بدايةً, نود ان نُلفت عناية القرّاء الكرام أنّ اللقاء أُجري قبل اسبوعين, وبسبب الظروف الخاصة المحيطة بقيادات الحزب والترجمة التي قام بها مركز إعلام الحزب, تأخّر نشره. لذا وجب التنويه.
الرئيس المشترك لمنظومة المجتمع الديمقراطي وأحد الأعضاء الخمسة في الخليَّة الأيديولوجيَّة الأولى الذين شاركوا القائد الكردي عبدالله أوجلان في وضع المبادئ الأوليَّة لحزب العمال الكردستاني مطلع السبعينات، وشارك في المؤتمر التأسيسي للحزب عام الذي عقد سنة 1978 في قرية فيس التابعة لولاية آمد "ديا بكر". جميل بايك، الذي يناديه رفاقه في الحزب بهفال "جمعة".
الشرق الأوسط ظلّ طيلة تاريخه يحيا النمط الفيدرالي أو الكونفدرالي الطبيعي. وهكذا تحولت شعوبه إلى مهد البشرية والحضارة..
تُعرِّف حركتكم المستجدات الحاصلة في الشرق الأوسط بأنها "حرب عالمية ثالثة". هل يمكنكم شرح ذلك قليلاً؟ ولماذا هكذا توصيف؟
شهد القرن العشرين، وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، نظاماً سياسياً ذا قطبين. حيث كان هناك معسكر الإمبريالية الرأسمالية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية من جهة، وهناك معسكر الاشتراكية المشيدة بزعامة الاتحاد السوفييتي من الجهة الأخرى. وقد انقسم العالم سياسياً بين هذين القطبين بصورة أساسية، على الرغم من الحديث عن دول عدم الانحياز أو كما يُقال "دول العالم الثالث". وكل التوازنات السياسية قد تأسست على الصراع القائم بين هذين القطبين. ورغم نشوب الحروب الساخنة في بعض المناطق، إلا إن نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية قد تم تعريفه بنظام "الحرب الباردة". ذلك أن شكل الحرب غير المسلحة والمتعددة الاتجاهات كانت تشكل الطابع الرئيسي الذي ساد الأجواء في تلك الفترة، مما جعل التوتر قائماً على الدوام جنباً إلى جنب مع سباق التسلح النووي. وحصيلة هذا السباق، ظهر الوضع العسكري المسمى بـ"توازن الرعب"، والذي شهد صراعاً سياسياً كثيفاً. فالبلدان التي بقيت خارج حلف الناتو أو حلف وارسو، قد تحولت إلى قوة سياسية بارزة في المناطق التي كانت فيها على علاقة مع أحد الحلفَين. وقد تكاثف صراع وتوازنات القوى السياسية تلك في منطقتَين بصورة خاصة: أولاهما في منطقة الشرق الأوسط، والثانية في أوروبا الشرقية. حيث تحول التوتر العالمي بين حلفَي وارسو والناتو إلى اشتباكات مناطقية في بعض الأحيان. ولعل أحد أهم تلك الاشتباكات هي تلك التي نشبت في أفغانستان. حيث دخلت قوتان في حرب تامة هناك: فالناتو بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية قد دعم القوى الإسلامية في أفغانستان، واستمر بدعمه لها بمختلف الأسلحة ذات التقنية العالية، ليحول تلك المنطقة إلى مستنقع حقيقي يغرق فيه الاتحاد السوفييتي، الذي تكبَّد الهزيمة في نهاية الحرب هناك. وهكذا، فقد خارت قوى الاشتراكية المشيدة في عموم العالم في خضم أجواء الحرب والتوتر السائدة آنذاك. ذلك أن الاتحاد السوفييتي قد أوصل ذاته إلى حافة الانهيار حصيلة سباقه مع الإمبريالية الرأسمالية في مختلف الميادين.
