مع الانتقال إلى ما يُعرَف بـ “مرحلة ما بعد الحداثة” Post-modernism، تبدو البشرية كحافلةٍ مُسْرِعةٍ نحو “الاغتراب” وتَفَتُّتِ القيمِ أو ما يصطلح عليه علماء الاجتماع بـ “الأنوميا” Anomy، والتي تعني الاضطراب أو القلق الناجم عن انهيار المعايير الاجتماعية.
ومنذ أن تحدث “إيميل دور كايم” David Émile Durkheim عن هذا المصطلح لأول مرة في كتابه “الانتحار” Le Suicide الصادر عام 1897م، توالت الأطروحات التي راحت تُؤَصِّل لكيفية الخروج من هذا النفق المُظلِم، ورُغم وجاهةِ الطرح الذي يقدمه النموذج الديني بين يهودية ومسيحية وإسلام، إلا ان تخلِّي شعوب الشرق الأوسط، باعتبارها مَهْداً لهذه الأديان، قد فَتَحَ الباب على مصراعيه للرؤى التي يقدمها مُنَظِّرُو الغرب، والتي تدور حول مفهوم تَفَرُّدِ الغرب وتَمَيُّزِه كما يذهب صامويل هانتنجتون في كتابه “صدام الحضارات”[i]، إلا أن ارتباط مصادر المعاناة التي تعيشها البشرية في ظل المد الرأسمالي، أو “الرأسمالية المتوحشة”، يجعل من الصعوبة بمكان أن تمثل الأطروحات التي يقدمها مفكروا الغرب ومنظروهم سَبيلاً لتجاوز هذه الاشكاليات، إذ لا يُعْقَل أن تقدم الحضارة الغربية للشرقِ الداء والدواء معاً. وعليه، وانطلاقاً من مبدأ “أهلُ مكةَ أدرى بشعابها”، لا يتصور أن يأتي علاج مشكلات المنطقة من خارجها، وكواحدٍ من أبناء المنطقة، يُقَدِّم المُفكرعبد الله أوجلان طرحاً يضرب بجذوره في عُمْق التاريخ المُنطَلِق من الشرق الأوسط مَبْعَث ميلاد الإنسانية ومهد حضاراتها، وذلك من خلال طرحٍ ثوري يُعرفه أوجلان بـ “تحرير الجنسوية الاجتماعية”.
مصادر الوصول إلى الحقيقة عند أوجلان
يقرأ عبد الله أوجلان الحاضر بمشكلاته في ضوء التاريخ البشري وماضيه السَحيق الذي تكمن فيه الإجابة على أسئلة وإشكاليات الحاضر، غير أن دروب السير في هذا الطريق قد تتعدد بشكلٍ متوازٍ أحياناً، ومتقاطع أحياناً أخرى، بغية الوصول للحقيقة. ويتمثل أول هذه الدروب في الأساطير أو “الميثولوجيا” التي يعتبرها أوجلان أُسلوباً للكشف عن الحقيقة كونها تستند إلى رؤية كونية، حيث كانت الملاحم والأساطير والميثولوجيا تُمَثِّل ذِهْنيةَ الحياةِ الأساسية التي ارتبطت بالمناخ في العصر الحجري الحديث والذي يعرف بـ “العهد النيوليتي” Neolithic (9000 – 4500 سنة قبل الميلاد)، بل وما قبلها فيما يُعرف بـ “العصر الجليدي” (قبل 20 ألف سنة)، كما أنها تُمَثِّل أيضا أسلوباً رئيساً ومهماً، لفهمِ المجموعات البشرية التي عاشت أطولَ فتراتِ حياتها على شكلِ أقاويل. وهو ما يتفق مع احتمالات العديد من الباحثين والعلماء بشأن الأساطير الخاصة المراحل الأولى للبشرية سواء في الألواح الفخارية المبعثرة في معظم متاحف العالم أو في باطن أرض سومر، ودراسة النصوص الأسطورية المتفرقة التي ترصد التسلسل الاسطوري لتسلسل تاريخ العالم[ii].
