بعد هروب رئيسه.. هل تقود أزمة مصرف ليبيا المركزي البلاد إلى نفق مظلم

لا تزال معارك تكسير العظام بعد إقالة محافظ بنك ليبيا المركزي مستمرة بين الأجسام الليبية المختلفة، ما بين اقتحام المصرف لإعلان القوة القاهرة في قطاع النفط، وسط ضغوط إقليمية ودولية لحل الأزمة.

أعلن رئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنيفي عزل محافظ البنك المركزي الصديق الكبير من منصبه، وتعيين بديل عنه، ثم اقتحام مقر المصرف وتسليمه إلى لجنة استلام مما أدى لإعلان حكومة حماد القوة القاهرة ووقف تصدير النفط، وهروب الصديق الكبير لخارج البلاد، في أسوأ أزمة تشهدها البلاد منذ معارك طرابلس 2019.

دخلت على خط الأزمة البعثة الأممية في ليبيا للوصول إلى توافق، في الوقت الذي تعاني فيه طرابلس من الظلام بعد انقطاع إمدادات النفط، مما يثير الأسئلة حول أسباب إقالة الكبير والمشكلات القانونية والدستورية حول تجاوز "الرئاسي" لصلاحياته، وتداعيات القرار ومصير المصرف.

الخلاف بين الدبيبة والكبير

تعود بدايات الأزمة إلى انتقاد محافظ المصرف المركزي الليبي، الصديق الكبير، ازدياد إنفاق حكومة "الوحدة" الوطنية المؤقتة، برئاسة عبد الحميد الدبيبة، في إجراء نادر، وأرسل الكبير خطاباً إلى الدبيبة، تناول ازدياد الإنفاق العام بشكل غير مدروس، ورصد نفقات الحكومة من 2021 حتى نهاية 2023، وهي مدة تولي حكومة الدبيبة، والمقدر بـ 420 مليار دينار ليبي.

 كما كشفت صحيفة لوموند الفرنسية عن الخلافات التي سبقت إقالة الصديق الكبير بين رئيس الحكومة الوحدة الوطنية ومحافظ المصرف المركزي، مشيرة إلى أن الكبير رفض الإفراج عن الأموال التي طلبها الدبيبة، مما أدى إلى تأجيج صراع حاد بين الرجلين.

ويقول دكتور محمد الزبيدي استاذ القانون الدولي بجامعة طرابلس الليبية والسياسي الليبي في تصريح خاص لوكالة فرات للأنباء (ANF)، إن الصراعات الليبية كلها حول النفوذ والمصالح، بينما مصالح الوطن والمواطن هي أبعد ما تكون عن المتصدرين المشهد حاليًا، وهو ما حدث في أزمة مصرف ليبيا المركزي.

وأضاف، أن ليبيا تحكم بسلطة الأمر الواقع والمجلس الرئاسي الذي أقال الصديق الكبير هو في الواقع أداة بيد الحكومة ورئيسها عبد الحميد الدبيبة، وعندما حدث خلاف بين الدبيبة والصديق الكبير، حرك الدبيبة المجلس الرئاسي وتجاوز الأخير صلاحياته وأقال الصديق الكبير.

وأشار استاذ القانون الدولي، إلى أن المجلس الرئاسي الليبي لا يمتلك ميليشيا ولا يمتلك القوة لتنفيذ قراره ولا التأييد في الشارع، والدليل على ذلك أن كثير من المناصب عدلها مجلس النواب ولم يتم الأخذ بقراراته، فعلى سبيل المثال الصديق الكبير نفسه تم عزله عام 2017 ولم ينفذ القرار إلا بعد سبع سنوات، وغيرها من القرارات لتعديل المناصب السيادية لم ينفذ منها شيء.

هل تخلت القوى الكبرى عن الصديق الكبير

يرى البعض أن القوى الدولية كان لها الدور الأكبر في إقالة محافظ مصرف ليبيا المركزي بسبب تقاربه مع القائد العام للجيش الليبي المشير خليفة حفتر، حيث مول الكبير مشاريع إعادة الإعمار بعد كارثة درنة تحت إشراف حفتر وسهّل رئيس البرلمان عقيلة صالح إصدار قانون هيئة إعمار ليبيا، مما أغضب واشنطن والغرب.