ولمّا قَدَّمت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي دعمهما بلا قيد أو شرط للأنظمة الديكتاتورية والاستبدادية المرتبطة بهما في تلك الفترة، عانت البشرية فترةً قاسية من المخاضات والآلام والقمع ضمن أجواء الحرب الباردة العالمية. وقد كان الأمر كذلك سواء بالنسبة للبلدان التابعة للولايات المتحدة الأمريكية، أم لتلك التابعة للاتحاد السوفييتي. ذلك أن كل معسكر كان يقدم الدعم التام إلى البلدان التابعة له ضد بلدان الحلف المضاد، دون مراعاة الخصائص السياسية لتلك البلدان. مما كان فرصةً سانحة لحكّام تلك البلدان لممارسة شتى أنواع الظلم والقمع على شعوبها. أما تنافس الاتحاد السوفييتي مع الولايات المتحدة الأمريكية، ودعمه للبلدان التابعة له؛ فقد أدى إلى معاناته من القضايا الاقتصادية الجادة، وإلى تثاقل مشاكله الاجتماعية أكثر. ذلك أن الطابع الاستبدادي قد تفاقم أكثر في بلدان الاشتراكية المشيدة، بما فيها الاتحاد السوفييتي أيضاً، خلال فترة الحرب الباردة. ونظراً لتنافر هذا الوضع مع طبيعة الاشتراكية، فقد أدى ذلك إلى إضعاف بلدان الاشتراكية المشيدة، وإلى إقحامها في فترة الانهيار اعتباراً من منتصف ثمانينيات القرن العشرين. ومع بدايات التسعينيات، بدأت الفترة التي تناثرت فيها الاشتراكية المشيدة كلياً، والتي خسرت فيها الإدارات التابعة لحلف وارسو سلطاتها. حيث تبدلت السلطات في البلدان الدائرة في فلك الاشتراكية المشيدة بصورة خاصة، مما أدى في أواسط التسعينيات إلى ظهور نظام سياسي انسحب فيه الاتحاد السوفييتي بنسبة كبرى من التوازنات السياسية العالمية، وإلى نشوب الحروب والنزاعات المناطقية في الأماكن التي انسحب منها.
وقد لوحظ أن الولايات المتحدة الأمريكية قد لعبت دوراً فعالاً في ملء الفراغ الذي تركه الاتحاد السوفييتي بانسحابه. مما طوَّر ذلك معه نظريات ادّعت أن العالم يتوجه بسرعة نحو سيادة القطب الأحادي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية. وقد تم تعريف تلك الفترة بأنها تأسيس للنظام العالمي الجديد برعاية الولايات المتحدة الأمريكية، وأن منطقة الشرق الأوسط ستكون مركز هذا النظام الجديد. وبالأصل، فإن منطقة الشرق الأوسط ظلت على مر التاريخ أحد أهم المراكز بالنسبة للتوازنات السياسية العالمية. ونخص بالذكر القرون المعدودة الماضية، إذ كانت جغرافيا الشرق الأوسط تُحوِّل مَن يتحكم بها ويسيطر عليها إلى قوة عالمية. فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي ظهر فراغ كبير في هذه المنطقة، وسعَت الولايات المتحدة الأمريكية بملئه عبر مشاريعها المتمثلة في "نظام الشرق الأوسط الجديد" و"مشروع الشرق الأوسط الكبير". وبالأصل، فالحروب العالمية في التاريخ تعبِّر عن فترات الصراع حول الحاكمية والسيطرة على المناطق الهامة التي تشهد فراغاً سياسياً أو تنشب فيها حروب التقاسم. وبهذا المعنى، فالحربان العالميتان الأولى والثانية كانتا حربَين لإعادة تقاسم العالم. ذلك أنه وبعد تشتت الاتحاد السوفييتي، ظهرت في العالم مناطق الفراغ السياسي الهامة جداً، والتي سيُعاد تأسيس التوازنات السياسية فيها لأجل تقاسمها مجدداً. وربما أنه لأول مرة في تاريخ العالم يظهر واقع سياسي تضعف فيه بل وتُشَلُّ القوى السياسية القديمة إلى هذا الحد ضمن رقعة جغرافية مترامية الأطراف. وقد كان الشرق الأوسط منطقة شهدت ذلك بأشدّ درجاته.
في تلك الفترة التي ازدادت فيها الفراغات السياسية، بدأت الحداثة الرأسمالية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية بالصراع الهادف إلى بسط الحاكمية التامة على عموم العالم. وهكذا بسطت نفوذها بنسبة هامة في أوروبا الشرقية ودول البلقان وفي مناطق أخرى من العالم. لكنها لم تستطع تحقيق ذلك بكل معنى الكلمة في منطقة الشرق الأوسط. ذلك أن النبية التاريخية والاجتماعية والثقافية للشرق الأوسط قد زرعت العراقيل الهامة أمام نفوذ الحداثة الرأسمالية. فحقيقة "المجتمع الاستهلاكي"، التي ابتدعتها الرأسمالية العالمية باعتبارها مرحلة جديدة من مراحل الحداثة الرأسمالية، كانت تتميز بخصائص متنافرة مع الطابع التاريخي والاجتماعي للشرق الأوسط. وهكذا، دخلت الحقيقة التاريخية والمجتمعية والثقافية للشرق الأوسط في مرحلة مقاومة مضادة للرأسمالية ولمرحلتها المسماة بـ"المجتمع الاستهلاكي". وقد أدت هذه الأجواء إلى ظهور التيارات الإسلامية السياسية على مسرح التاريخ بنحو مؤثر، والتي اعتمدت على الواقع التاريخي والاجتماعي والثقافي للشرق الأوسط في مساعيها إلى ملء الفراغ القائم. ومثلما قامت تلك القوى الإسلامية السياسية المتطلعة إلى السيطرة على منطقة الشرق الأوسط اعتماداً على ثقافتها التاريخية والمجتمعية بزرع العراقيل أمام الحِراك الآمن لرأس المال الحر في المرحلة الجديدة للرأسمالية، فإن القوى المحافظة أيضاً، والتي تواجدت في مرحلة الحرب الباردة بدعم من الاتحاد السوفياتي خصيصاً، قد قاومت التغير الذي ارتأته الإمبريالية الرأسمالية لأجل المنطقة.
