وإذا كان نهج الاغتيالات ليس جديداً على إسرائيل، فالأشهر الماضية شهدت عدة استهدافات طالت قيادات في حماس وحزب الله اللبناني والحرس الثوري الإيراني أو وكلاء لطهران على الأراضي السورية واللبنانية والعراقية والفلسطينية، إلا أن هذه هي المرة الأولى التي تُنفّذ فيها عملية بهذا الحجم داخل الأراضي الإيرانية، وهو أمر قد أثار التكهنات حول ما إذا كان هذا اختراق أمني كبير أم خيانة؟، لكن في كل الأحوال فإن إيران صفعت صفعة قوية.
كما يعزز اغتيال هنية إمكانية حدوث سيناريوهات سوداء لمنطقة الشرق الأوسط ذهبت التوقعات إليها خلال الفترة الماضية تتركز حول توسع دائرة الصراع وانزلاق المنطقة إلى حرب إقليمية واسعة النطاق، تزامناً مع أعمال الشد والجذب بين لبنان وإسرائيل، الأمر الذي حذرت منه دولة مثل مصر بمنتهى الوضوح في أكثر من بيان رسمي.
ماذا عن دلالات الزمان والمكان؟
يقول الخبير في الشأن الإيراني الدكتور محمد محسن أبو النور عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية إن اغتيال إسماعيل هنية في إيران ينال من طهران أكثر بكثير مما ينال من حركة حماس، لأنه يهز الصورة الذهنية للإيرانيين بعنف أمام داعميها ومناصريها بالداخل والخارج، مضيفاً أن "توقيت الاغتيال له دلالة مهمة".
وأوضح، في تصريحات لوكالة فرات للأنباء (ANF)، أن توقيت الاغتيال أتى في أول يوم لتولي الرئيس الإصلاحي مسعود بزشكيان مقاليد الرئاسة، وهذا تطور يشير إلى رغبة تل أبيب في نثر الأشواك على طريق الرئيس الإيراني الجديد نحو أمريكا وإبعاد الرجل الإصلاحي وفريقه عن البيت الأبيض كلما كان ذلك ممكناً.
ويؤكد أبو النور أن الزمان والمكان لهما أكبر الأثر في هذه العملية الإسرائيلية، منوهاً إلى أن من اتخذ هذا القرار في تل أبيب يعرف أن إيران لن تتسامح مع مثل هذا العمل ولا يمكن لها أن تكتمه في كبدها أو تمرره تحت أي ظرف، لأن "حماية الضيف أهم من حماية أصحاب البيت"، معتبراً أنه بالتالي فإن الرد الإيراني الجبري سيعقد مسيرة المفاوضات الإيرانية – الأمريكية، وسيعقد مفاوضات وقف إطلاق النار وتحرير الرهائن في غزة.
ويواصل أبو النور حديثه فيقول إن طريقة الاغتيال بصاروخ موجه إلى جسد إسماعيل هنية وهو في غرفة نومه الساعة الثانية صباحاً بتوقيت طهران تشير إلى أن هناك اختراقاً أمنياً إلى أعمق الأعماق في طهران، مؤكداً أن هذا الانكشاف الأمني سيجعل طهران مجبرة على فتح تحقيق على أعلى المستويات للعثور على الثغرات الاستخباراتية ومعرفة الجاسوس الذي يعمل بمؤسسات الدولة، مشيراً إلى أنه سبق وأُعدم مسؤول في الحرس الثوري لتعاونه مع إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في اغتيال قاسم سليماني.
حدود رد إيران
وتأكيداً لما قاله أبو النور من أن إيران ستكون مجبرة على الرد، ذكرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، نقلاً عن مسؤولين إيرانيين، قولهم إن مرشد إيران علي خامنئي أمر بالرد بشكل مباشر على إسرائيل، وذلك خلال اجتماع طارئ للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني الذي عقد بعد وقت وجيز من اغتيال هنية.
ولفتت الصحيفة إلى أنه من غير الواضح الآن مدى القوة التي سترد بها طهران، وما إذا كانت ستنفذ هجوما متوازناً لتجنب التصعيد، فيما قال المسؤولون الإيرانيون إنه يتم التفكير في هجوم مشترك بطائرات بدون طيار وصواريخ على أهداف عسكرية في محيط تل أبيب وحيفا، لكنهم سيحرصون على تجنب الضربات على أهداف مدنية.
لكن الوعيد الإيراني واللهجة المتشددة حول طبيعة الرد التي أتت على لسان خامنئي أو بزكشيان ليست كافية للجزم بأنه سيكون هناك رد قوي بالفعل، والماضي القريب خير دليل، ففي أبريل/نيسان الماضي كان وعيد طهران على أشده بعد اغتيال محمد رضا زاهدي ممثل الحرس الثوري الإيراني في سوريا ولبنان، لكن جاء الرد استعراضياُ عبر إطلاق مئات المسيرات والصواريخ نحو الأراضي الإسرائيلية أسقط غالبيتها وكان قد تم الإبلاغ مسبقاً بها.
