منذ أن تحورت الإدارة الطبيعية للمجتمعات وانحرفت إلى السلطة الأحادية الدولتية، ومنذ أن بدأ الاستعباد والاستغلال والتحكم والهيمنة عبر التاريخ البشري، كان لهذا الانحراف وتلك الهيمنة المستمرة حتى اليوم ثلاث ركائز أساسية، وهي الاستعمار الثقافي والاستعمار السياسي والاستعمار الاقتصادي، وبدون هذه الثلاثية وتكاملها السلطوي والتي من الممكن تسميتها بثلاثية الهيمنة وبدون وجود أداة سلطوية كالدولة القومية المركزية وأجهزتها، لا يمكن لقوى الهيمنة والنهب والفساد تحقيق غايتهم العليا في الربح الأعظمي وتكديس رأس المال والنيل من المجتمعات والشعوب والتجاوز على كرامة الإنسان.
الدولة القومية المركزية هي الأكثر نهباً لكدح المجتمعات في التاريخ وتجاوزاً على كرامة الإنسان.
وعبر مراحل التاريخ تم تطوير نماذج السلطة والدولة وأجهزتها التي تحقق الاقتصاد الهادف إلى خدمة نظم الهيمنة والتحكم بأقصى درجة، فكانت الدولة القومية كإحدى أهم هذه الأدوات والتي يستحسن تعريفها بالشكل الصحيح استناداً لتبيان العلاقة بين الربح الأعظمي ومراكمة رأس المال، فلا يمكن تعريف الدولة القومية بأنها نظام عنف وشدة وسلطة بحد ذاتها، بل أن نجاح نظم الهيمنة والنهب العالمية بممارساتها التخريبية في الحقل الاقتصادي المجتمعي، يقتضي تصنيف سلطة الدولة كدولة قومية مركزية. وهنا يمكننا القول أن الدولة الأكثر فساداً ونهباً لفائض القيمة وكدح المجتمعات والشعوب في التاريخ هي الدولة القومية المركزية ذات اللون الواحد (القوموي، الدينوي والجنسوي).
أما نعت وطلاء هذه الدولة الأداة بالوطنية والقومية والقدسية وأنها الهدف المنتظر والحلم الأوحد والبقاء الأفضل و الاستقرار المطلوب للشعوب والشرق الأوسط، وتأليهها عبر الهيمنة الفكرية والثقافية من خلال نظم التعليم والتربية والفن و الإعلام والمجال الافتراضي الموجه، وتسريبها لكل أوعية المجتمع ونسجه وتكويناته، فهو بهدف شرعنة هذا النهب والسلب المطبق على الاقتصاد وإبعاد المجتمع عن حقه في إدارة موارده الاقتصادية وإضعافه وإبعاد المرأة عن أهم أدوارها، ويمكن القول أن المنظومة الفكرية والمؤسساتية التي تم خلقها وبالأبعاد السياسية و القانونية والدبلوماسية الدولتية، هي في ذات الإطار ولأجل نفس الهدف وهي اقناع الناس وضمان خضوعهم وتأمين الشرعية وضمان التحكم وعدم ظهور زي حالات اعتراض من المجتمعات والشعوب.
وعليه، تم ممارسة إجراءات قسرية وتعسفية وإدارة الاقتصاد بالذكورية والسياسة بالدولة وبالتالي إفراغ الاقتصاد من جوهرها المجتمعي وإفراغ السياسة من جوهرها الحر وقربها للحقيقة وممارستها المجتمعية ووظيفتها النبيلة في إيجاد أفضل الأعمال، فكان الاستعمار والهيمنة السياسية والفكرية كإجراءات مطلوبة على درب الهيمنة الاقتصادية الأخطر.
وهكذا تم فرض فساد وإرهاب الدولة القومية المركزية الاقتصادي على المجتمعات والشعوب حتى على ذات اللون القومي التي تستند إليها وتستغلها الدولة القومية كهوية عرقية أحادية للدولة القومية المركزية، فأصبحت المجتمعات والشعوب عبارة عن عمالة مأجورة مقابل سد الرمق ولقمة العيش ليس إلا أي إلى عبودية الأجر الزهيد أو الموظف العبد، وتحول بذلك الغالبية الساحقة من المجتمعات والشعوب إلى جيش عاطل عن العمل والانتاج ومفتوح لكل أنواع الاستغلال والتجنيد، حتى أن المرأة التي هي أساس المجتمعات وصاحبة الاقتصاد ورائدتها تحولت مع هذه الأوضاع والممارسات إلى عبودية للرجل والسلطة و أداة للمتعة وممارسة السلطة وسلعة للبيع، لأن قيم نظم الهيمنة والنهب تنحصر في الربح والفائدة حتى على كرامة الإنسان والتجاوز عليه.
