وكانت حكومة السوداني وقعت مؤخرا اتفاقا أمنيا مع تركيا، وقيل وقتها في الداخل العراقي إنه يضع جدولا زمنيا لخروج قوات الاحتلال التركي من بعض المناطق خاصة في شمال العراق أو جنوب كردستان، إلا أن دائرة الاتصال بالرئاسة التركية سرعان ما نفت ذلك، بل وأكدت أنه سيكون هناك مراكز أمنية تركية داخل العراق وسيكون هناك تعاونا أكبر بين البلدين في مجال التدريب والاستشارات الأمنية.
وقد أثار هذا الأمر غضب قوى الإطار التنسيقي (تكتل سياسي شيعي مقرب من إيران تشكل عام 2021) إلى جانب الحشد الشعبي (فصائل مسلحة) التي أكدت رفضها وجود هذه المراكز الأمنية التي تعتبر بمثابة استسلام عراقي لأنقرة، داعين إلى ضرورة انسحاب القوات التركية من الأراضي العراقية تماما واحترام السيادة الوطنية، لا سيما في ظل الضربات التركية المتواصلة على بعض مناطق كردستان والتي أوقعت العديد من الضحايا.
وقد وصلت الخلافات فيما يبدو إلى درجة خطيرة حول هذا الملف وعدد آخر من القضايا على نحو يهدد بتصدع الإطار وكذلك تفتح الطريق أمام مسارات صعبة بينه وبين السوداني، الأمر الذي استدعى تدخل إيران التي أوفدت إسماعيل قاآني قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني لرأب هذا الصدع وتهدئة الأمور، لا سيما أن هذه الخلافات لا تأتي في وقت مناسب مع تصاعد التوترات بين طهران ووكلائها وإسرائيل على مدار الأشهر الماضية.
إخلال تركي
حول موقف الإطار التسيقي، يقول المحلل السياسي العراقي محمد علي الحكيم، في تصريحات لوكالة فرات للأنباء (ANF)، إن الإطار التنسيقي رفض الاتفاقية الأمنية بسبب عدم التزام الطرف التركي بالبنود الموقعة بين بغداد وأنقرة، مشيرا أنه لهذا السبب تسعى كذلك بعض الأطراف داخل الإطار التتسيقي إلى إلغاء هذه الاتفاقية في ظل تحول البلاد إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، حيث أن هناك قوى أخرى لا تريد إلغائها لما تمتلكه من علاقات متميزة مع الأتراك.
وشدد "الحكيم" على أن تركيا ينبغي عليها مراعاة حقوق الجوار، والالتزام بالاتفاقات بين البلدين وسحب قواتها من كل العراق، لافتا إلى أنه بعد ذلك الصحيح أن يكون الاعتماد على بغداد في منع أي اعتداء على الأراضي التركية ينطلق من داخل العراق من قبل بعض الأطراف، وفقا له.
كما يؤكد المحلل السياسي العراقي أيضا أنه يجب على حكومة إقليم كردستان العراق التنسيق مع الحكومة الاتحادية، لاتخاذ موقف موحد يضع حدا للأطماع التركية، لأن أنقرة في الحقيقة تجاوزت كل الأعراف الدولية ولم تنفذ البنود الموقعة والاتفاقيات، مشددا على ضرورة أن يكون هناك موقفا حقيقيا من قبل العراق جراء العدوان التركي المستمر وتوغل أنقرة لعشرات الكيلومترات داخل الأراضي العراقية.
وانتقد "الحكيم" مواقف الحكومات العراقية المتعاقية من هذه الاعتداءات التركية على سيادة العراق إذ وصف مواقفها بـ"الخجولة لأبعد درجة"، مؤكدا أنه كان ينبغي أن يكون هناك موقفا شجاعا وصارما بالضد من الحكومات التركية التي تجاوزت كل الأعراف الدولية.
وأشار إلى أن بغداد لديها العديد من أوراق الضغط التي أبرزها قطع العلاقات التجارية مع الجانب التركي التي تتجاوز 19 مليار دولار، وإمكانية رفع دعوى في مجلس الأمن الدولي وإن لم يكن هناك موقف ينبغي الذهاب إلى محكمة العدل الدولية، وكذلك إمكانية قطع تدفق النفط عبر معبر جيهان التركي، مشيرا إلى أنه رغم كل الخيارات فمواقف الحكومة خجولة لأبعد درجة وقد يخرج الشارع العراقي مستقبلا ضد سكوت الحكومات على هذه التجاوزات التركية.