بعد “الميثولوجيا”، تأتي المقاربةُ الدينيّةُ نظرا لما تنطوي عليه من تأثير ٍعلى الإنسان، على مدار عصورٍ طويلة في تاريخه. فالمقاربة الدينيّة، كركيزةٍ تستند على الكلام المُعزَى إلى الآلهة المتجاوزة لقوى الطبيعة والمجتمع إنما تعد بمثابة غاية الحياة وسبيلاً للوصول إلى الحقيقة.
بعد ذلك يأتي دور “المنهج العلمي”، الذي يرى فيه أوجلان دافعاً لتوجيه الرأسمالية نحو صدارة النظام العالمي. وفي إطار هذا النهج، يتم التمييز بعنايةٍ فائقةٍ بين الذات والموضوع. وهنا تترسخ أهمية معرفة الذات كلبنةٍ وركيزةٍ أساسيةٍ لرحلةِ الوعي بالوجود الكوني الذي ينطلق من التساؤل الأزلي: لماذا؟ حيث ينطلق أوجلان من مفهوم “إدراك الذات”Self-Perception كركيزةٍ شرطية أساسية للانطلاق نحو الوعي بالوجود الكوني. فمعرفة الذات، كما لخَّصها سقراط في مقولة “اعرف نفسك”، تؤكد على أن من لا يعرفون أنفسهم لا يمكنهم أن يتعلموا أو يعرفوا شيئاً[iii]، وهو ما يجعل الفلسفة بمثابة المقاربة الرابعة أو المُتَمِّمَة لمربع دروب الوصول للحقيقة عند عبد الله أوجلان.
المجتمع الطبيعي كمنطلق لتطورٍ البشرية
ينطلق أوجلان في قراءته لأزمات البشرية الراهنة، من حتمية العودة إلى مراحل تَشَكُّلِ الوجود الإنساني، وتفصيل التحولات التي طرأت على البُنى التحتيه والفوقية النظامية التي توثِّقُها الميثولوجيا بدايةً مما يُعرَف بـ “المجتمع الطبيعي”، والذي يُعَرِّفه أوجلان بأنه “نظام الجماعات البشرية، الذي دام مرحلة اجتماعية طويلة تبدأ بانفصال الوجود الإنساني عن فصيلة الثديات الرئيسية البدائية، وتنتهي بظهور المجتمع الهرمي[iv]. حيث تشكلت في هذه المرحلة التنظيمات الاجتماعية في صورةٍ أوليةٍ بدايةً من نمط “الكلان” ثم توسَّعت لتكتسب أبعاداً قائمة على التنوع. وقد تضمن الكلان شكل الأرض الخصبة لولادة المجتمع وذاكرته الأولى ولتطوره مصطلحات الوعي والعقيدة الأولية، وصولا إلى البيئة الطبيعية وقوة المرأة، كما تطور الكلان لاحقا داخل الاشكال المجتمعية، حيث أضحت مصطلحات المساواة والحرية تشكل أسمى القيم. وقد شهدت هذه المرحلة تَشَكُّلَ ملامح الإطار النظري لنظام المجتمع الطبيعي الذي سادت خلاله القيم الاخلاقية بعيدا عن التسَلُّط والحاكمية، بل غابت عنه الأنظمة الهرمية القائمة على العبودية.
ولِفَهمِ هذا المرحلة، كمُنطلقٍ لعُمْقِ التحولات التي مَرَّت بها البشرية وصولاً إلى ما آلت إليه في الوقت الراهن، يرى أوجلان ضرورة فهم “المشاعية” التي تَشَكَّلَ على أساسها المجتمع كشرطٍ لفهمِ المظاهر المجتمعية واستيعابها بما يُعِين على تحليل الفلسفة التي قامت عليها السلطة في المجتمع الهرمي في العصر الراهن[v].