رغم كثرة الموارد والإمكانيات المتوفرة، ولكن هناك عبودية اقتصادية في دول الشرق الأوسط.
لو نظرنا إلى واقع شعوب الشرق الأوسط ودولها، سنلاحظ ما ذكرناه بوضوح شديد، فرغم كثرة الموارد والثروات والإمكانيات المتوفرة، ولكن حال شعوبنا ومجتمعاتنا يرسى لها فهي في فقر مدقع وجوع شديد وعبودية اقتصادية لا مثيلة لها، دون وجود برامج اقتصادية وتنموية ذاتية شاملة ومتكاملة من قوى ودول المنطقة، فالشعوب العربية والشعوب الموجودة ضمن حدود تركيا وإيران وغالبية الشعوب الشرق أوسطية، تعيش في حالة فراغ فكري وفوضى ومعاناة اقتصادية كبيرة، تسبب بها النظم المركزية والسلطات القومية الأحادية ومن ورائها نظام الهيمنة العالمي أي النظام الرأسمالي.
ولعل تشخيص المجتمع الكردي يمدنا بمثال واضح و الذي يخش تبني ذاته وهويته وخصوصيته نتيجة للإبادة الثقافية التي تعرض ويتعرض له في ظل النظام الرأسمالي العالمي وأدواته من الدول القومية المركزية والسلطويات الأحادية الحاكمة، التي تمارس الغزو والاحتلال والاستيلاء والنهب والسلب والاستعمار والصهر والإبادة. وهكذا بات المجتمع الكردي مفتقداً لمبادرته واختياره الحر بشأن اقتصاده وحياته. و صيرت المرأة صاحبة أبخس أنواع الكدح والعمل، وهو مجتمع تناثر رجاله كما في مجتمعات عدد من دول المنطقة في الجهات الأربعة لتأمين لقمة العيش والمستقبل.
إن الاحتلال الاقتصادي هو أخطر أنواع الاحتلالات وأشد الأساليب للإيقاع بمجتمع ما وتقويضه وتفتيته، وما يتعرض له المجتمع الكردي يتجاوز نطاق قمع الدولة القومية وظلمها. بل كتمت أنفاسه، وأخضعت حياته الاقتصادية للرقابة المشددة، وتم الاستيلاء على أدواته الاقتصادية، وعليه يستحيل أن يواظب مجتمع ما على حريته بحرية بعد افتقاده لزمام التحكم بأدوات الإنتاج والسوق، تحت حجة مركزية الدول القومية الاقتصادية والسياسية و التي لا تعترف بالشعب الكردي أصلاً ولا تعتبره موجود رغم وجوده وإسهاماته في الحياة العامة، كما هي تركيا وسوريا وإيران حالياً، هذه الدول التي تعتبر ثروات الشعب الكردي ليس ملكه وعليه أن يسلم نفسه ومصيره وثرواته للدولة القومية المركزية دون أي اتفاق اقتصادي أو تفاهم سياسي وإلا لن يستطيع حتى مجرد الحياة ناهيك عن حريته وحقوقه في موارده وكرامته.
الاستعمار الاقتصادي، من أدوات الإبادة الجماعية الفريدة المطبقة بحق الشعب الكردي.
تم العمل من قبل القوى السلطوية والدولتية المركزية، لافتقاد قدرة وحاكمية مجتمعات الشرق الأوسط و خاصة المجتمع الكردي على أدوات وعلاقات الإنتاج وحرمانه من الاشراف عليها ومن التحكم بالتجارة وأصبح صونه لأملاكه وانتفاعه منها وأداؤه دوره في الاقتصاد والتجارة مرتبط بشكل كبير بأن يصبح الكرد تابعين للدول القومية المركزية وناكرين هويتهم ومغتربين عن مجتمعهم وملحقين بالقوميات الحاكمة.
وهكذا أصبح الاستعمار الاقتصادي أفتك وسيلة لإنكار الهوية وسلب الحرية وإهانة الكرامة. ولعل حال مناطق شمال سوريا المحتلة وعلى رأسها عفرين وحالة النهب والسرقة والاستيلاء الممارسة على بيوت الكرد وقطع أشجارهم وبناء المستوطنات للمجاميع الإرهابية وعوائلهم من الأمثلة الكثيرة على تعمد الدولة التركية ومرتزقتها وإجراءاتها بحق الكرد وشعوب المنطقة وسرقة مواردهم، علاوة على حالة الكرد داخل تركيا وإقالة رؤساء البلديات الكرد المنتخبين ووضع الوصي الأردوغاني بدلهم وبناء السدود التي تم بنائها لطمس الهوية والملامح التاريخية الكردية، ماعدا قصف تركيا بكل أنواع الأسلحة المحظورة لطبيعة كردستان وحرقها وقطع أشجارها لفرض التصحر وقطع المياه وكذلك إنهاء أسباب العيش وظروف مقاومة المحتل التركي كما حصل ويحصل في مناطق الدفاع المشروع التي تتواجد فيها قوات الدفاع الشعبي (الكريلا) ومناطق الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا وإقليم كردستان العراق.