من جانب آخر، فقد كانت توازنات الشرق الأوسط قد تأسست كلياً على إبادة الكرد طيلة القرن العشرين. وكانت تركيا وإيران من أهم دعامات هذا الوضع. حيث عملتا على الاستمرار بنظام القرن العشرين في المنطقة، حتى بعد اختلال التوازنات القديمة. ذلك أن نظام القرن العشرين كان يرتكز إلى إبادة الكرد. بالتالي، سعت تركيا إلى تأمين ديمومة ذاك النظام، نظراً لمآربها في تنفيذ الإبادة التامة ضد الكرد. وبالمقابل، فقد قاومت إيران ضد تبدل الأوضاع في المنطقة، بهدف الحفاظ على ثبات نظامها الداخلي. لذا، فقد تحولت تلك القوتان المحافظتان إلى قوى معيقة على درب تأسيس الأوضاع اعتماداً على التوازنات الجديدة. أما صدّام حسين، فعندما طمع في انتهاز الفرصة لملء الفراغ الحاصل والتحول إلى زعيم العالَم العربي، صار وجهاً لوجه أمام التدخل الأمريكي، الذي لم يشمل العراق فحسب، بل واتّجَه نحو تطبيق "مشروع الشرق الأوسط الكبير" وفق المصالح الاقتصادية والسياسية للحداثة الرأسمالية. وضمن هذا الإطار تم إضعاف النظام العراقي بنسبة مهمة في حرب الخليج الأولى، وضاعفت الولايات المتحدة الأمريكية من تواجدها العسكري في بلدان الشرق الأوسط، وخاصة في بلدان الخليج. وقد تم تنفيذ مؤامرة دولية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية ضد قيادة PKK، التي كانت ترتأي تأسيس نظام مرتكز إلى أخوّة الشعوب الشرق أوسطية بالاستفادة من الفراغ الموجود قبل بدء تلك الحرب. وبهذه المؤامرة هدفت إلى إزالة العراقيل التي تعترض بسط نفوذها على منطقة الشرق الأوسط، وارتأت استغلال تركيا أكثر في حملة الحرب الجديدة التي ستنفذها في الشرق الأوسط، عن طريق المؤامرة التي نفذتها ضد القائد APO. وهكذا نشبت الحرب التي تسمى "حرب الخليج الثانية" في عام 2003.
