فرض الأنظمة السلطوية الأحادية، خلقَ حالة الفوضى وعدم الاستقرار.
ذهبت القوى المركزية المنتصرة في النظام العالمي، أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى والثانية ولتشكيل المشهد الإقليمي وفق مصالحها و أولوياتها وأهدافها، بتقسيم المنطقة وشعوبها، وبفرض الأنظمة السلطوية الأحادية على شعوب وبلدان الشرق الأوسط، مع عدم مراعاة حالة التنوع والتعدد الغني الموجود من القوميات والديانات والمذاهب، مما خلق حالة فوضى وعدم استقرار واحياناً هدن مؤقتة، عززت المعادلات الصفرية السلطوية، نتيجة الميول المطلقة والسلوكيات الفاشية و الإلغائية والانكارية التي أدت إلى حالات الإبادة وعمليات التطهير العرقي والتغيير الديموغرافي وهندسة المجتمعات والأمم وتصاعد الصراعات وحروب السلطات ضد المجتمعات والشعوب الأصلية لاصطناع أمم دولتية نمطية متجانسة على حساب التعدد والتنوع الموجود مقسماً ومجزأً بذلك حالة التكامل الثقافي والاجتماعي التي كانت سائدة كتقاليد ديمقراطية وموروث حضاري للمنطقة وشعوبها.
تعمق الأزمة في بنية الأنظمة الفكرية وسلوكها مسّ بالثوابت الإنسانية والوطنية.
وفي العقد الأخير، وخاصة في بعض الدول التي تمتاز بتنوعها التكويني والثقافي والاجتماعي والتاريخي بوجود المكونات والتكوينات فيها والتي تم فرض وتعزيز حالة اللون الواحد والنظم القومية (الأثنية أو الدينية) العنصرية عليها، شاهدنا تفجر الأوضاع وانهيار ما تم تسميتها بالدولة القومية ومؤسساتها أجهزتها و فقدانها ثقلها وعلاقاتها وسيطرتها رغم القمع والقبضة الأمنية الشديدة على كامل جغرافيتها التي كانت تتحكم بها بشكل مطلق، وذلك كنتيجة لتراكم الفشل والفساد وتزايد المشاكل والقضايا العالقة دون وجود حلول منطقية وتعمق حالة الأزمة في بنية هذه الأنظمة الفكرية وذهنيتها وفي أدائها وسلوكياتها ومؤسساتها وأجهزتها التي تمتاز بالعقم والابتعاد عن مصالح الشعوب والمجتمعات واحتياجاتهم، علاوة على حالة التبعية للخارج وفقدان الثقة بالمجتمع والمواطن وغياب الديمقراطية وتدخل القوى الإقليمية والخارجية في دول المنطقة، ومع الأزمة، تحول كافة إمكانات الدولة ومؤسساتها وأجهزتها إلى أدوات للصراع السلطوي السياسي والعسكري، مما أدى إلى انعكاس هذا الصراع بآثار مدمرة على البلدان والمنطقة في مختلف المستويات، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأمنياً، بيد أن هذا الخطر لم يتوقف عند حد تدهور أوضاع البلاد والعباد بل تجاوز ذلك إلى حد المساس بالثوابت الإنسانية والوطنية استهدافاً لكرامة الإنسان و حريته وحياته ولوحدة التراب نفسها والوحدة الوطنية الديمقراطية والحالة التكاملية.
لإدارة التنوع والتعدد في بلدان الشرق الأوسط، لابد من حلول ديمقراطية ونظم لامركزية.
وبعد حوالي ١٢ سنة من عمر الأزمة والتحركات الشعبية في عدد من البلدان كسوريا واليمن وليبيا والسودان والبحرين وتونس ولبنان وقبلها بعشرات السنين بالعراق، وتركيا وإيران واستمرارها حتى اليوم، نجد أن استمرار حالة الفوضى والتوتر وانتشار الإرهاب والصراعات والتدخلات هي السائدة مع غياب أفق الحل لأسباب عديدة، منها ما يتعلق بالفواعل الإقليمية والخارجية ومشاريعهم التوسعية والتقسيمية ومنها ما يتعلق بالفواعل المعارضة أو الأدوات الداخلية والقوى التي تتصارع إما بالوكالة أو نتيجة حملها لنفس مشروع السلطات والدولة ذات اللون الواحد والتي تريد إجراء التغيير فيها، وعليه يبقى التقسيم الفعلي للنفوذ ومناطق السيطرة والتحكم لكل طرف أو قوى داخلية وخارجية احتلالية هو الموجود والمتحكم والذي يتعزز مع الأيام، لأجل حل هذه الأوضاع الموجودة في هذه الدول وإنهاء حالة الاقتتال واللا حل ولتحقيق ما تريده شعوب المنطقة من الحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة والتنمية، لابد من البحث عن حلول واقعية قابلة للتطبيق والتنفيذ وتراعي قيم وثقافة المنطقة التكاملية وتقاليدها الديمقراطية وحالة التنوع والتعدد القومي والديني والمذهبي فيها، وهنا لابد من أن نطرح حلول ديمقراطية ونظم لامركزية، تنهي الحروب وتعزز انتماء جميع المكونات للبلد وتحافظ على وحدة وسيادة هذه البلدان وتحقق التعايش المشترك والأخوة بين الشعوب، لا أن يطغى لون على آخر مهما كان العدد ونقاط القوة التي يمتلكها كل طرف، فالحياة الحرة والديمقراطية حق لكل إنسان ومجتمع ضمن بلده وعلى أرضه.