يقول عز الدين عقيل، رئيس حزب الائتلاف الجمهوري الليبي والمحلل السياسي الليبي في تصريح خاص لوكالة فرات للأنباء(ANF)، إن  الصديق الكبير ظل 14 عام مسيطراً على خزائن ليبيا تحت رعاية واشنطن، ووجود أشخاص كسرت ابواب البنك وتسليمه إلى لجنة تسليم وتسلم هو بأوامر من واشنطن.

وأضاف، أن هناك تيار يرجع عملية الاستغناء عن الصديق الكبير من واشنطن لتقاربه مع الشرق الليبي، مبينًا أن واشنطن فتحت له باب العلاقة مع معسكر الرحمة بقيادة المشير خليفة حفتر وعقلية صالح لكي تتوقف الرجمة عن طباعة أموال تستفاد منها روسيا، وأن تصبح الخزانة الليبية مقسمة بين حكومتين، ولكن معسكر الرجمة استغل الوضع واشترى معدات غير فتاكة أي ورش واليات ومعدات عسكرية وعربات وهي ضرورية لأي جولة قتال قادمة مما أغضب واشنطن.

وأشار "عقيل" إلى، أن هناك رأي تحدث عن نشوب الخلاف بين واشنطن والكبير بعد قانون الميزانية لتقاسم 190 مليار للحكومتين والذي أعطى حكومة أسامة حماد 17 مليار ومعسكر الرجمة 3 مليار، خاصة وأن جزء سيذهب لتمويل الوجود العسكري الروسي، بينما تحدث رأي ثالث عن أن الجفوة نتجت عن اعتراضات الصديق الكبير على موازنة 2024.

وتعددت أسباب معارضة الكبير لمشروع الموازنة الأخير بحسب عقيل، حيث تحفظ على إقرار ميزانية لحكومتين لأنه يؤسس لتقسيم ليبيا، ويقال إنه رفض تمويل الفيلق الأوروبي الذي سيكون على غرار الفيلق الأفريقي التابع لروسيا وطالب القوى الدولية بالحصول على تمويله من الأموال الليبية المجمدة.

بينما يرى "الزبيدي" أن المجتمع الدولي يريد الحالة الهلامية في ليبيا لكي يتم تسجيل أهداف بين القوى الكبرى، لأن واشنطن تشترط لحل الأزمة الليبية إخراج الروس، بينما موسكو تريد تسجيل نقاط للمساومة في أوكرانيا والإيطاليين يرون أن ليبيا من ضمن الإرث التاريخي لهم، والفرنسيين يرون أن ليبيا هي بوابة افريقيا والأتراك لهم قواتهم على الأرض، غير القوى الإقليمية العربية والتي حولت ليبيا ومؤسساتها إلى لعبة بين تلك الدول.

الصراع بين الرئاسي ومجلس النواب

لم يلبث أن نشب الصراع بين المجلس الرئاسي ومجلس النواب على أثر أزمة الصديق الكبير، حيث رأى مجلس النواب أن تعيين محافظ البنك المركزي ليس من اختصاص المجلس الرئاسي وإنما لمجلس النواب بالتشاور مع مجلس الدولة، ونتج عنه إعلان رئيس الحكومة المكلفة من مجلس النواب أسامة حماد حالة القوة القاهرة على قطاع النفط ووقف إنتاج الخام وتصديره.

وأوضح أستاذ القانون الدولي، أن المجلس الرئاسي صمت دهرا ونطق كفرا، لأنه منذ عام 2015 وليبيا تدار من خارج أروقة المجلس الرئاسي ولكنه الآن اكتشف أنه القائد الأعلى ومن يقيل ويعين، وتدخل باختصاصات ليست في الاتفاق السياسي سواء بالصخيرات أو الاتفاقات اللاحقة عليه، حيث نص الاتفاق السياسي والدستور أن المناصب السيادية اختصاص أصيل لمجلس النواب.

ولفت "الزبيدي" إلى أن رئيس المجلس الرئاسي اتخذ رد فعل ثأري من سحب مجلس النواب بعض صلاحياته مثل القائد الأعلى وغيرها لينتقم أو يسترد ما سلب منه ، مبينًا أن الصراع بين "الرئاسي" و"النواب"  له تداعيات أخرى، حيث توجد نية لعقد مجلس لنواب طرابلس بالعاصمة  ممن انشقوا عن مجلس النواب، والآن يوجد مجلسين للدولة بقيادة تكالة والمشري وحكومتين هما حماد والدبيبة، وإذا استمر العناد قد يتحول الصديق الكبير لشرق ليبيا ويحي البنك المركزي الذي كان يرأسه السيد الحبري بالمنطقة الشرقية ويصبح هناك بنكين مركزيين، وربما نصل لحالة الانفصال لشطرين، بسبب معركة كسر العظم الحالية.