المرأةُ كحجر الزاوية في المجتمع الطبيعي
بخلاف المنظور الرأسمالي الغربي الذي ينظر إلى المرأة في ضوء التمايزات القائمة على الجسد والحالة النفسية، والتي يجسدها علم “اجتماع المرأة”، ينتفض عبدا لله أوجلان على ذلك المنظور الذي يراه قائما على تكريس الهرمية الذكورية السلطوية، والتي تستند على التمييز ضد المرأة لصالح الرجل. وفي حين تُجمع المواقف العلمية أن ما تعانيه المرأة إنما هو من دواعي طبيعتها الجسدية، يرى أوجلان بأن المرأةَ لمالطا لقيت معاملةً قائمة على العبودية المنتظمة، والتي حَصَرَت المرأةَ في زوايا “المعيب أخلاقيا” و”المحظور دينيا”، مع استبعادها من كافة الأنشطة المهمة في المجتمع. لكن ذلك، يخالف “المجتمع الطبيعي” الذي شغلت خلاله المرأة حجر الزاوية، كما ترصده الميثولوجيا بما يؤكد اضطلاعها بدور مركزي في تطوير النظام الأهلي الذي ساد طوال هذه المرحلة، فكانت المرأة مسؤولة عن تأمين طعامها وردائها ومراقبة واقعها المحيط، حتى بَلَغَت غاية الحكمة والقوة مع الزمن، فتطورت خلال هذه المرحلة مصطلحات الوعي والعقيدة، ثم العائلة، القبلية، الأم، فالأخوة والمساواة، والحرية، والتعاضد وغيرها كقيم سامية.
وكما تحمل الإشارات الأركيولوجية التي وصلت إلينا حول العصور الحجرية الوسيطة والحديثة في بلاد الشام، فقد بلغت المرأة مكانة “المرأة القديرة”، بل وصلت مكانة “الإله الأنثى” قبل اكتشاف الزراعة، حيث سادت الآلهة المحلية قبل مجيء الكنعانيين، حيث تشير بعض المصادر، نقلا عن هذه النقوش، أن سكان سوريا الأصليون كانوا يعبدونها، ويرجع ذلك إلى العصر العصر الحجري الوسيط (النيوليتي) (4000 – 8500 ق.م). بل ترصد هذه المصادر ظهور شكلٍ غريبٍ لـ “الألهة الأم” Mother goddess التي عُرفت بـ “الأم الرهيبة” رمز الخصوبة والإبداع، وظهرت أيضاً صورة مُرَكَّبة تحتوى على الأنثى والحيوان والأفعى والشكل الشيطاني الغريب وذلك في منطقة تل الرمد في سوريا وقد شهد هذا العصر ما عرف بـ “الديانة الشامية”[vi]، وفي هذا السياق يرصد عبد الله أوجلان تَشَكُّل النظام المجتمعي “الطبيعي” على محيط المرأة.
غير أنه مع الانتقال لمرحلة الصيد، حيث طرأت الحاجة إلى القوة القتالية التي اضطلع بها الرجل، يرصد أوجلان ظهور ثقافة القتال القائمة على الهيمنة الذكورية في مواجهة المجتمع الطبيعي “الأخلاقي”، وقد تعززت هذه الثقافة من جانب الكهنة الرجال في إطار ما يُعرَف بـ “الديانة الشامانية” Shamanism ، وهي فلسفةٌ تقدم تصوراً خاصاً للإنسان وللعالم يقوم على أساس وجود صلة بين البشر والآلهة وفقاً لـ “ميشال بيران” في كتابه “الشامانية فلسفة للحياة”[vii].