لإدارة الشعوب والمجتمعات والدول التي تتميز بتنوع مكوناتها وثقافاتها، لابد من توفر نظم ديمقراطية تراعي هذه الخصوصيات وحالة الاختلاف هذه، وقد أثبتت المئة السنة الأخيرة مع وجود الكم الهائل من المشاكل والقضايا وحالة الحرب وعدم الاستقرار أن النظم القومية ببعديها الأثني والديني وثقافة اللون الواحد والفرض بالإكراه والإقصاء، لا يفيد نفعاً ولا يتناسب معنا كشعوب الشرق الأوسط، بل يبقي النار تحت الرماد رغم كل محاولات هذه الدول والنظم القومية العنصرية و الفاشية من إخفاء الحقيقة وطمس ملامح التنوع وتصفية الهويات واللغات الأخرى الأصيلة.
البحث ضمن المجتمع وبناء الإنسان ووعيه وذهنيته التشاركية وإرادته الحرة المستقلة.
إننا لانبحث هنا عن إعادة فكرة الشيوعية الكلاسيكية وما فعله لينين وستالين، أو نسخ تجربة الولايات والمقاطعات الأمريكية أو السويسرية ولا نبحث في إعادة دولة المدينة المنورة لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام رغم أهميتها، ولا نريد إعادة حكم السلالات والعائلات والعشائر أو نسخ وتقليد التجارب الأوروبية، ولا تكرار تجربة روسيا وأوكرانيا ولا تجربة الصين وتايوان أو تجربة جنوب السودان أو تجربة إقليم كردستان العراق أو تجربة المغرب مع الأمازيغ أو تجربة الإمارات العربية المتحدة ولا نبحث في نظم الحكم الذاتي أو الفيدرالية أو الإدارة المحلية رغم أهميتها في المراحل الانتقالية. لكن ما نبحثه ونحاول الوصول حوله ونرصده هو البحث عن الحلول ضمن المجتمع والإنسان والثقافة، وبناء الفهم والوعي الجمعي والشخصي والذهنية التشاركية المجتمعية الديمقراطية والإرادة الحرة والمستقلة في التعايش المشترك والأخوة الحقيقة القائمة على الاحترام والاعتراف المتبادل والتعاون والتضامن والندية بين الاختلافات والتكوينات وليس فرض لون على لون أو محاولة تصفيته أو تطبيق عمليات الانصهار والذوبان القسرية التي تمت تجربتها وتطبيقها في دول المنطقة في القرن الأخير، كما في تركيا وإيران وسوريا والعراق وغيرهم من دول المنطقة التي تحكم ثقافة اللون الواحد فيه والتي مازلنا نعاني من تداعياتها ونتائجها الكارثية.
اللامركزية الديمقراطية، تعزز الجبهة الداخلية أمام التحديات الخارجية ويحفظ حق كل مجتمع في إدارة وحماية نفسه في إطار وحدة اتحادية وتكاملية متينة للبلد.
إن نظم اللامركزية متعددة وكثيرة، ومنها السياسية والإدارية والاقتصادية والأمنية وغيرها، ولكن ما نحاول البحث فيه هو نظام اللامركزية الديمقراطية، المتضمن للأبعاد السياسية والإدارية والاقتصادية والأمنية والقانونية والدبلوماسية المجتمعية الديمقراطية والمستند لتعزيز السلطات المحلية وإيجاد مساحة حرة وديمقراطية للمكونات والمجتمعات والشعوب للتعبير والتنظيم والعمل أو بالأصح بناء وتمكين الإدارات الذاتية الديمقراطية للمكونات والتكوينات الاجتماعية في هذه البلدان بأبعادها الاجتماعية والجغرافية وليست بالأبعاد العرقية أو الطائفية أو المناطقية، وذلك بريادة المرأة الحرة والشباب الواعي والمنظم أصحاب التغيير الحقيقيين، بما يضمن الحقوق الطبيعية لكل إنسان و مجتمع وشعب موجود ويعيش على أرضه التاريخية، وذلك بالتوافق والتعاون والتشارك بين كل المكونات والثقافات المختلفة الموجودة في إطار عقد اجتماعي توافقي أو دستور ديمقراطي يحفظ حق كل مجتمع في إدارة وحماية نفسه في إطار وحدة اتحادية وتكاملية متينة للبلد، الأمر الذي يسهم، في تقوية التماسك الوطني والمجتمعي وتعزيز آفاقه على قاعدة صون التنوع والاعتداد به في إطار الاتحاد والتكامل والوحدة الديمقراطية، على عكس بعض الاتهامات الفارغة بالتقسيم والتبعية من قوى التقسيم والتبعية القومية والدينية نفسها، ، وبالتالي تعزيز الانتماء و الجبهة الداخلية لبلدان المنطقة أمام أية تدخلات خارجية أو محاولات التقسيم أو مشاريع التوسع والهيمنة للقوى الإقليمية والعالمية.