"كل مرة يُقال إنه سيكون هناك رد إيراني قويً ورادع، لكن الواقع يكون غير ذلك"، بتلك العبارة استهل الدكتور محمد اليمني الخبير في العلاقات الدولية تحليله حول سيناريوهات الرد الإيراني، موضحاً أن إسرائيل نفذت كثيراً من الاغتيالات منذ بدء حربها على قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي/تشرين الأول، لكن لم نرى أن طهران قتلت مسؤولاً إسرائيلياً كبيراً أو فجرت منشأة حيوية إسرائيلية.
وأضاف، في تصريحات لوكالة فرات للأنباء (ANF)، أن الأمور تبقى دائماً في إطار قواعد الاشتباك والضربة مقابل الضربة، كما أن طهران عادة ما تستخدم الأمر للترويج الإعلامي لكن في الواقع لا نرى الرد القوي الذي يتم الحديث عنه، معرباً عن قناعته بأن طهران لديها مخاوف شديدة من أنها لو ردت رداً قوياً على تل أبيب فإن الرد سيأتيها أقوى من الأخيرة في المرة القادمة.
مخاوف التصعيد الإقليمي
موقع "أكسيوس" الأمريكي، المعروف بقربه من دوائر الاستخبارات الأمريكية، نقل بدوره عن مسؤولين إسرائيليين قولهم إن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن قلقة من اغتيال هنية في طهران، على نحو "قد يجعل تجنب حرب إقليمية أكثر صعوبة".
ووفق الموقع ذاته، فقد أعرب مسؤولون أمريكيون عن قلقهم من أن يضغط مقتل هنية وكذلك فؤاد شكر رئيس أركان حزب الله اللبناني على إيران والحزب للرد، في وقت قالت هيئة البث العبرية، إن التقديرات في إسرائيل تسري إلى أن الرد على اغتيال هنية متوقع خلال أيام لكن من غير المعروف كيفيته ونطاقه.
حول هذه السيناريوهات وملابسات الواقعة، يقول ماركو مسعد الباحث في العلاقات الدولية بمركز الشرق الأوسط للسياسات بواشنطن، في تصريحات هاتفية لوكالة فرات للأنباء (ANF)، إن عملية الاغتيال سيكون لها عديداً من التداعيات، بعضها يتعلق بالمفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، لأنه لا يتصور أن تقبل حركة حماس بأي مفاوضات بعد اغتيال زعيمها السياسي، ومن ثم فإن المفاوضات ستموت على الأقل في الوقت الحالي.
وأضاف أنه في الوقت ذاته، فإن عملية الاغتيال من شأنها توتير الأجواء بين أمريكا وإيران وأي عمليات تفاوضية كان يضعها الرئيس الإيراني الجديد على أجندته الانتخابية، معتبراً أن المستفيد الأكبر هنا هو رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ومن الناحيتين، إذ أنه بالأساس كان يريد إفساد المفاوضات وإطالة أمد الحرب في ظل تراجع شعبيته، كما أنه كان يريد إفساد أي محاولات للتفاوض بين واشنطن وطهران.
ويلفت إلى أن نتنياهو يريد جر الولايات المتحدة إلى الحرب في الشرق الأوسط، حتى لو اضطر أن يبدأ الحرب بنفسه، وحينها ستجد واشنطن نفسها مجبرة على الانخراط العسكري بشكل أوسع في المنطقة، لكنه يستبعد في الوقت ذاته السيناريوهات التي تقول إن المنطقة باتجاه حرب إقليمية، ويستبعد كذلك التوقعات بشأن رد إيراني كبير.
وأوضح مسعد، وهو هنا يتفق مع ما طرحه اليمني، من أن الرد الإيراني إن حدث سيكون خفيفاً ولحفظ ماء الوجه، مثلما حدث في مرات سابقة، مشيراً إلى أن مسألة التهديدات والوعيد أصبحت أموراً معتادة من قبل طهران بعد أي عملية اغتيال، وكذلك الحال بالنسبة لحزب الله، منوهاً إلى أن الإيرانيين لن يردوا رداً قوياً على اغتيال هنية، لأنه لو كانوا سيفعلون ذلك فكان من باب أولى أن يفعلوه عندما تم اغتيال قادة إيرانيين كبار.
وكان نتنياهو توعد بـ "تصفية الحساب" مع كل من يمسّ إسرائيل، مذكراً بأن بلاده قد وجهت ضربات على 3 جبهات في الأيام الماضية، وقال إن هناك تهديدات من جميع الاتجاهات، وأن تل أبيب مستعدة لأي احتمال.