وعلى هذا، يرصد – أيضا – أوجلان ظهور الأنظمة العسكرية القائمة على الحرب، والتي جسدت ظهيراً لتشكل السلطة الهرمية بعيداً عن الثقافة التي تمحورت حول “المرأة الأم”، “الحكيمة” في ظل النظام الطبيعي، الذي قام سلفا على عمليات التعاون في جمع الثمار وانتاجه، بل بدات تنشأ ثقافة الحرب، ومعها تَشَكَّل – أيضا – المجتمع الطبقي القائم على السلطة الأبوية بداية من الألف الرابع قبل الميلاد. وقد أفسح هذا العصر الجديد المجال لظهور الصراعات القبلية المتعاقبة التي تزامن معها ممارسات الإبادة، والتمايز الطبقي، حتى ظهور أول مدينة (قبل الميلاد بـ 3000 عام)، وكانت أشهرها مدينة أوروك التي تضمنتها ملحمة “جلجامش”. كما ظهرت الصراعات بين مجتمع “المرأة الأم” و”المجتمع الأبوي”، والتي جَسَّدتها ملحمة “إينانا”، وهي إحدى آلهة بلاد الرافدين اقديمة التي عبدها السومريون ثم الأكاديون والبابليون والآشوريون تحت اسم “عشتار”، وكان ذلك بين 4000 – 3100 ق.م، وأيضا “أنكي” (وهو إله الماء والحياة وقد حملت شجرته كل الآلهة التي تمثل مظاهر الحياة، ويوصف بأنه إله الأرض)[viii]. وبعبارةٍ أخرى، فإن ثقافة الصيد قد أدَّت إلى تَدَرُّجٍ ثقافي ذات وجهين مختلفين، فبرزت ثقافةُ “الرجل الأسد” من جهة في مقابل نموذج “المرأة البقرة” من جهة أخرى[ix].
الشرق الأوسط منبع قضايا الطبقة والسلطة
عرف الشرق الأوسط أول مُنظمة هرميةً تأسَّسَت في مواجهة مكانةِ المرأة التي ترسَّخَت خلال مرحلة “المجتمع الطبيعي”، وفي هذا يرصد عبد الله أوجلان أول تحالف هرمي يقدمه في صيغة: المُستَبِدِّ الماكر+ الشامان والراهب+ الرجال العجائز الخبراء، حيث يُعَدُّ المهد لكافة التحالفات الهرمية التي تَشَكَّلَت في “ميزوبوتاميا السفلي” أو “بلاد ما بين النهرين” (ما بين أعوام 5000– 3500 ق.م)، وهي نظامٌ منسوجٌ حولَ البيتِ الكبيرِ والأسرةِ الواسعة، وبدايةُ نظامِ السلالة، ويعتبر أوجلان هذا النموذج بمثابة العِلَّةِ التاريخية للشرق الأوسط، إذ تشكل هذا التحالف على أساس السلالة، ثم تحول إلى بؤرة أساسية للسلطة، كما أصبح شكلاً أساسياً للدولة، وهو ما يفسر النزعات العائلية التي تحولت كليا إلى الخلية النواة الرسمية للمجتمعات في الشرق الأوسط، ومن ثَمَّ الحروب التي دارت في فَلَكِ السلطة بهدف إنشاء أو هدم السلالات والعوائل الكبيرة. ولهذا، فقد ظلت مجتمعاتُ الشرقِ الأوسطِ من المجتمعاتِ الإنسانيةِ التي عانت أكثرَ من غيرِها من الأزماتِ والمشاكلِ على مرِّ التاريخ. ولعل في ذلك ما يفسر سقوط المنطقة تاريخيا تحت نيرِ القمعِ والاستغلالِ الساحقِ للمدنيةِ المركزيةِ طيلةَ فترةٍ تُناهِزُ الخمسةَ آلافِ عام. ولَم يُشاهَد هذا الكمُّ من أشكالِ القمعِ والاستغلالِ المكثَّفِ وطويلِ الأمدِ في أيةِ بقعةٍ أخرى من العالَم[x].