إن "الحرب العالمية الثالثة" التي ابتدأت مع حرب الخليج الأولى، قد باتت حرباً تؤسس للتوازنات العالمية الجديدة بالتزامن مع حرب الخليج الثانية. ذلك أن النظام الإمبريالي الرأسمالي لم يستطع بسط نفوذه على الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، على الرغم من تمكين ذاته بنسبة ملحوظة في كافة بقاع العالم الأخرى. فنظراً لمكانة الشرق الأوسط البالغة الأهمية من حيث تأسيس التوازنات العالمية وتحديد مسار السياسة العالمية، فقد تحولت هذه الحرب فيها إلى "حرب عالمية ثالثة" بكل معنى الكلمة، فاتسعت رقعتها وازداد عُمقها أكثر فأكثر. وبعد انهيار نظام صدّام، لم تستطع الولايات المتحدة الأمريكية بسط نفوذها كما تشاء في العراق، على الرغم من تواجدها العسكري فيه. بالتالي، فإن الحرب بلغت أبعاداً أكبر حصيلة مقاومة القوى المحافظة من جهة، ونتيجة طموح أوساط الإسلام السياسي في النفاذ من الفراغ الحاصل في المنطقة بقوة أكبر اعتماداً على المجتمع التاريخي للمنطقة. وهذا ما جعل الشعوب ومختلف المراكز السياسية المستاءة من التوازنات القديمة تبدأ بالحراك. وهكذا ظهرت الانتفاضات الشعبية التي شهدها عموم العالم العربي، والتي سُمِّيَت "الربيع العربي". إلا إن هذه الانتفاضات الشعبية قد هيأت الأرضية لظهور القوى السياسية الجديدة أيضاً بشكل نافذ على مسرح التاريخ في المنطقة. فبالرغم من مساعي الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا في عقد العلاقات مع التيار المسمى بـ"الإسلام المعتدل" بادئ الأمر بهدف التأسيس لنظام جديد، إلا إنهما أدركتا لاحقاً أنه من غير الممكن تأسيس النظام الجديد للشرق الأوسط اعتماداً على "الإسلام المعتدل". ذلك أن قوة النفوذ التي بات يتمتع بها الإسلام المعتدل قد هيأ الأرضية لزيادة تعزيز الحركات المنبثقة اعتماداً على الثقافة المجتمعية التاريخية وعلى العقيدة الدينية للشعوب الشرق أوسطية. فقد رأينا كيف أن وصول القوى المسماة بـ"الإسلام المعتدل" إلى سدة الحكم في مصر قد فتح الطريق أمام تعزيز وتقوية هكذا حركات. حيث إن حركة مثل تنظيم "القاعدة" قد استفادت من هذا الفراغ لتتحول إلى قوة نافذة لدرجة أن تنظيم "القاعدة" العراقي قد أعلن عن "دولة الإسلام في العراق والشام" (داعش)، وبدأ يتحكم بمناطق واسعة في كل من العراق وسوريا.
من جانب آخر، فقد استفادت إيران أيضاً من الأجواء السياسية المتقلبة في الشرق الأوسط بالتزامن مع "الربيع العربي"، في سعيٍ منها لتعزيز شأنها. وهكذا، فإن مساعي العديد من القوى الفاعلة في ملء الفراغات السياسية البارزة نتيجة انهيار التوازنات السياسية، قد أدت إلى تقابل وتصادم الكثير من القوى. وقد سُمِّيَت مثل هذه الحروب في القرن العشرين بـ"الحروب العالمية". فعندما أدى انهيار الاتحاد السوفييتي واختلال التوازنات الدولية المتشكلة في أوساط الصراعات العنيفة في عهد الحرب الباردة الصارمة إلى ظهور العديد من الفراغات الكثيفة، فقد أسفر ذلك في نفس الوقت إلى نشوب حرب عالمية متعددة القوى والجوانب والأبعاد في أكثر المناطق معاناةً لذاك الفراغ. وهذا هو السبب وراء تسميتها بـ"الحرب العالمية الثالثة". حيث احتلت كل القوى الدولية أماكنها في هذه الحرب، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، بالإضافة إلى روسيا التي تدخلت بقوة مع اشتداد حدة الحرب في سوريا، على الرغم من تدخلها غير المؤثر في البداية. من جهة أخرى، ومع ازدياد الحاجة إلى المزيد من النفط والغاز الطبيعي بالتوازي مع تصاعد الرأسمالية، فإن جميع البلدان الرأسمالية اتخذت أماكنها في هذه الحرب، بغية التحكم بمكامن النفط وبالأسواق في الشرق الأوسط. ذلك أن مليارات الدولارات تتراكم في تلك المناطق. بالتالي، فقد بادرت كل البلدان الرأسمالية إلى تمكين ذاتها في سبيل انتزاع حصة لذاتها، بما في ذلك الصين واليابان. وبهذا المعنى، فقد نشبت في الشرق الأوسط حرب دموية للغاية، تسعى فيها كل القوى السياسية والنافذة في العالم إلى اتخاذ أماكنها فيها وإثبات حضورها ونفوذها ضمنها بهذه الدرجة أو تلك.
