بما تفرضه اتفاقية الدفاع العربي المشترك والتي تتيح للقاهرة التواجد العسكري داخل الأراضي الصومالية طالما طلبت مقديشو ذلك، معتبراً أن مصر لم ترتكب أي شيء مخالف أو غير قانوني أو مخل بالنظم، منتقداً في الوقت ذاته ما وصفه بـ "الافتراءات الإثيوبية".
ويرى اللواء عادل العمدة أن الرد الإثيوبي يعبر عن حالة القلق لدى أديس أبابا، واعتبر أن هذا القلق يجعلها تفكر جيداً قبل أن تقدم على أي اعتداء على الصومال أو استهدافه بأي شكل، في ظل أن المقاتل المصري قادر على حفظ الأمن وتدريب القوات الصومالية على حفظ واستقرار هذا البلد بما يحفظ أمنه القومي.
وأعلنت إثيوبيا يوم الأربعاء الماضي 28 أغسطس/آب أن المهمة الجديدة التي يقودها الاتحاد الأفريقي في الصومال، والمقررة أن تبدأ في يناير/كانون الثاني 2025، قد تؤدي إلى زيادة التوترات في منطقة القرن الأفريقي، والتي ستحل محل "أتميس" التي كانت قد تم تأسيسها لمكافحة حركة الشباب المجاهدين (التابعة لتنظيم القاعدة الإرهابي).
وحذرت وزارة الخارجية الإثيوبية من أن المنطقة "تدخل في المجهول"، وذلك في ضوء التوترات المتصاعدة في القرن الأفريقي، مؤكدة أنها تتابع تطورات الوضع عن كثب، مشددة على أنها "لا يمكن أن تقف مكتوفة الأيدي بينما تتخذ جهات أخرى خطوات لزعزعة استقرار المنطقة"، وفقاً لها، متهمة الصومال بالتعاون مع "جهات فاعلة غير معلنة"، في إشارة ضمنية إلى مصر، بهدف تحقيق أهداف قد تضر بأمن واستقرار القرن الأفريقي حسب مزاعمها.
وفي خطوة تصعيدية، قررت أديس أبابا، أمس الجمعة 30 أغسطس/آب، تعيين سفير لها في إقليم أرض الصومال غير المعترف به، موضحة أن موسى بيهي عبده رئيس أرض الصومال قد تسلم أوراق اعتماد تيشومي شوندي هاميتو السفير الإثيوبي الجديد الذي تم تعيينه مؤخراً في الإقليم.
أما حكومة أرض الصومال فهي الأخرى أصدرت بياناً لا يختلف كثيراً في مضمونه عن البيان الإثيوبي، إذ انتقدت إرسال قوات مصرية إلى دولة الصومال، مؤكدة اعتراضها بشدة على هذا الانتشار العسكري، مضيفة أن "الافتقار إلى التقييم أو الاعتبار لاستقرار وأمن الصومال ومنطقة القرن الإفريقي بأكملها أمر مثير للقلق"، وفقاً لتك الحكومة غير المعترف بها.
وكان إقليم أرض الصومال أعلن انفصاله عن دولة الصومال قبل أكثر من 30 عاماً، لكن الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة لم يعترفا به كدولة مستقلة، ولا تزال الحكومة الصومالية تعتبره جزءًا من أراضيها.
تواجد استراتيجي وعنصر ردع
يقول اللواء محمد عبد الواحد الخبير في شؤون الأمن القومي والشؤون الأفريقية، لوكالة فرات للأنباء (ANF)، إن مصر حريصة على التواجد في هذه المنطقة للدفاع عن مصالحها الجيوسياسية وأمنها، لا سيما وأن منطقة القرن الأفريقي تنذر بمخاطر كبيرة بسبب التفاعلات والصراعات داخل دول هذه البقعة الجغرافية أو حتى الصراعات الحدودية بين بعض تلك الدول.
وأشار في هذا السياق إلى أن إثيوبيا تريد الاعتراف بجمهورية أرض الصومال والحصول على أرض دون الحصول على موافقة الحكومة الفيدرالية في مقديشو، معتبراً أن هذه الأمور جعلت القاهرة حريصة على التواجد فضلاً عن التنافس الدولي والإقليمي بتلك المنطقة الذي انعكس في شكل وجود قواعد عسكرية، وبالتالي كان على مصر التواجد ومتابعة ما يحدث بعناية خصوصاً وأن كل ما يجري بها يؤثر على الأمن القومي المصري، كما أن هناك حديث عن تواجد لشركات مرتزقة ونزعات انفصالية.
وقال إن الجانب المصري يتواجد أيضاً لأن هناك دولة استغاثت به أي الصومال، مشيراً إلى أن مصر عليها التواجد كذلك نظراً لوجود منابع النيل في إثيوبيا وهناك خلافات بين القاهرة وأديس أبابا لرفض الأخيرة مشاركة الأولى لها في إدارة مياه النيل كما ترفض التوقيع على اتفاق يلزمها إبلاغ مصر والسودان دولتي المصب بمواعيد الملء والتفريغ خصوصاً في فترات الجفاف والجفاف الممتد، وتصر على هذا النهج.
ويرى اللواء محمد عبد الواحد أن وجود قوات مصرية يأتي في إطار أنه عنصر ردع لإثيوبيا، مشيراً إلى أن أديس أبابا لن تستطيع أن تقدم أي دعم لأرض الصومال خصوصاً وأن الأخير كذلك فقير للغاية.
وملف سد النهضة هو محور الخلاف الرئيسي بين مصر وإثيوبيا على مدار نحو 14 عاماً منذ أن أقدمت الأخيرة على بنائه كدولة منبع دون أن يكون ذلك بأي تنسيق أو توافق مع الجانب المصري لا سيما مع تأثيره على حصة الأخير من المياه.
وقد تمسكت القاهرة بالمسار الدبلوماسي إلا أن أديس أبابا كانت ما تضرب عرض الحائط بتلك الجهود وتصر على المضي قدماً في قراراتها المنفردة، واعتمد رئيس وزرائها خطابًا شعبوياً عدائياً تجاه القاهرة يبدو أنه يوظفه لأهداف تعبوية سياسية في ظل الصراعات والخلافات السياسية الداخلية التي لم تنتهي بعد، ما يعني أن أعمق أزمات القرن الأفريقي الكبير لا تزال تنتظرها فصول أخرى.