لهذا يعتبر أوجلان أن فَهْمَ نظامَ السلالة كتكامل أيديولوجي وبنيوي متداخل، كما أنه يُعَدُّ النموذج البدئ للسلطة والدولة التي تقوم على دعامة الرجل والأولاد، وهكذا تنشأ السلطة والدولة في أحشاء “السلالة” Strainكمصدرٍ للنظم القبلية التي تكرس التفاوت الطبقي. وفي هذا يقول أوجلان: ” لذا، يَكادُ يَكُونُ من المستحيل العثورُ على سلطةٍ أو دولةٍ من دونِ سلالة في مدنيةِ الشرقِ الأوسط”[xi].
رُغم مركزية المدنية الأوروبية كمنبعٍ للسلطة والدولة منذ خمسة قرون، إلا أن تحليل السلطة والدولة في سياق المدنية المركزية المعمرة ما يناهز 5 آلاف سنة يبدو أكثر وجاهة لفهم بنية الدولة في الشرق الأوسط. غير أنه لا يمكن فهم ظاهرة الدولة والسلطة بمعزلٍ عن فهم الركائز التي قامت عليها العائلة كبنيةٍ تحتيةٍ للمجتمع. ولهذا، يرى أوجلان الأسرة باعتبارها انعكاساً للمجتمع الفوقي (أي السلطة)؛ فالرجل هو ممثل السلطة في مجتمع العائلة والمُعَبِّر عنها، والحال نفسه بالنسبة لحالة الاستعباد التي تقع فيها المراة عند الزواج. وبالتالي، يرى أوجلان مؤسسة الزواج ما هي إلا مؤسسة استعبادية ما لم تتوطد مقومات لاحياة المشتركة الديمقراطية الحرة. بجانب ذلك، فإن المشاكل التي تعيشها الأسرة الشرق أوسطية لها من الأهمية ما للمشاكل المعاشة في الدولة منها، فالكبت والقمع والمشاكل الثنائية الاتجاه، تزداد في حدتها فيها، وذلك نتيجة لهيمنة مجتمع الدولة ونظام السلطة الأبوية عليها على مَرِّ التاريخ من جهة، وانعكاسات القوالب الحديثة للحضارة الغربية عليها من الجهة الثانية، التي لا تشكل تركيبة جديدة، بل تخلق معها عقدة كأداء.
وعلى هذا، تفرض حُجةُ أوجلان نفسها بشأن أهمية قراءة واقع إشكاليات الشرق الأوسط في ضوء سيرورتها التاريخية لاسيما وأن الثقافات الشرق أوسطية قامت على هذا النهج منذ ما قبل المجتمعِ الطبقيِّ والدولتيّ، وهو ما تفسره الصياغات الميثولوجيةِ التي كَرَّست حاكمية الرجل، كما يظهر في مَلحَمَةُ الإلهة إينانا، سالفة الذكر، ولهذا يعتبر أوجلان أن تاريخ المدنية في الشرق الأوسط إنما هو تاريخُ دمارِ وإنكارِ البيئةِ والمحيط. ولذلك فإنه يُعَوِّل على الاخلاق كونها تمثل الذاكرة السياسية للمجتمع، بما يعني أن المجتمعات المُنْحَطَّة خُلقياً، أو التي تفتقر إلى الأخلاق، تدل على ضعف ذاكرتها السياسية، ومن ثم فقدان قوتها المؤسساتية والقواعدية التقليدية، وبالتالي يفتقر هذا المجتمع أو ذاك إلى الدفاع الذاتي وإسقاطه إلى حالة ينفتح فيها على شتَّى أشكال الممارسة التحكيمية والاستعمارية. ولذلك، فإن الرسالة الأولى التي تستهدفها الأنظمة التسلطية هي تعرية الأخلاق، فالمجتمع الذي يحيا بأخلاقه لا يمكن أني يزعن بسهولة للسلطة والاستغلال[xii]. وفي سبيل ذلك، يضرب أوجلان للمرأةِ مَثَلاً بالعصفور الذي يظل في القفص والقطة التي تمُوي دائما في قعر بئر كشبه حال المرأة تأسي مجتمع جنسوي إلى أبعد الحدود، إنه مجتمع يقوم على العبودية العميقة، الأمر الذي يثير التساؤل: لم كل هذه العبودية الغائرة؟. وللإجابة على هذا التساؤل يربط أوجلان بين ظاهرة عبودية المرأة وظاهرة السلطة التي تتطلب العبودية. وهنا يخوض أوجلان في عمق هذه الإشكالية من خلال الغوص في المصدر الأول للملكية بداية من وضع المرأة في العائلة التي يتجذر فيها وضع المرأة المستعبدة حتى سادت هذه العبودية في البنية الذهنية والسلوكية للفرد والمجتع بما يُكَرِّس أشكال البِنَى الهرمية والدولتية.