لقد كاد الشرق الأوسط يسوّى بالأرض تماماً في خضم أجواء الحرب العالمية الثالثة. إذ شهد تقلبات اجتماعية وسياسية واقتصادية كبرى، ودُمِّرت المدن وأُحرِقت. وإلى جانب كون الحرب عسكرية الطابع، إلا إنها تحولت إلى حرب يُقتَل فيها المدنيون العزّل وتُزهَق أرواحهم. وقامت كلُّ القوى بقصف مختلف المناطق بالقنابل والبراميل المتفجرة دون تمييز بين عسكري أو مدني، تحت اسم كسب الحرب. أي أن مَن استهدف المدنيين لم يَكن فقط داعش والنصرة وأمثالهما من العصابات اللاإنسانية. بل إن الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وبلدان المنطقة أيضاً قد سلكت طرازاً حربياً يحرق ويدمر كل مكان في سبيل تعزيز ذاتها. لقد استُخدِمت القنبلة الذرية في اليابان فقط أثناء الحرب العالمية الثانية، أو أنه تعرضت بعض المدن الألمانية إلى دمار كبير بالقصف الجوي. أما في الشرق الأوسط، فقد سُوِّيَت الكثير من المدن وأماكن السكن بالأرض ودُمِّرت حصيلة تخريبات تساوي ما قد ينجم عن مئات القنابل الذرية، وليس عن قنبلة أو اثنتين منها. وهُجِّرَ ملايين الناس من أماكنهم. وبهذا الجانب، فقد خلقت هذه الحرب نتائج تدميرية أكثر بكثير مما كانت عليه الحربان العالميتان الأُخرَيان. فبينما كان عدد القتلى بين صفوف القوى العسكرية أكثر في الحربين العالميتين الأولى والثانية، فقد برزت زيادة عدد القتلى بين صفوف المدنيين أكثر في هذه الحرب. ومن هذه الزاوية، فإن تسمية "الحرب العالمية الثالثة" هي توصيف مناسب للحرب الدائرة في الشرق الأوسط. ذلك أن النظام الشرق أوسطي الذي ستؤسِّس له هذه الحرب، سوف يؤثر في كل الأنظمة والتوازنات السياسية في العالم. من جانب آخر، فإن هذه الحرب لا تقتصر فقط على تحديد مَن سيكون نافذاً أم لا من بين البلدان الإمبريالية الرأسمالية والقوى الحاكمة الإقليمية. بل إنها ذات طابع سيحدد مَن من الشعوب أيضاً سيتحول إلى قوة سياسية نافذة عالمياً خلال السنوات العشر القادمة. قديماً، كان البحث يدور فقط للرد على سؤال: كيف ستتجه القوى الاستغلالية والقمعية والقوى الإمبريالية الرأسمالية نحو التقاسم؟ وقد تأسست التوازنات الجديدة وفق محور هكذا قوى حاكمة ونافذة. ولكن الشعوب أيضاً دخلت الأجندة الآن، حيث تناضل في سبيل تعزيز شأنها خلال هذه الحرب العالمية السائدة. وبهذا الجانب، فإن تأسيس النظام في الشرق الأوسط سيوَلِّد نتائج مهمة، ليس على صعيد شعوب المنطقة فحسب، بل وعلى صعيد شعوب العالم أيضاً. أي أن هذه الحرب معنية عن كثب بتحديد مصير الشعوب أيضاً، وليس مصير البلدان الرأسمالية الحاكمة فحسب. فمثلما أنها حرب دائرة بين القوى الحاكمة من جهة، وبينها وبين القوى المحافظة من جهة ثانية، فإن الحرب العنيفة تدور أيضاً بين الشعوب وبين القوى المحافظة والقوى الإمبريالية. وعليه، ولئن كان لا بد من الحديث عن حرب عالمية حقيقية، فإنه ينبغي توصيف الحرب الدائرة في الشرق الأوسط بهذا الشكل، حيث نسميها "الحرب العالمية الثالثة".
تجزيء الكرد إلى أربعة أجزاء في الشرق الأوسط، قد جعل القضية الكردية ذات طابع شرق أوسطي بالأساس..
