"الموت كان أرحم بنا".. شهادات موجعة لمهجري عفرين النازحين من الشهباء

معاناة لا تنتهي، وبطش لا يتوقف، وانتهاكات جسيمة ترقى إلى جرائم حرب وإبادة، وبين هجرة أولى وثانية وربما ثالثة، هكذا يُنكّل بمهجري عفرين على يد مرتزقة الاحتلال التركي.

وعلى مدار سبع سنوات كان مهجروا عفرين يقضون أيامهم في الشهباء، بين حزن وألم وأمل، حزن على ما لاقوه في منطقتهم الأصلية من جرائم وقهر وظلم على يد احتلال تركي غاشم وأعوانه المرتزقة، وألم مما يتعرضون له في موقعم الجديد، من حصار وقصف بين الفينة والأخرى، لكنهم رغم كل ذلك ظلوا يتمسكون بأمل في لحظة ينقشع فيها الظلم، فيعودون إلى موطنهم.
إلا أن الأمل بالعودة لا يزال طريداً، ويبتعد أكثر، مع شن الاحتلال التركي والمرتزقة عملية واسعة النطاق ضدهم، تزامنت مع سيطرة قوات هيئة تحرير الشام على دمشق، فتضاءلت الخيارات أمامهم؛ فإما الموت أو النزوح، وحتى الخيار الثاني ذاقوا خلاله ما لا يمكن أن يتحمله أحد، لدرجة أن بعضهم تمنى لو أطلق الرصاص على نفسه أو انتحر، حسب شهادات رصدتها وكالة فرات للأنباء (ANF). 

إبادة تحت إشراف تركي

"مخطط إبادة جماعية تحت إشراف تركي"، بتلك العبارة استهل الصحفي إدريس حنان شهادته بشأن ما جرى لمهجري عفرين في الشهباء، ويقول: "كنا في الشهباء منذ عام 2018، نتعرض للقصف والحصار من وقت لآخر، وطوال  سنوات سبع كنا نحلم بالعودة إلى عفرين"، مستدركاً: "لكن الأتراك ومرتزقتهم نفذوا بداية الشهر الجاري عملية كبيرة، فلم يتركوا أمامنا خياراً إلا النزوح والهجرة". 

وأضاف، في تصريحات هاتفية لوكالة فرات للأنباء (ANF)، أن من خطط لتك العمليات استخبارات دولة الاحتلال التركي، بالتعاون مع مرتزقته في المناطق المحتلة، وهي عفرين وأعزاز والباب، وكان هجوماً واسع النطاق، حاصروا به الشهباء بشكل كامل، وهنا وجدت آلاف الأسر من مهجري عفرين نفسها أمام إبادة جماعية "قولاً واحداً".
هنا يتوقف إدريس حنان عند نوعية وطبيعة الهجمات، فيقول إنها كانت تعكس حالة من الإصرار التام على إبادة هذا الشعب، ويستدل على موقفه بما ورد من عبارات إجرامية في بيانات ومنشورات هؤلاء عبر منصات التواصل الاجتماعي، مشيراً إلى أن هذا تزامن مع دخول هيئة تحرير الشام إلى حلب، فهاجرت الأسر.

هجرة وراء هجرة

ويلفت إلى أنه بالهجرة من الشهباء فإن أسراً أصحبت أمام هجرتها الثالثة، فهناك من فروا من الأحياء الكردية في حلب إلى عفرين، ثم من عفرين إلى الشهباء، ثم من الأخيرة الآن، بعد أن تم قطع كافة أشكال المساعدات والإمداد عنهم، فاضطروا إلى الخروج من الشهباء في شكل قوافل، بعد تدخل من الإدارة الذاتية لحماية المهجرين من مجازر المرتزقة.
ويلفت إدريس حنان إلى أنه خلال حركته كان يصادف بعض الجثث المحروقة، أو سيارات عليها آثار دماء من كانوا بداخلها بعد إطلاق النار عليهم، ويقول إن الرصاص كان يطلق باتجاه الجميع لإخافتهم، لافتاً إلى أنه شخصياً كان مستهدفاً بالقتل، لدرجة أن المرتزقة قالوا إن الصحفي إدريس حنان قتل ظناً منهم بحدوث ذلك.
ويقول حنان إن هؤلاء المرتزقة يبدو كان لديهم قائمة من الأسماء لاعتقال أصحابها أو قتلهم، ولهذا تم اعتقال الكثيرين والتعدي عليهم، مضيفاً: "لقد روت أمامنا من بعض الأصدقاء قصصاً عجيبة عن أعمال التنكيل التي طالت المهجرين، والتي تمت تحت إشراف مباشر من النظام التركي".

الموت كان الخيار الأسهل

الصحفي محمد شيخو يروي بدوره وجهاَ آخر لتلك الجريمة، فيقول إن الحقيقة المؤلمة، التي لربما لا حبر الأقلام تكفها ولا ملئ صفحات تعبر عن معاناتها هي حقيقة أن "شعبناً ذاق مرارة الحياة بكافه أشكالها، إنها حقيقة مؤلمة لا أعلم من أين أبدأ، أبدأ من صراخ أم على ابنيها؟، أم أبدأ من صراخ ابن على فقدان أمه؟ أم من ظلام الليل الذي لم ينتهي بشروق شمسها؟".
ويضيف شيخو، في اتصال هاتفي لوكالة فرات للأنباء (ANF)، أن الضجيج والصراخ يملأ جميع الفراغات في ذاكرته، إلى درجة أنه وغيره لربما فضلوا الموت على الحياة، فهذا الخيار كان الطريق الأسهل للهروب من تلك الحياة الصعبة والمعاناة، متردداً في خطواته بين الانتحار أو الموت بأيدي الظالمين.

