لا يمكننا أن نفسر تنوع العلاقات وتعددها بين المتناقضين وعلى مختلف المستويات بالتزامن مع الصراعات الحالية في الشرق الأوسط والعالم بأنها ملامح أو بين نظامين أو قطبين عالميين، ولكن الصحيح هو بين مراكز القوى ضمن النظام العالمي الواحد، وعليه لا بد من قراءة صحيحة لحقيقة التفاعلات والصراعات وحالة أزمة النظام العالمي الرأسمالي الذي يفسح المجالات لجملة العلاقات الظاهرة المبهمة.
يحاول العديد من المراقبين والباحثين السياسيين والمهتمين بالنظم السياسية والاجتماعية وبالتفاعلات الجديدة في المشهد الإقليمي والعالمي، محاولة تفسير وفهم حاجة وماهية العلاقات المتنوعة الظاهرة، التي تتم صياغتها في الشرق الأوسط والعالم على نحو جديد مختلف عن السابق بين مختلف الدول والسلطات والقوى، وكذلك الأسباب الكامنة وراء تزايد التصعيد والاشتباك بين مراكز القوة الإقليمية والعالمية، والنتائج الممكنة أن تنتج عن هذا السياقات التنافسية ضمن النظام الرأسمالي العالمي المهيمن وتأثيراتها على المجتمعات والشعوب وقواها الديمقراطية ومستقبلها.
لو تمعنا النظر بشكل دقيق، في مختلف القوى التي تتصارع على النفوذ والسلطة والهيمنة في الشرق الأوسط والعالم، سنلاحظ أنه لا يمكننا أن نرى اختلافات جوهرية بمعنى التعدد القطبي للنظام العالمي في البعد الذهني والفكري والسلوكي بين هذه القوى الساعية للهيمنة وتوسيع دائرة تأثيرها ونفوذها، فالاحتكار والتربح ورغبة الربح الأعظمي والحرب والهيمنة السلطوية لأبعد الحدود على الشعوب والمجتمعات والدول الأخرى الموجودة هو الدافع وراء جملة التناقضات والصراعات والحروب التي تحرق الأخضر واليابس وتدمر المجتمعات والشعوب وتعمل على تغيير ديموغرافيتها وهندستها.
وبشكل أوضح، نستطيع القول أن مراكز القوى ومراكز الجغرافيات التاريخية المهمة ومعظمها ممثلاً بالدول الإقليمية والسلطات الموجودة، هي التي لا تريد أن تقبل بمعطيات وموجبات التغيير الذي يتم سد الطريق أمامه ليكون لصالح كل دولة أو سلطة أو مركز يريد أن يوسع نفوذه وتأثيره، علماً أن التغيير هو سنة الحياة ولا يمكن أن تستمر الحياة أو بناها المادية والمعنوية دون وجود الجديد أو تطوير الموجود، ولكن الإشكالية تكمن في ماهية التغيير وطبيعية ومقداره وتأثيره على مصالح القوى السائدة المهيمنة ومقاومة ورفض النظم والقوى والمراكز السائدة لجدلية التغيير ودوامه.
بالطبع أمريكا وبريطانيا، على الرغم من أنهما يشكلان آخر مركزين للنظام الليبرالي العالمي وما زالا كذلك، إلا أنهما ليسا بالقوة السابقة، رغم أنهما الأقوى وما زالا يشكلان المستوى الاستراتيجي الأول للنظام الليبرالي العالمي، كما أن الاتحاد الأوروبي والصين وروسيا والهند، ما زال ينقصهم الكثير للوصول للمستوى الاستراتيجي الأول في النظام العالمي رغم محاولة بعضهم السير للوصول لمركز استراتيجي بجانب أمريكا وبريطانيا، لأنهم يتبعون نفس الحداثة وسلوكية الحياة والرؤية المتشابهة في الاقتصاد والسياسية والفضاء التقني والتعليم والأمن والديمقراطية التمثيلية البرلمانية التوظيفية لقوى السلطة والهيمنة.