هل لكم أن توجزوا لنا رؤية "حركة الحرية الكردية" بشأن الشرق الأوسط؟
إن رؤية ومعاني نضال الحرية الذي يروده PKK في منطقة الشرق الأوسط متعددة الأبعاد. بإمكاننا القول بكل سهولة أنه ثمة قيادة تتجسد في شخص القائد APO، قادرة على تحليل الحقيقة التاريخية المجتمعية للشرق الأوسط، وعلى تحليل كافة خصائصها وهويتها وطبائعها. أي أن حقيقة القائد APO هي تماماً انعكاس للحقيقة التاريخية المجتمعية لمنطقة الشرق الأوسط، حيث انطلق منها، وترعرع فيها، وتطور تأسيساً عليها، وبات شخصية لا تمثل فقط تلك الحقيقة، بل وأصبح قيادةً تمثل البشرية جمعاء. ذلك أن المصاعب والمضائق والمشاكل وحالات العقم والانسداد تخلق معها قياداتها، وتأتي بسبل الحل أيضاً. ونتلمس هذه الحقيقة بأكثر أشكالها شفافيةً في شخص القائد APO وفي خصائص PKK وطابع حركة الحرية الكردية. فبالرغم من أن القائد وحقيقة PKK قد ظهرا على مسرح التاريخ كحركة حرية كردية، إلا أنهما اضطرا مع انطلاقتهما إلى أن يغدوا قيادة شرق أوسطية وحركة حرية شرق أوسطية. وما جعلهما يصبحان كذلك هو أن الحقيقة الكردية تاريخياً وراهناً تشكل موجز الحقيقة التاريخية المجتمعية للشرق الأوسط. وعلى هذا الأساس، فهما يتميزان بطابع قادر على صياغة الحلول لكافة القضايا التاريخية والمجتمعية في منطقة الشرق الأوسط. وقد عبَّر القائد APO عن هذا الواقع بقوله مراراً وتكراراً بأن "كل أمر كردستاني هو أمر عالمي". وهذا ما يعني أولاً أن كل أمر كردستاني هو أمر شرق أوسطي. أي أن الواقع الشرق أوسطي يتجسد في الحقيقة الكردية والكردستانية وفي قيادة الشعب الكردي وفي حركة الحرية الكردية. فمثلما أن القضية الكردية قد تحولت إلى العقدة الكأداء في المنطقة، وضاعفت من وطأة كافة قضاياها، فإن حل القضية الكردية أيضاً سوف يؤدي إلى حل جميع قضايا الشرق الأوسط، وإلى إبراز نظام اجتماعي واقتصادي وسياسي يؤسس تماماً للواقع التاريخي والمجتمعي الشرق أوسطي الحقيقي.
لا علاقة لدور PKK والقائد APO في المنطقة بنواياهما الذاتية. بل ثمة ضرورة لا مفر منها في أن يتحولا موضوعياً إلى قيادة شرق أوسطية وإلى حركة حرية شرق أوسطية. فإذا كان لا بد من حل القضية الكردية، فإن هذا غير ممكن إلا بالتحول إلى قيادة وحركة قادرتَين على إيجاد الحلول لقضايا شعوب الشرق الأوسط كافة. وبمعنى آخر، فمَن لا يفكر على الصعيد الشرق أوسطي، ومَن لا يتناول حل القضية الكردية تأسيساً على حل قضايا الشرق الأوسط، فلا يمكن أن يتحول إلى قيادة أو حركة قادرة على حل القضية الكردية. ذلك أنه يستحيل حل القضية الكردية بالاهتمام فقط بهذه القضية، أو بالتركيز عليها فحسب، أو بالانغلاق ضمن الإطار الكردي لا غير. وعليه، لا يمكن فهم أو استيعاب أو إيجاد سبل حل صحيحة للقضية الكردية، إلا لدى تناولها ضمن إطار قضايا الشرق الأوسط. حينها فقط يمكن الوصول إلى نتيجة عبر خوض نضال سديد وبأساليب وطرق صحيحة. وعلى هذا الأساس، فإن حقيقة PKK والقائد APO تقتضي من حركة الحرية أن تتناول حرية الشعب الكردي بالتداخل حتماً مع حرية شعوب الشرق الأوسط. أي أنه كلما تم خوض النضال في سبيل حرية الشعب الكردي، فإن ذلك يحتّم التكفل بأداء هذا الدور الشرق أوسطي والتحرك بموجبه. وإذ ما سُئِل: "لماذا تحول القائد APO وPKK اليوم إلى قيادة للشعوب الشرق أوسطية وإلى حركة حرية شعوب الشرق الأوسط؟"، فإنه من الضروري أن نبحث عن الجواب على ذلك في طابع وخصائص القضية الكردية.
إن القائد APO وPKK يؤديان دورهما التاريخي هذا بنحو ملموس. ذلك أن حل القضية الكردية في تركيا يقتضي خوض النضال من أجل تحقيق التحول الديمقراطي في تركيا. فمن دون دمقرطة تركيا، فمن الصعب جداً تحرير كردستان. ومن دون تحرير كردستان، فمن غير الممكن دمقرطة تركيا. بالتالي، فمن دون دمقرطة تركيا وتحريرها، ومن دون حل القضية الكردية؛ فمن غير الممكن تمكين التحول الديمقراطي أو حل القضايا في منطقة الشرق الأوسط. حيث إن سياسات الدولة التركية وعصبيتها وعداؤها للكرد هو أساساً ما جعل قضايا الشرق الأوسط كأداء وعقيمة. أي أن الدولة التركية وبسبب طابعها العدائي للكرد، لا ترغب في تحقيق التحول الديمقراطي ولا في ظهور نظام ديمقراطي جديد في الشرق الأوسط. ولهذا السبب فإنها تصرّ على الأوضاع التي كانت سائدة في القرن العشرين، وتؤدي بجانبها هذا دوراً يزيد من وطأة كافة القضايا ويسد طرق حلها. وعليه، فإن النضال الذي تخوضه قيادة الشعب الكردي وPKK وحركة الحرية الكردية ضد هكذا دولة، لا يكون نضالاً معنياً فقط بالكرد أو حتى بشعوب تركيا فحسب. بل إنه يغدو نضالاً معنياً بحرية وديمقراطية كافة شعوب الشرق الأوسط. وقد حُسِمت هذه الحقيقة أكثر في أجواء الحرب العالمية الثالثة، واتضحت بنحو أفضل مع تصاعد نضال حركة الحرية الكردية ضد الاستعمار القمعي القائم على التطهير العرقي في تركيا.