وأردف أستاذ القانون الدولي، أن هناك حديث حول مؤتمر سيعقد في لندن عن الحالة الليبية بمشاركة كل الفاعلين الدوليين ويوجه لحل كل المؤسسات الليبية وسيكون المجلس الرئاسي هو رأس حربة المخطط لأن له صلاحيات رئيس دولة وبإمكانه تعطيل المؤسسات التنفيذية والتشريعية وحل مجلسي النواب والدولة والحكومة وإعلان الأحكام العرفية.

التفاهمات الأخيرة

تقود البعثة الأممية في ليبيا مفاوضات بين جميع الأطراف، وهناك تفاهمات بين مجلسي النواب والدولة الليبيين لاتفاق حول أزمة مصرف ليبيا.

وحول التفاهمات الأخيرة، قال "الزبيدي"، إن من حضر هو ممثل على المجلس النواب وممثل عن مجلس الدولة والمجلس الرئاسي صاحب المشكلة والذي اصدر قرار بعزل الصديق الكبير لم يحضر، والاتفاق على التمديد للصديق الكبير ومجلس إدارة جديد وهو ما لن يقبله المجلس الرئاسي والحكومة، مشيرًا إلى أن العناد نتج عنه توقف تصدير النفط والاعتمادات المالية والشهر القادم لن تستطيع البنوك المحلية الوفاء بالتزاماتها، وفد يقود الطرفان البلد لمواجهة عسكرية.

وتطرق أستاذ القانون الدولي للمقترح التركي- المصري القائم على المحاصصة في البنك المركزي وتشكيل مجلس إدارة بعضو من الحكومة والجيش ومجلس النواب والدولة والميليشيات، مبينًا أنه يفتح الباب إلى محاصصة باقي المناصب السيادية بليبيا وجعلها رهن التجاذبات.   

مصير الصديق الكبير وما بعده

يبقى السؤال مطروحًا حول مصير الصديق الكبير وماذا بعده، حيث يقول الزبيدي، أنه لطالما البنك المركزي في طرابلس والدبيبة لا يريد الصديق الكبير والمليشيات تخلت عنه، فأمر عودته صعب، إلا إذا خضع لسلطة الأمر الواقع وقدم الولاء والطاعة، موضحًا أننا في مرحلة المقايضة، حيث سيطلب المجلس الرئاسي من النواب إعادة صلاحياته كقائد أعلى للجيش، ومطالب حكومة الدبيبة لن تتوقف عند حصتها من الميزانية ومراقبة صندوق الإعمار ولكنها من وجهة نظر مجلس النواب مسحوب منها الثقة وغير شرعية وستطلب سحب هذا القرار وإضفاء الشرعية عليها.

وشدد الزبيدي في ختام تصريحاته لوكالة فرات للأنباء(ANF)، أن المقترح الأخير الذي يتحدث عن تولي البنك المصرفي الخارجي مهام المصرف المركزي سيخدم المجتمع الدولي وخاصة الأمريكان والإنجليز لأن المورد الليبي الوحيد هو النفط، وكل ما يباع من نفط يذهب للمصرف الخارجي الذي يرسلها بدوره للمركزي، وفي المقترح الجديد ستبقى إيرادات الدولار بالمصرف الخارجي في نيويورك، وسيقتصر دور المصرف المركزي الليبي على المرتبات ومساعدات الضمان الاجتماعي بالعملة المحلية ليتحول مثل صندوق الزكاة، وهنا ظهرت الوصاية في اسمى معانيها لتصبح ليبيا مثل العراق النفط مقابل الغذاء والآن النفط مقابل المصاريف والتنمية وهم من يتحكمون بالمصرف والليبيين لا حول لهم ولا قوة.

بينما يرى "عقيل"، أن الصديق الكبير أصبح من الماضي وواشنطن قررت فعلا استقدام محافظ جديد ولديها اسمه ويدل على ذلك الصمت التركي وسهولة اقتحام البنك، خاصة وأن الأجسام الليبية يتم توجيهها من جهات خارجية.