وبالمجمل فإن الأنشطة الاقتصادية الأحادية والمركزة على المياه والنفط والطاقة والتربة والتي استعملتها وتستعملها تركيا وغيرها كأداة لتصفية الوجود الكردي الثقافي التاريخي، والضغط على الشعوب العربية والكردية في العراق وسوريا، حتى أصبح الاستعمار الاقتصادي من أدوات الموت والإبادة الجماعية الفريدة المطبقة بحق الشعب الكردي وشعوب المنطقة، ومحاولة قطع تركيا المتكرر لمياه نهري دجلة والفرات، دلالة على ذلك، حيث عملت وتعمل تركيا لتصفية الحياة على ضفاف نهري دجلة والفرات.
الاقتصاد الذاتي، نظام اقتصادي ديمقراطي، يبسط سيادة المجتمع على الاقتصاد.
وأمام هذا الواقع لابد من البحث عن نظام اقتصادي ديمقراطي تشاركي يوقف ويمنع هذه الممارسات التعسفية والإجراءات الأحادية وحالة الفساد الموجودة، ويعمل على إعادة بسط سيطرة وسيادة المجتمع وريادة المرأة على الاقتصاد كأهم حقول الحياة وحقوق المجتمعات والشعوب والمرأة. فالاقتصاد الذاتي في مشروع الأمة الديمقراطية المقترح لحل القضية الوطنية الكردية ومجمل قضايا المنطقة من قبل المفكر والقائد عبد الله أوجلان، هو أدنى حدود الوفاق والتوافق الذي يجب أن يتحقق بين الدولة القومية والأمة الديمقراطية في سوريا وتركيا وإيران وغالبية دول المنطقة. وأي وفاق أو حل أدنى مستوى من ذلك بين المجتمع والدولة يعتبر استسلاماً معناه الموت المحتم أو هدنة مؤقتة وتجهيز للكفن والموت.
لكن علينا الانتباه أن الانتقال بالاقتصاد الذاتي الي الاستقلال الاقتصادي، يعني بناء دولة قومية أخرى ومضادة وهذا أيضاً نهايته الاستسلام لنظام الهيمنة العالمي الرأسمالي، في حين التراجع عن الاقتصادي الذاتي هو الاستسلام للدولة القومية الحاكمة.
وبالتالي، فإن مضمون الاقتصاد الذاتي لا يتخذ من الرأسمالية الخاصة ولا من رأسمالية الدولة ومركزيتيهما أساساً له بل يعمل لأجل احتياجات المجتمعات والشعوب والأفراد عبر اللامركزية الاقتصادية أو الاقتصاد الذاتي بموجب:
1- الصناعة الأيكولوجية صديقة البيئة.
2- الاقتصاد الديمقراطي التشاركي المتجاوز للأحادية الرأسمالية والدولتية القومية واحتكاراتهم والمستند لتشاركية المجتمعي الاقتصادية في الطاقة والمياه والتربة.
باعتبارهما انعكاساً للديمقراطية على قطاع الاقتصاد وتجسيداً لها وتحولاً ديمقراطياً في الساحة الاقتصادية الدولتية بريادة المرأة، أما الموانع والحدود المرسومة والأبواب الموصودة أمام الصناعة والتنمية والتكنولوجيا والتشغيل والملكية والتكنولوجيا فهي حدود ماهية المجتمع الأيكولوجي والديمقراطي وكرامة الإنسان وحريته. ولا يمكن ترك الاقتصاد ساحة يتحقق فيها الربح ومراكمة رأس المال في الاقتصاد الذاتي. ولا يعتبر العمل فيه تعباً مرهقاً بدون فائدة أو أشغالاً شاقة لا تطاق، بل تجسيد للحرية والديمقراطية وممارسة للتحرر والتشارك الإنساني ومبدأه العمل حرية. فعندما تدخل جهد الإنسان و ثمار الكدح والعمل في خدمة الهوية الذاتية وحرية الفرد والمجتمع معاً، يصبح الكدح والعمل ممارسة للحرية والديمقراطية و حينها تكون ممارسة يمكن تحملها بكل سعادة وحب وطوعاً من دون إكراه وتكون من أهم مرتكزات الحياة الحرة وبناء نظام لامركزي ديمقراطي.