ولهذا، يستعبد أوجلان إمكانية قيام نظام مجتمع حر متوازن وناجح بصورة مثلى بدون تحقيق التواؤم بين الحريات الفردية (على مستوى الأسرة) والجمعية (على مستوى السلطة)، حيث يعتبر أن المجتمع الديمقراطي يمثل الأرضية الأكثر ملائمة لتأمين التناسق والتناغم بين الحريات الفردية والحريات الجمعية. وبعبارة أخرى، فإن المجتمع الديمقراطي هو النسق الاجتماعي الأنسب للموازنة بين الحريات الفردية والجمعية ولتوطيد مفهوم المساواة التي تتخذ من الاختلاف أساسا[xiii]. فالسلطة كظاهرة مجتمعية، تترابط مع غيرها من الظواهر التي تقف في مقدمتها الأسرة، فالمشاكل الاجتماعية لا يمكن حلها بمعزل عن بعضها البعض، بل في إطار متكامل، لهذا يتعين تحليل ثقافة العنف المتجذرة في الحضارات الشرق أوسطية، إذ لا تكاد توجد أي مؤسسة أو ثغرة في الشرق الأوسط إلا ودخلها العنف وحدد إطاره بشكل عام، بل إن العنف قد أضحى يلعب دورا مصيريا في البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية أيضا. ويرجع أوجلان هذا العنف إلى التمايز الطبقي المرتكز إلى فائض الانتاج والقيمة الزائدة، وفي ظل سلطة الدولة بشكل واضح. ففي حين تكتم الأسرة أنفاس أفرادها لصالح من يهيمن عليها، نجد أن السلطة في المجتمع تمارس العنف على ما دونها من محكومين، وبين هذا وذاك يحتل العنف مكانة كبيرة خلال العملية التعليمية الأمر الذي يفضي إلى انتشار الأمراض الاجتماعية[xiv]. ولهذا، يخلص أوجلان إلى أن المجتمعاتِ السلطويةَ هي مجتمعاتٌ تسودها الهيمنةُ الذكورية. أما فيما يتعلق بالعلاقة مع المحكومين، فتسودها علاقةُ “الراعي– القطيع”، التي طالما ذكَرَتها الكتبُ المقدسةُ أيضاً[xv].
