قوات كوريا الشمالية في روسيا.. حسابات متداخلة تعزز الاستقطاب العالمي
تأخذ الأزمة الأوكرانية يوماً تلو الآخر أبعاداً أكثر تعقيداً، تبلغ ذروتها هذه الأيام مع استعانة روسيا بقوات من كوريا الشمالية، الأمر الذي سيكون له ردود فعل من قبل حلفاء كييف.
تأخذ الأزمة الأوكرانية يوماً تلو الآخر أبعاداً أكثر تعقيداً، تبلغ ذروتها هذه الأيام مع استعانة روسيا بقوات من كوريا الشمالية، الأمر الذي سيكون له ردود فعل من قبل حلفاء كييف.
منذ اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية في 24 فبراير/شباط 2022 والأزمة تأخذ منحنيات مختلفة لكنها أكثر تعقيداً وتعبر عن مرحلة جديدة خطيرة في هذا العالم، وتشد خيط الاستقطاب الدولي على نحو يعيد إلى الأذهان سيناريوهات تقترب وتبتعد من سيناريوهات ما قبل الحربين العالميتين، وتمتزج كذلك بأجواء الحرب الباردة بين القطبين السوفيتي السابق والولايات المتحدة الأمريكية.
فأمام تحالف أوروبي غربي أمريكي كبير خلف أوكرانيا، تتحرك روسيا خلال الفترة الماضية في أكثر من مسار لبناء خريطة حلفاء تُحد ولو قليلاً من قوة تحالف الخصوم، سواء من خلال خطوات اقتصادية سياسية (مثل توسيع تجمع بريكس)، أو عسكرية كالاتفاق الموقع مع كوريا الشمالية والاستعانة بقوات منها حتى لو كانت رمزية، وهي الخطوة التي أزعجت كييف بشكل كبير والمعسكر الداعم لها.
ماذا حدث؟
خلال الأسبوعين الماضيين، تحدثت الولايات المتحدة بشكل صريح ومباشر عن استقدام روسيا قوات من كوريا الشمالية، وقدرت العدد بأنه نحو 10 آلاف عنصر، منهم عدد ليس بالكبير ينتشر في مدينة كورسيك الحدودية الروسية التي تتعرض لضربات أوكرانية مدعومة من الغرب بشكل أحرج موسكو بعض الشيء، في المقابل دعا الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلنيسكي إلى اتخاذ إجراءات ضد بيونج يانج، فيما أكدت الأخيرة أنها إلى جانب الروس حتى النصر دون الحديث عن إرسال قوات.
وقد أخذ عدد من أعضاء مجلس الأمن الدولي موقف الولايات المتحدة، معتبرين أنه تحرك من شأنه تقويض الأمن في شبه الجزيرة الكورية ومنطقتي المحيط الهادئ والهندي، إلا أن روسيا في المقابل نفت بشكل قاطع ما أعلنته واشنطن وحلفاؤها، واعتبرت أن تلك المزاعم تأتي في "إطار منطق ملتوي" كون الأمريكيين والقوى المساندة لأوكرانيا هي التي شرعت منذ البداية في إرسالة عناصر عسكرية وأسلحة بشكل كثيف إلى الأوكرانيين.
كل له حساباته
يقول الدكتور خليل عزيمة الباحث والأكاديمي المختص بالشأن الأوكراني، في تصريحات هاتفية لوكالة فرات للأنباء (ANF)، إن إرسال قوات كورية شمالية يمثل تحولاً في مسار الحرب، حيث يُظهر اعتماد روسيا على الدعم الخارجي لتعويض خسائرها البشرية المتزايدة، وخاصة بعد عدم جدوى فعلية من تجنيد مرتزقة من الشرق الأوسط وأفريقيا، وكذلك عدم قدرتها على تجنيد المزيد من الشباب الروس خشية التأثير على الرأي العام الروسي، على حد قوله، وبالتالي يتجنب بوتين حملة تعبئة أخرى في روسيا، على حد قوله.
ويلفت عزيمة إلى أنه يضاف إلى ذلك التوغل الأوكراني في كورسك الروسية وارباك القوات الروسية التي لم تستطع نقل قوات كافية من الشرق والجنوب الشرقي الأوكراني لمواجهة التوغل الأوكراني، لذلك يحتاج الجيش الروسي الآن إلى نقل وحدات المشاة من الجبهة الجنوبية، وهو لا يريد إضعاف هذه الجبهة.
ويتحدث الأكاديمي عن دوافع بيونج يانج من هذا التحرك العسكري، إذ يقول إنها ترى في إرسال قوات إلى روسيا فرصة لزيادة قدراتها العسكرية التقنية واكتساب مهارات إدارة الحرب الحديثة، ويمكن أن تعدل بشكل كبير سلوك وأولويات كوريا الشمالية، فمشاركة الجنود الكوريين في الحرب ستوفر"خبرة قتالية حقيقية"، كما أنها تسعى من خلال هذا التدخل للحصول على تمويل عسكري وتكنولوجي يساعدها في تعزيز برنامجها النووي والصناعات العسكرية الأخرى.