من جانب آخر، فإن تجزيء الكرد إلى أربعة أجزاء في الشرق الأوسط، قد جعل القضية الكردية ذات طابع شرق أوسطي بالأساس. فأحد أجزائها يقع في تركيا، وجزءان آخران في العالم العربي، والجزء الرابع في إيران. والحال هذه، فإن القضية الكردية معنية بالأوضاع في تركيا والعراق وإيران وسوريا، ومعنية عبر العراق وسوريا بعموم العالم العربي أيضاً. كما إنها وبسبب امتلاكها لمصادر الطاقة المهمة جداً بالنسبة للرأسمالية، فإنها قضية معنية بالعالم أجمع بقدر ما أنها معنية بالشرق الأوسط. ذلك أن تخلف الشرق الأوسط يتشكل بناء على التطهير العرقي الذي ينفَّذ ضد الكرد. أو لنقل أنه بسبب تعرض الكرد للإبادة والتطهير العرقي، فإن الرجعية الشرق أوسطية تتخذ طابعاً قوموياً ودينياً متطرفاً ومضاعفاً جداً، وتتأسس الأنظمة الرجعية والفاشية والاستبدادية والشوفينية بغرض التحكم بالكرد. وهذا ما يجري في تركيا وإيران والعراق وسوريا. بالتالي، فإن عقم القضية الكردية يؤثر مباشرة في عموم الشرق الأوسط، ويجعل قضاياه عقيمة وبلا حل، مما يؤدي إلى الإصرار على الأوضاع الصارمة وعلى الدوغمائية التعصبية والقوالبية الحاسمة والحفاظ على ما هو قائم برجعية عنيدة. وهذا بدوره ما يسفر عن بقاء شعوب الشرق الأوسط متخلفة وتئن تحت وطأة تثاقل قضاياها العالقة. والحال هذه، فإن نضال الحرية الذي يخوضه الشعب الكردي في تركيا أولاً وفي عموم بلدان المنطقة، يتحول إلى حركة تعمل على حل العقد الكأداء والقضايا العالقة في المنطقة. أي أن تاريخ المنطقة والنظام السياسي والاجتماعي القائم فيها يُحَمِّل نضال الحرية الكردي دوراً كهذا، ويوصله إلى مكانة كهذه. بالتالي، فلا يمكن حل أية قضية معنية بديمقراطية وحرية شعوب المنطقة، من دون خوض نضال الحرية للشعب الكردي. ذلك أنه نظام سياسي واجتماعي واقتصادي قائم على أساس الاستمرار بسياسة الإبادة والتطهير العرقي ضد الكرد، مما يحوِّل قضايا الشرق الأوسط إلى عقد كأداء. بمعنى آخر، فإن نضال حرية الشعب الكردي هو نضال ضد النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي يحتِّم التخلف والانسداد على منطقة الشرق الأوسط. وعليه، فلا حركة الحرية الكردية تستطيع إنقاذ الكرد بالتطلع إلى تحريرهم وحمايتهم دون غيرهم، ولا يستطيع أي نضال شرق أوسطي أن يتحول إلى قوة حل نافذة من دون التغذي من نضال حرية الشعب الكردي أو التطلع إلى تمكين الحياة الحرة والديمقراطية للكرد.
