وتشهد ليبيا انقساما حادا منذ سنوات أسفر عن وجود حكومتين، الأولى في الشرق يرأسها أسامة حماد، والثانية في الغرب بقيادة عبدالحميد الدبيبة، وانبثقت الأخيرة عن اتفاقيات سياسية رعتها الأمم المتحدة، وسط حالة من تضارب الأهداف وتناقض الوسائل بين الفرقاء حيث يرفض الدبيبة تسليم السلطة إلا بعد إجراء الاستحقاقات الدستورية، ورغم المساعي الإقليمية والدولية إلا أن إجراء تلك الاستحقاقات يجب أن تسبقها مصالحة وتوافق بين مختلف الفصائل السياسية وهو ما يواجه تحديات كبيرة بسبب اختلاف الأجندات بين القوى السياسية ومحاولتها فرض منطق المحاصصة للاستئثار بمزيد من السلطة.
وتعاني ليبيا من أزمة اقتصادية حادة إثر تراجع إنتاج النفط إلى 640 ألف برميل منذ العام 2014 نتيجة الصراعات السياسة، ما نتج عنه ظهور العديد من المشاكل وأبرزها أزمة سعر صرف الريال الليبي التي خلقت ضغوطا كبيرة على الحكومة والفصائل لإنهاء ملف المصالحة والمضي قدما نحو عملية سياسية تفرض حالة الاستقرار من جديد.
انقسام داخلي وتعثر
استمرت حالة التناحر على الأراضي الليبية وسط انقسام واستقطاب بين جبهتي الشرق والغرب، ومحاولات داخلية وإقليمية لإنهاء ملف المصالحة الذي يواجه العديد من التحديات فعقب قمة برازافيل الكونغولية في 7 فبراير الماضي، أعلنت الأطراف المختلفة عن عقد مؤتمر المصالحة في 28 أبريل الماضي بمدينة سرت، بقيادة محمد المنفي رئيس المجلس الرئاسي إلا أن المؤتمر لم ينعقد إثر تراجع رئيس المجلس عن تنفيذ مطالب القوى السياسية بضم قتلى وجرحي قوات الجيش إلى هيئة الشهداء، إلى جانب تقاعس المجلس الرئاسي عن تشكيل المفوضية الوطنية العليا بعد صدور قرار بالإجماع على تأسيسها قبل ثلاث سنوات وسط غياب الثقل للوسطاء المتداخلين في الملف.
محمد شوبار المحلل السياسي والباحث في الشأن الليبي يرى إن الاتحاد الإفريقي لعب دورا مهما خلال الآونة الأخيرة في ملف المصالحة الليبية حيث أجرى وفد من الاتحاد زيارة إلى العاصمة الليبية منتصف الشهر الماضي وعقد الوفد عدة اجتماعات مع الأطراف المعنية لإتمام المصالحة التي تواجه العديد من المعوقات وسط ترحيب من مختلف الأطراف بإنهاء الملف شريطة خلق حالة من التوافق حول الرؤى المختلفة، إلا أن زيارة الوفد أسفرت عن تأجيل التوقيع على الميثاق الخاص بالمصالحة إلى الشهر الثاني من العام المقبل.
وعقد محمد ولد الشيخ الغزواني رئيس الاتحاد الإفريقي لقاء مع رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي الذي يلعب دور الوسيط بين الأطراف المتصارعة أعقبه اجتماعا مع عبدالحميد الدبيبة رئيس الحكومة وأبدى الأخير رغبته في انهاء الملف وإجراء انتخابات لتنتهي حالة الصراع على الأراضي الليبية
أن زيارة الاتحاد الأفريقي بهدف حلحلة الأزمة السياسية الليبية المتعثرة، وذلك من خلال توحيد الأطراف الليبية وتقريب وجهات النظر بين الأطراف المتنازعة؛ للتمكن من إجراء حوار ليبي بمشاركة جميع الأطراف لعقد مؤتمر “المُصالحة الوطنية الليبية” الذي تعطل بسبب تزايد الخلافات السياسية بين الشركاء، ممثلين في السلطة التنفيذية بطرابلس والمجلس الأعلى للدولة، والخصوم الممثلين في جبهتي غرب ليبيا وشرقها، والحد من إضاعة الوقت في الفترات الانتقالية؛ لتمكين ليبيا من عقد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المتعثرة منذ عام 2021.