ويلفت عزيمة إلى إشكالية أخرى، وهي أنه في حين أن التحالف الروسي الكوري الشمالي يزداد قوة، فإن أوكرانيا تواجه أزمة دعم خطيرة من حلفائها الغربيين سواء في توريد الأسلحة أو في رؤية تقديم المزيد من المساعدات إلى كييف، وخاصة على خلفية الانتخابات الأمريكية والحرب في الشرق الأوسط، ومن ثم قد يصبح ظهور الجيش الكوري الشمالي تحدياً آخر لأوكرانيا في الحرب الروسية.
حافة الاستقطاب
والعلاقات بين روسيا وكوريا الشمالية تتسم بقدر كبير من التعقيد، إذ تشمل عوامل تاريخية وسياسية وأمنية واقتصادية تساهم في تقارب البلدين، خاصة في العقود الأخيرة، ويمكن تتبع جذور هذه العلاقة من فترة الحرب الباردة، حيث كانت بيونج يانج جزءاً من الكتلة الشيوعية المدعومة من الاتحاد السوفيتي، لكن هذا التحالف شهد تبايناً عبر الزمن.
إلا أنه في السنوات الأخيرة، تعززت العلاقات بين روسيا وكوريا الشمالية مجدداً، مدفوعة بمصالح استراتيجية مشتركة في مواجهة العزلة الدولية المتزايدة، فكل من موسكو وبيونج يانج يخضعان لعقوبات اقتصادية ودبلوماسية من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، ما يجعلهما يبحثان عن فرص للتعاون الاقتصادي والتجاري.
وأتت العقوبات على روسيا نتيجة للتدخل العسكري في أوكرانيا، وكذلك ضم شبه جزيرة القرم، بينما كوريا الشمالية تتعرض للعقوبات نتيجة برامجها النووية والصاروخية، وقد جعلت هذه الظروف الطرفين الكوري والروسي ينظران إلى بعضهما البعض كحليف استراتيجي، خاصة وأن الكوريين يريدون موازنة الدعم الأمريكي لدول مثل اليابان وكوريا الجنوبية، كما أن موسكو تريد أن يكون له تأثيراً في ديناميات الصراع بمنطقة شبه الجزيرة الكورية.
يقول الدكتور نبيل رشوان الخبير في الشأن الروسي، في تصريحات لوكالة فرات للأنباء (ANF)، إن القوات الكورية الشمالية التي تم إرسالها أو الاستعانة بها ليست بالعدد الذي يمكن أن يؤثر في مجال المعارك بين موسكو وكييف، فهي مجرد أعداد قليلة من الناحية العسكرية، وتأتي في إطار اتفاق موقع بين الطرفين.
ويستدرك رشوان قائلاً إن الأخطر في الأمر أنه يعبر عن حالة الاستقطاب الكبيرة التي وصلت إليها أطراف الأزمة الأوكرانية، موضحاً أنه إذا كانت روسيا استعانت بقوات من كوريا الشمالية حتى لو رمزية، فإن هذا يدفع أيضاً حلفاء كييف لإرسال قوات، مدللاً على ذلك بإعلان فرنسا أنها سترسل قوات لها وإن كانت قالت إنها لتدريب القوات الأوكرانية، كما أن حلف الناتو يرسل هو الآخر خبراء عسكريين.
وبسؤال عما إذا كان هذا يعني إعادة سيناريو مماثل لاجواء الحرب الباردة، أجاب الخبير في الشأن الروسي أننا لسنا في حرب باردة وإنما ساخنة، فالحرب العسكرية قائمة بالفعل، ولكن ما أقصده أن ساحة المواجهة تتسع وتنتقل إلى مناطق أخرى أكثر خطورة، يجري التعبير عنها بعملية الاستقطاب الجارية، فكل طرف منخرط في هذه الصراع يسعى إلى جذب قوى دولية أخرى مساندة له ويستعين بقوات خارجية، معتبراً أن هذا يؤكد أن الحرب لا يزال أمدها طويلاً.
وتشير تقارير إلى وجود تعاون عسكري بين روسيا وكوريا الشمالية، خاصة في مجالات مثل تبادل المعلومات الاستخباراتية والتكنولوجيا العسكرية، ورغم أن هذا التعاون غير واضح بشكل كامل بسبب سرية الأنشطة العسكرية، إلا أنه من المعروف أن موسكو دعمت تقنيات بيونج يانج العسكرية في الماضي.
وبصفة عامة ينظر مراقبون إلى العلاقة بين روسيا وكوريا الشمالية كتعبير عن تحالف متجدد تحركه الضرورات الاستراتيجية والجيوسياسية، حيث تسعى كل من موسكو وبيونج يانج إلى حماية مصالحهما في مواجهة العقوبات الدولية والضغوط الغربية، ومن المتوقع أن يستمر هذا التعاون في ظل الظروف الدولية الحالية، مع احتمال حدوث مزيد من التقارب في المجالات العسكرية والاقتصادية، لا سيما في ظل تعمق عزلة البلدين على الساحة العالمية.