الجنسوية الاجتماعية
في ظِلِّ هَيمنةِ “المدنية” وتغول “الرأسمالية”، يبرُز دور القانون على حساب الأخلاق، وهو ما يضعه أوجلان في إطار ما يسمى “الجنسويةِ الاجتماعية الذكورية”، التي هي محصلة لتراكم الانقلابات المتجذرة على “المجتمع الطبيعي” و”الأخلاقي” لصالح السلطة الهرمية التي كرَّسَتها لاحقا “الحداثة الرأسمالية”، وربيبتها “الدولة القومية”. وهنا فإن اشتقاق مصطلح الجنسوية إنما ينطوي على مقاربة تضمن نقل واقع الخلل الكامن في المستويات الفردية على مستوى الأسرة (بين الرجل والمرأة)، إلى مستوى المجتمع، حيث صياغة العلاقات المشكلة للسلطة على غرار تلك التي تتشكل منها البِنَى الأولية والتحتية للمجتمع (الأسرة). حيث لا تعد الجنسوية مُجَرَّد وظيفة بيولوجية، بل هي أيديولوجية تنتج السلطة والدولة القومية، ولهذا يعتبر أوجلان أن الجنسانية الاجتماعية إنما هي “حشٌ اجتماعي” كما الرأسمالية. والجنسوية المجتمعية ليست مصطلحا محدودا بالسلطة الكائنة في العلاقة بين الجنسين، بل تقوم على سلطوية مستفحلة في كافة مستويات المجتمع، وتظهر في سلطة الدولة التي تبلغ أقصى حدودها مع الحداثة، وعليه ترتبط الجنسوية الاجتماعية بالدولة القومية باعتبارها مصدرا لأكبر قضية اجتماعية. ويكمن العماد الرئيس لهذه الايديولوجية في جعل الرجل مريضاً بالسلطة والإبقاء على المرأة تتخبط في مشاعر الاغتصاب[xvi].
تحرير الجنسوية الاجتماعية
لمواجهة الجنسوية الاجتماعية ومآسيها، وللعودة إلى المجتمع الطبيعي، بمضمونه وليس بشكله، يضع أوجلان المرأة كحجر الزاوية لإطلاقة ثورة ثقافية، تقوم على اكتساب الهوية التحررية الراديكالية. فالمرأة، التي تعني الحياة (Jin) في اللغة الكردية، تتوفر لديها القدرة على رؤية الحقيقة في جميع الجوانب، وهو ما يهدم الفلسفة القائمة على اعتبارها “ناقصة عقل”، أو تلك التي تغذيها التمايزات الجسدية القائمة على الضعف. وبالتالي، يتعين أن تتسلح المرأة بأيديولوجيتها التحررية المتجاوزة لنطاق الفاميني بمصدره الرأسمالي، الذي يدور حول جسد المرأة. فالحركات التحررية، ورغم جهودها على مدار العقود الأخيرة، إلا أنها تتمركز حول المفاهيم الجنسوية الرأسمالية بشأن المرأة التي حولتها إلى أداة جنسية، ووضعها في إطار سلعي.
وعلى الجانب الآخر، يطالب أوجلان المرأة بأن تدرك جيداً كيفية تعزيز قدرتها الذهنية والتحررية إزاء الذهنية السلطوية الذكورية المهينمة، ثم يعقب ذلك الانتقال نحو التحرر السياسي للانتصار على البنى الدولتية والهرمية، والسعي نحو تشكيل كيانات لا تهدف إلى الدولة، بل كيانات ديمقراطية تهدف إلى للحرية وبناء المجتمع الأيكولوجي[xvii]. كما يطالب أوجلان حركة المرأة بالانخراط في تأسيس الكيانات السياسية الخارجة على نطاق الدولة والمناهضة للهرمية السلطوية لتحطيم الاستبداد السياسي، وهو ما يمكن أن يتحقق من خلال الحركة في إطار تنظيمات المجتمع المدني.