التحديات الراهنة أمام إتمام المصالحة
الدكتور أحمد العبود مستشار القيادة العامة للجيش الليبي الوطني رفض التعليق على ما يثار بشأن التدخلات الخارجية من قبل القوى الإقليمية والدولية التي خلقت حالة من الفوضى على الأراضي الليبية نتج عنها صراعات لازالت قائمة حتى اللحظة فما بين التدخل التركي والحرص المصري على استقرار الأوضاع على حدودها الغربية، فضلا عن نفوذ الاتحاد الأوروبي والبيت الأبيض والكرملين، زاد الملف تعقيدا، أضف إلى ذلك التحركات الفرنسية والإيطالية الهادفة لاستقطاب القوى السياسية وفرض أجندات خارجية تتعارض مع المصلحة الوطنية، ما نتج عنه تحول بعض القوى السياسية في ليبيا إلى أدوات في يد القوى الساعية إلى استمرار الوضع المتردي على الصعيدين الأمني والسياسي ضمن خطط تحقيق مصالحها.
دُفعت الإدارة الأمريكية إلى خلق موضع قدم لها في الغرب الليبي بعد أن نجح الرئيس الروسي بوتين في تدشين تحالف سياسي وعسكري مع خليفة حفتر قائد الجيش الليبي تزامنا مع محاولات بكين في استقطاب أكثر من طرف سياسي لتنفيذ خططها الرامية إلى الاستئثار بالملف النفطي والسيطرة على الثروات التعدينية وخاصة ملف الغاز تزامنا مع دعم المجموعات المسلحة بالأسلحة من قبل القوى الدولية التي تشتعل بينها المنافسة على الأراضي الليبية وهو ما خلق حالة من الانفلات وتردي الوضع الأمني بسبب استمرار العمليات المسلحة في غرب ليبيا وشرقها.
اتفاق على ضرورة إنهاء المصالحة دون تحركات واقعية
عبدالله اللافي، عضو المجلس الرئاسي والمسؤول عن ملف المصالحة، يرى ان هناك ضرورة لخلق اليات توافقية تؤسس لبناء ليبيا المنشودة، منبها عبر حسابه الخاص بموقع التواصل الاجتماعي فيس بوك بأن مؤتمر المصالحة يجب أن يتم إنجازه محليا، لافتا إلى انعقاد المؤتمر في الخارج سيكون محل نقد وعدم توافق بين الليبيين، وأثنى اللافي على دور الاتحاد الإفريقي وبعثة الأمم المتحدة لدعم ليبيا في ملف المصالحة مشددا على ضرورة خلق حالة توافق محلي على الصعيد الليبي، فيما أشاد الصديق حفتر نجل قائد القيادة العامة للجيش، في مؤتمر صحفي، بكل جهود الوساطة سواء من الاتحاد الأوروبي أو الاتحاد الإفريقي، معتبرا أن الوصول إلى اتفاق شامل ضرورة لتحقيق الاستقرار، وكشف عن توجهه قريبا لدعوة الفرقاء لاجتماعات تمهيدية لمناقشة الحلافات في الرؤى والتوصل على توافق.
منذ سنوات لم يتمكن الاتحاد الأفريقي من جمع كافة الأطراف الرئيسية على طاولة الحوار، وخاصة ممثلي القيادة العامة للجيش الليبي، وممثلي المجموعات المسلحة في غرب ليبيا، فضلاً عن غياب رؤية واضحة للاتحاد، كما لا يمتلك الاتحاد وسائل للضغط تساعده علي جبر جميع الأطراف الليبية المتنازعة على التفاوض لتسوية الأزمة، إضافة إلى عدم قدرة الاتحاد علي منع تدخل الأطراف الخارجية عن التدخل في الشؤون الداخلية للبلاد، لذلك لابد وأن يلعب الاتحاد الأفريقي دور أكثر فاعلية في عملية المُصالحة الوطنية، ولا يقتصر دوره على عقد الاجتماعات البروتوكولية واستضافة بعض الشخصيات؛ لكي يتمكن من إتمام مؤتمر المُصالحة بحضور كافة الأطراف.
إن عقد مؤتمر المُصالحة الوطنية الذي يمثل ضرورة لاستكمال الشرعية وإجراء الاستحقاقات الدستورية يتطلب جلوس الفرقاء على طاولة الحوار للوصول إلى اتفاق شامل، تزامنا مع الاستعانة بالمجتمع الدولي والمؤسسات الأممية لممارسة ضغوط على القوى الدولية لمنع تدخلها في الشأن الليبي الداخلي، وهو ما يتطلب وجود إرادة سياسية للكل الفصائل والمؤسسات المسؤولة داخل ليبيا لخلق حالة من توحيد الرؤى ودرء الصراعات ووضع خطوط عامة عريضة تكون محل اتفاق من قبل الجميع تمهيدا للانتقال الديمقراطي.