ويقول محمد شيخو إنه مما لا شك في أن عشرات الآلاف من الأهالي في لحظتها نزحوا إلى مصير مجهول، وفي تلك اللحظة لا يعلمون إن  كان الموت قد أتاهم، أم انهم ذاهبون إليه؟، مؤكداً أن "هذه حقيقة النزوح، وحقيقة المعاناة، عندما يرى الإنسان في قرار إطلاق الر صاص على جبينه حتى يفقد حياته الطريق الأسهل للخلاص من مرارة الحياة، إلى جانب عشرات الآف المتمنين للموت بدلاً من إذلال أنفسهم تحت الأيادي الظالمة".
ثم يسرد شيخو تفاصيل أكثر، فيقول إنه في يوم 2 ديسمبر/كانون الأول، بدأ عشرات الألاف من الأهالي بالنزوح سيراً على الأقدام، لا يفكرون بالتعب، إنما فقط كانت نواياهم الخلاص من مصيرهم المجهول؛ لكن حتى هذا السير كان معاناة وحدها، معاناة حين ترى الأم حاملة طفلها، والعاجزة على كرسيها المتحرك في ذاك البرد القارص، لا تدفيهم إلا دموع أعينهم".

جثث في كل مكان

ويضيف أنه إلى جانب هذا، فقد ازدادت معاناتهم أكثر عندما يرون الجثث ملقاة على طرفي الطريق، الأمر الذي دل على ذهنية هؤلاء المجرمين، وإيصالهم حقيقة حقدهم وكرههم تجاه هذا الشعب، كما لو كانوا يقولون للنازحين إن مصيركم سيكون مثل تلك الجثث.
ويقول شيخو إنه إذا كان ما سبق معاناة، فإن المعاناة تتضاعف مرة أخرى، عندما يمر النازحون بين هؤلاء المجرمين، فكانت أبشع بما يتلقونه من شتائم وإهانات، مع رفعهم شعارات الذئاب الرمادية (إشارة باليدين تعبر عن التطرف القومي التركي) تجاه هذا الشعب، الذي لا يطلب من الحياة شيئاً غير العيش بحرية وكرامة، فهي حقيقة مؤلمة لشعب ولوطن حرموا من كافة الحقوق، بينما أحل لهم الموت بكل الطرق!.

بين المطرقة والسندان

وكالة فرات للأنباء (ANF) تحدثت كذلك مع السيدة بريفان سيدو وهي معلمة بالرئاسة المشتركة لاتحاد معلمي مقاطعة عفرين والشهباء، وإحدى المهجرات من مدينة عفرين إلى الشهباء، وقضت بها هي الأخرى سبع سنوات قبل أن تنزح منها تحت حصار مرتزقة الاحتلال التركي، فتقول إننا على مدار تلك السنوات كنا بين المطرقة والسندان، أي بين حصار المرتزقة والفرقة الرابعة للنظام السوري.
وتوضح أن الحصار والقصف كان متكرراً، لكن في الفترة الأخيرة صعّد الاحتلال تلك الممارسات الإجرامية، فتعرضنا لحصار تام استمر 15 يوماً في الشهباء ومن عدة محاور، وسط قصف مستمر سواء من المرتزقة أو مسيرات تركيا، إلى أن تم التفاوض على فتح ممر "يفترض أنه إنساني" لنخرج من الشهباء.

وتقول بريفان سيدو إننا اضطررنا للنزوح من أمام مرتزقة لا يفرقون بين نساء أو رجال، ولا أطفال أوشيوخ، ولا أصحاء أو مرضى، فهؤلاء من ارتكبوا المجازر بحقنا في عفرين، ولهذا هاجرنا من الشهباء تجنباً لتكرار نفس المجازر.

رصاص فوق الرؤوس

وتلفت بريفان سيدو إلى أنها خلال رحلة النزوح كان المرتزقة حولهم في كل مكان، يطلقون وابلاً من الرصاص فوق الرؤوس لإرعاب النازحين، وتضيف: "كانت الجثث في كل مكان، لا نوم ولا طعام، لا غطاء ولا علاج للمرضى. كما كنا نتعرض لسرقة أغراضنا من المرتزقة، وبيننا من خطف ولا نعرف أين، ومنا من فقدوا ولا يزال مصيرهم مجولاً"، مستذكرة أن طفلاً عمره سبع سنوات كان على متن إحدى السيارات وسقط من عليها، ولا يُعلم عنه شيء.

وعن السوريين المشاركين في الهجوم ضدهم وحصارهم وموالاتهم لتركيا، تقول بريفان سيدو إن "هؤلاء ليسوا سوريين، بل مرتزقة لا وطن لهم، حملوا السلاح ضد جزء من أبناء شعبهم من أجل الدولار، وحتى عندما أُسقط النظام الذي يفترض أن سوريا تحررت بعده، للأسف تستمر نفس معاناتنا، وتستمر نفس الحالة الشوفينية الديكتاتورية".

ودعت بريفان سيدو في نهاية تصريحاتها إلى ضرورة أن تكون هناك دولة سورية ديمقراطية مدنية لا مركزية، مشددة على أن الكرد حزء من الشعب السوري، وهم جزء من المدنيين الذين يتعرضون للتنكيل، ولهذا فإنها تطالب المنظمات الدولية والإنسانية والأمم المتحدة بالتحرك، خاصة وأن التهديدات بحق الكرد مستمرة، لا سيما وأن النظام الجديد جزء من خطط النظام التركي لاستعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية المزعومة.