المجتمع الأيكولوجي
لا ينفصل تحرير الجنسوية الاجتماعية وردُّ الاعتبار لوضع المرأة في إطار المجتمع الأخلاقي، عَمَّا يُعرَف بـ “المجتمع الأيكولوجي”، أو “المجتمع البيئي” عند عبد الله أوجالان، حيث يرصد قدرًا متسعاً من التدني الذي لحق بمكانة الطبيعة وبيئتها وثقافتها، في ظل المدنية التي استهجنت واستحقرت كل ما له صلة بـ “المجتمع الطبيعي”، بداية من المرأة والأخلاق وصولا إلى الزراعة والبيئة بمعناها المناخي Climate حتى صار ذلك النهج أحد مفردات أيديولوجية الجنسوية الاجتماعية، وهو ما يعزز إمكانية القول بأن المدنية ورغم مزاعمها الحقوقية والقيمية، فما هي إلا عدوا لدودا للبشرية من خلال التوسع في فرض الأنماط القيمية الاستهلاكية، التي تقوم على استغلال موارد الشعوب الخاضعة لتبعية الغرب، كما تذهب تحليلات ماركس وبولاني وبروديل، وصولاً إلى سمير أمين، والتي ترى أنه لا يمكن فهم الرأسمالية العالمية وتطورها إلا في إطار نظام عالمي متكامل واحد تحكمه علاقة التبعية التي يقودها الغرب ومنظومته الرأسمالية وحداثته المزعومة، في إطار بـ “المركزية الأوروبية” التي يرسم ملامحها سمير أمين في معادلة “المركز والأطراف”[xviii]. وفي إطار هذه الشمولية، يفترض أوجلان ضرورة الانتقال و العبور من المجتمع التسلطي المنقطع عن الحضارة والطبيعة والبيئة نحو “المجتمع الإشتراكي”.
كما لا يفصل أوجلان بين ذلك المجتمع الأيكولوجي وإحداث ثورة زراعية تعيد الاعتبار إلى الطبيعة، لاسيما وأن الشرق الأوسط يتضمن منطقة هي الأكثر عطاءً كما أثبتت الخبرة التاريخية التي ترجع للفترة ما 10 آلاف إلى 5 آلاف قبل الميلاد، في نطاق “الهلال الخصيب”، وهي منطقة متنوعة في ثرواتها الزراعية والحيوانية والمائية (نهري دجلة والفرات) بما يجعلها الأكثر نموذجية فيما يتصل بالشروط المناخية لإحداث ثورة زراعية تضمن التوازن الأيكولوجي، وتعيد ثقافة المنطقة إلى مضمون المجتمع الطبيعي الذي صورته الميثولوجيا قبل آلاف السنوات[xix].
الخاتمة
لقد تَشَكَّلت رؤيةُ عبد الله أوجلان في ضوء قراءته للسرد التاريخي الذي استند فيه على الميثولوجيا كمصدرٍ رئيس للحقيقة، بجانب مصادرٍ أخرى كالدين والعلم والفلسفة، لذلك فقد ارتبطت الصورةُ الكُلِّيةُ لأزمة الحداثة كما يُقَدِّمُها عبد الله أوجلان، بالانتقال التدريجي والانقلاب الجذري على المجتمع الطبيعي المتمحور حول المرأة، والذي سادته قيم التعاون والتعاضد بسبب طبيعة الأنشطة التي قام عليها هذا المجتمع، لصالح البيئة الجديدة القائمة على السُلطة الهرمية التي سادت خلالها ثقافة القتال وتقييد وضع المرأة والتَغَوُّل على البيئة والجور عليها لصالح منطق الربح والاستغلال، حيث تراجعت الأخلاق لصالح القانون الذي يمكن التعامل معه كأداة لخدمة مصالح الأقوى على حساب الضعيف.
ولتحرير الجنسوية الاجتماعية يشترط أوجلان ضرورة العودة إلى قيم المجتمع الطبيعي ومشاعيته في صورته الإشتراكية، والانتفاضة ضد جور المدنية والرأسمالية، حيث ينسج علاقة متشابكة بين ضرورة رد الاعتبار لوضع المرأة في الأسرة كبنية تحتية، وإعادة النظر في بنية الفلسفة التي تقوم عليها السلطة على المستوى الفوقي (الدولة والمجتمع) مع رد اعتبار موازٍ للطبيعة لخلق علاقة متوازنة مع البيئة (المجتمع الأركيولوجي)، تمهيداً للعودة إلى المجتمع الطبيعي الديمقراطي التشاركي الذي عبَّرت عنه أطروحة “الأمة الديمقراطية” التي يقدمها عبد الله أوجلان في إطار “منظومة المجتمع الكردستاني”.
تحليل د. طه علي أحمد
المصدر: مركز آتون للدراسات