أما إيران وتركيا وإسرائيل والسعودية، وهم قوى الهيمنة الإقليمية على مستوى الشرق الأوسط كما يحلو للبعض تسميتهم، فهم أدوات بمشاريعهم الخاصة بالمجمل (الشيعة القومية- العثمانية الإخوانية-الإبراهيمية-نيوم) وهم دول وسلطات وعقليات سلطوية متصارعة، يتم حمايتهم وحماية سلطاتهم الحالية من قبل المراكز العالمية وتوظيفهم وترويضهم وتجنيدهم في صراعات مراكز قوى الهيمنة على المستوى الأول، وليس لهم استقلالية في الرؤية والإرادة والعمل على الغالب، رغم أنهم يدعون غير ذلك أحياناً كثيرة ورغم امتلاكهم للعديد من مصادر القوى.
الجديد أن الساحات الرمادية أصبحت غالبة في العلاقات الرسمية بين الدول، وأن الأسلوب الاستخباراتي وتعمقه في العلاقات والساحة الدبلوماسية وفي كافة الهياكل والمؤسسات والمجالات المهمة مع التقنيات الحديثة في الرصد والكشف والتوقع والمعلومة، أصبح ملحوظاً وبات يشكل الرافعة الأساسية في صياغة العلاقات بين الدول ومراكز المنطقة والعالم، فلم يعد هناك احتكار في نسج العلاقات بين المتناقضين وحتى المتصارعين ونوعية هذه العلاقات، فالاقتصاد والأمن أصبحا من أهم أبعاد التفاعل والتلاقي بين المراكز وكذلك الصراع والتناقض، مع العلم أن المحدد والموجه الرئيسي للبعدين الاقتصادي والأمني هو البعد الفكري والرؤية وبرنامجها التطبيقي والمنظومة الفكرية الموجودة والذهنية التي تحدد سلوك الإنسان والحياة عامة ومنها الاقتصادي والأمني، ربما دول الشرق الأوسط وسلطاتهم وتياراتهم السياسية والثقافية وبسبب طبيعة ومحدودية آفاقهم ونظرتهم الضيقة يعتقدون أن بإمكانهم أن يكونوا فاعلين على مستوى المنطقة بتنوع علاقاتهم مع مراكز القوى العالمية أو بانضمامهم إلى تجمعات اقتصادية وسياسية وعسكرية على مستوى المنطقة والعالم، ولكن الحقيقة أن قوى ودول وشعوب الشرق الأوسط لا يمكنها أن تكون ذات تأثير وفعالية إذا لم يتم تجاوز الدور الوظيفي والتبعية الفكرية والسلوكية وكذلك الأنظمة الأحادية الاحتكارية، وهذا غير ممكن سوى بالرجوع إلى قيم ومبادئ التعايش والتضامن والتكامل وتعزيزها بين كل الشعوب والمجتمعات ودول المنطقة، مع أهمية حل القضايا العالقة والاشكاليات التي نتجت بسبب غياب الديمقراطية والتدخلات الخارجية ورسمها للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وفق مصالحها وأولوياتها في المنطقة، وكذلك لا بد من البدء بمسار التحول الديمقراطي في دول المنطقة ومؤسساتها الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية والاجتماعية التي أصبحت بعيدة عن المجتمع والشعب، فلابد أن يكون للمجتمع دوره وساحته الحرة والديمقراطية وللمرأة والشباب دورهما الريادي في كافة مناحي الحياة وتطويرها وتحولها الديمقراطي، فلا يمكن أن يكون هناك حالة من الاستقرار والأمن والسلام في ظل النظام العالمي الواحد الحالي سوى ببناء الإنسان وتنظيم مجتمعاتنا وتوعيتها وصقل إرادتها المجتمعية والفردية لتكون قادرة لمواجهة التحديات الناتجة عن صراعات وتناقضات المراكز في النظام العالمي الليبرالي الذي يعبر عن حالة الأزمة في بنية النظام الرأسمالي العالمي مع تشعبها وتفرعها لدول الشرق الأوسط التي تحاول التغطية على تناقضاتها بعلاقات تكتيكية ومرحلية لا تفيد بشيء سوى بإطالة عمر بعض السلطات والحكام.