وحسب مصادر عدة فإن قوى الإطار التنسيقي دعت إلى ضرورة وضع جدول زمني لانسحاب القوات التركية من الأراضي العراقية، معتبرين أن هذه الاتفاقية الأمنية تعرض البلاد لمخاطر كبيرة، كما شددوا على ضرورة خضوع عناصر الجيش التركي للولاية القضائية العراقية إلى حين الانسحاب، كما حذروا من خطورة تحول هذه الاتفاقية إلى غطاء للتجاوزات التركية.
ومكافحة الإرهاب هي "الشماعة" التي تلقي عليها تركيا دوافعها لأعمالها الاحتلالية سواء في شمال العراق أو شمال سوريا وخاصة ضد أبناء الشعب الكردي، كما أن اتهامات الإرهاب تحولت إلى أداة قاسية يبد نظام أردوغان لمطاردة الكرد الذين يريدون العيش والتمتع بالحقوق مثل غيرهم من مواطني الدولة التركية.
هل لإيران يد؟
هناك وجهة نظر ترى أن رفض الإطار التنسيقي هذه الاتفاقية الأمنية أحد أوجه صراع النفوذ والتمدد بين إيران وتركيا، فمعروف قوة العلاقات التي تربط بين قوى الإطار وطهران، والأخيرة بدورها لن تترك الساحة مفتوحة لأنقرة، لا سيما أن الأتراك ربما يعبرون بشكل أو بآخر عن النفوذ الأمريكي المناوئ للتواجد الإيراني.
هل الأمر يمكن أن يكون هكذا؟ هذا ما يجيب عليه الكاتب الصحفي المصري أسامة الدليل مسؤول القسم العربي والدولي بجريدة الأهرام، في تصريحات هاتفية لوكالة فرات للأنباء (ANF)، إذ استبعد فكرة أن يكون موقف الإطار التتسيقي العراقي مبنيا على مجرد أن الأمر يأتي في إطار المناوئات بين النفوذين الإيراني والتركي في العراق بقدر ما أن السبب يعود إلى رفض الوجود التركي داخل الأراضي العراقية.
وأوضح "الدليل" أنه قد جرى استدعاء قوات تركية بدون إذن من الدولة العراقية، معتبرا أن هذه "مسألة واضحة" بأن بغداد لم تستدع القوات العسكرية التركية إلى الشمال وطوال الوقت هناك انتهاك للسيادة العراقية، ومن هنا فإن منطق الاتفاق الأمني يفترض أنه جاء من أجل وضع نهاية لهذا الوجود العسكري التركي.
ويقول الكاتب الصحفي المصري إن الأتراك يستندون إلى المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة الذي يسمح لجيوش الدول بالخروج إلى حدود دول أخرى من أجل مواجهة خطر داهم وخطر وجودي، وهذا ما لم ينطبق على الحالة العراقية إذ أن التدخل التركي توسع وتنتابه شبهة أطماع في الإقليم الشمالي في إطار أنه جزء من ترتيبات نهاية العمل بمعاهدة لوزان المبرمة عام 1923.
وفي ختام تصريحاته لوكالة فرات، يؤكد "الدليل" مجددا أن موقف الإطار التنسيقي الرافض لهذه الاتفاقية يأتي في إطار الرغبة في الحفاظ على السيادة الوطنية في المقام الأول، لكن ربط الأمر بالعلاقات بين طهران وأنقرة فإن هذا به مغالطة، مشيرا إلى أنه لو كان الجانب الإيراني جزءا من هذه الاعتراضات لتم تسوية الأمر بين الإيرانيين والأتراك مباشرة، مؤكدا أن التدخل التركي في العراق أصبح سافرا.
وربما تكون إيران بالمناسبة صاحبة مصلحة في مثل هذه الاتفاقية، خاصة أنها بالأساس تستهدف مواجهة أصحاب الرؤى التحررية من الشعب الكردي في شمال العراق، وهؤلاء هم العدو المشترك لكل من طهران وأنقرة، وقد زاد التنسيق المشترك بينهما في هذا الملف بشدة خلال الفترة الأخيرة خاصة في مواجهة تجربة الإدارة الذاتية بمناطق شمال وشرق سوريا.