تستطيع اللامركزية الديمقراطية، من تجاوز للأزمة وحالة التقسيم الفعلية وتحقيق الوحدة والتكامل من جديد.
من الواضح أن الموضوع ليس سهلاً والتحديات ستكون كبيرة ولكن يجب تجاوزها والتغلب عليها، والوارد أن تقوم القوى السلطوية و الدولتية والإلغائية الإنكارية كالقوموية والإسلاموية والذكورية والتي تمثل أدوات الاحتكار الرأسمالي العالمي ومشاريع الهيمنة الخارجية للتقسيم والهيمنة والنهب، بكيل الاتهامات وإلصاق التهم وبرفض هذه المشاريع اللامركزية والحلول الديمقراطية رغم أهميتها وسرعة تنفيذها وفائدتها للناس في الأقاليم وتخفيف العبء على المركز، ورغم قدرة قيام نظم اللامركزية الديمقراطية بجمع المشتت الحالي وتوحيد البلدان المقسمة فعلياً مرة أخرى والتي تطرحها القوى المجتمعية وقوى الحرية والديمقراطية، لتجاوز الأزمة وبناء الحل. بالتأكيد، ستحاول قوى السلطة والدولة في الإصرار على المركزية الشديدة ودولة القومية واللون الواحد والدفاع عنها لأخر رمق بسبب رؤيتها الضيقة وثقافتها الأحادية ملتحفة بطابع وحجج القدسية والشرف والوطنية وزوال الدولة، للإبقاء على منافعها الشخصية والفئوية والطبقية والقومية الواحدة ووجودها في السلطة، كما يفعلها غالبية الأحزاب والتنظيمات والهياكل السياسية السلطوية بميولهم اليمينية واليسارية والتي تشكلت تحت تأثير الفكر والذهنية الاستشراقية للهيمنة الغربية الأوروبية والتي في الأساس تتحمل المسؤولية الكبرى عن تدهور الأوضاع وتعقد الأمور ووصولها لحالة الغليان والانفجار والاقتتال والتصحر وانتشار الإرهاب والتشرد، وهنا تكمن المشكلة، ولذلك على القوى المجتمعية وقوى الحل وحتى قوى الدولة أن تأخذ اللامركزية الديمقراطية بعين الاعتبار كأهم الحلول والمشاريع التي تستطيع عبرها وبها تجاوز الأزمة وحل القضايا العالقة وتحقيق التعايش المشترك والحفاظ على وحدة البلدان وسيادتها وسلامتها والتي تدور حولها شبح التقسيم واستمرار تدخل القوى الخارجية والإقليمية ومشاريعهم التوسعية ودعهم للإرهاب فيها، كما هي واقع التدخلات التركية في سوريا وليبيا والعراق وغيرهم، فاللامركزية الديمقراطية هي حل للقضايا العالقة وتجاوز للأزمة وإنهاء لحالة التقسيم الفعلية وهي تحقيق للوحدة والتكامل من جديد على أسس وقواعد ديمقراطية ومتينة.
وعليه، من واجب كل القوى المجتمعية والديمقراطية والوطنية في هذه البلدان طرح وتبني مشروع اللامركزية الديمقراطية وتجاوز الأنظمة الأحادية والمركزية الشديدة والوصول لصيغ توافق مشتركة بين كافة الشعوب والمجتمعات وجميع مكونات دول المنطقة ولحلول سياسية تأخذ التغيرات والوقائع الحاصلة والموجودة بعين الاعتبار من أجل بحثها و فهمها ومعالجتها، وخاصة التجارب اللامركزية الفعلية بحكم حاجة الناس والركون لها كحاجة طبيعية ومؤثرة وناجحة لخدمة المجتمع وحمايته وإدارته والمحافظة عبرها على الثوابت الإنسانية والوطنية من الكرامة ووحدة البلد وسيادته، كمشروع الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا الفريد والناجح رغم كل التحديات والعوائق من القوى السلطوية و الدولتية الداخلية والإقليمية والخارجية، وإلا سنكون أمام تحديات كبيرة وحالات تقسيم جديدة لبلدان الشرق الأوسط وتعزيز لتواجد القوى المحتلة واذرعها الداخلية العملية وحالات الهيمنة والنهب العالمي.