وعلى هذا الأساس تم تناول دمقرطة تركيا وحرية الشعب الكردي بشكل متداخل ومتبادل، تماماً مثلما تقوم حركة الحرية الكردية بسلوك المقاربة السياسية التي تتناول موضوع نضال الحرية والديمقراطية لدى الكرد في سوريا بالتداخل والتبادل مع دمقرطة سوريا، ونضال الحرية والديمقراطية للكرد في باشور كردستان بالتداخل والتبادل مع دمقرطة العراق، ونضال الحرية والديمقراطية للكرد في روجهلات كردستان بالتداخل والتبادل مع دمقرطة إيران. وهي لا تسلك بتاتاً المقاربة التي تهدف إلى الانفصال أو بناء دولة أو الانسلاخ عن دولة ما. فهي لا تقتنع بأن هذا الشكل من المقاربات سيؤدي إلى كسب الحياة الحرة والديمقراطية للشعب الكردي، ولا تؤمن بأن بناء دويلة سيصب في منفعة الكرد. بمعنى آخر، إذا لم يفكر الكرد بالشرق الأوسط بنحو متكامل وشامل، وإذا لم يتصورا حريتهم بالتأسيس على حرية شعوب المنطقة؛ فإن هذا يعني أنهم لا يفكرون بحريتهم أيضاً، بل وأنهم يخونون ذواتهم. وانطلاقاً من ذلك، فإن حركة الحرية الكردية تتناول حل قضاياها بالتداخل مع حل قضايا شعوب المنطقة، وتَجد أن تعزيز شأن الكرد يمر من العيش المشترك مع الشعوب الأخرى على أسس ديمقراطية.
إن منطقة الشرق الأوسط هي الجغرافيا التي انبثقت منها الحضارة والثقافة الإنسانية، والتي خَلَقت فيها البشرية كافة قيمها العريقة على مر تاريخها وضمن تكامل كلي. كما إن الشرق الأوسط ظل طيلة تاريخه يحيا النمط الفيدرالي أو الكونفدرالي الطبيعي. وهكذا تحولت شعوب الشرق الأوسط إلى مهد البشرية والحضارة، بانتهالها القوة من بعضها بعضاً. وإذا كانت البشرية قد خلقت قيمها العريقة هنا، فإن هذا لم يحصل بانفصال الكرد عن العرب أو عن الفرس أو الأتراك، بل بالعيش المشترك فيما بينهم. وقد انتهلت هذه الحضارة قوتها من هنا. وضمن إطار هذا الواقع التاريخي، فإن حركة الحرية الكردية تتخذ من شرق أوسط كهذا أساساً لها اليوم أيضاً. لكن هذه المقاربة لا علاقة لها بمقاربات المدنية العربية أو الإمبراطورية العثمانية أو الفارسية في التحكم بجميع بلدان المنطقة، ولا بسياساتها في خلق شرق أوسط تابع لها. بمعنى آخر، فإن رؤية حركة الحرية الكردية بشأن الشرق الأوسط لا تعتمد على علاقة الحاكمية، بل على علاقة الترابط والتكافل والتعزيز المتبادل. بالتالي، فإن القائد APO وPKK يعملان على تمكين الحياة الحرة والديمقراطية للشعب الكردي مع مراعاة هذه الحقيقة التاريخية والاجتماعية للشرق الأوسط، ودون الانقطاع عنها، بل بالتحول إلى جزء منها، والتحرك بموجبها. هكذا هي رؤية حركة الحرية الكردية إلى التاريخ وإلى الكرد وشعوب الشرق الأوسط، وإلى كيفية حل قضايا المنطقة. وبموجب ذلك ترسم سياساتها بشأن المنطقة، وتخوض نضالها فيها.
وهي بجانبها هذا تُعَدّ حركة شرق أوسطية بامتياز. وفيما عدا PKK وحركة الحرية الكردية، فإنه ما من تيار سياسي آخر قد تلاءم مع هذه الحقيقة التاريخية والاجتماعية للمنطقة، ولا اتسم بالطابع الشرق أوسطي. حيث إن التيارات السياسية والسلطات القائمة قد خالفت هذه الحقيقة، وخرجت عنها، بل وخانت شعوب المنطقة تاريخياً وراهناً، بسبب طمعها في التحكم بالمنطقة بالتأسيس على العوامل الأيديولوجية والنظرية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي خلقتها الإمبريالية الرأسمالية.
ما هو الدور الذي أداه النضال التحرري الوطني لـPKK وثورته الديمقراطية شرق أوسطياً وعالمياً في أعوام التسعينيات، بعدما انهار الاتحاد السوفييتي وانقضى عهد الحرب الباردة؟
لقد أثر انهيار الاتحاد السوفييتي في تسعينيات القرن العشرين سلباً على الحركات اليسارية والتحررية الوطنية في العالم. حيث كان معظمها يستمد المعنويات والدعم السياسي والعسكري والدعائي منه. كما إن وجود الاتحاد السوفييتي كان يجعل نجم الاشتراكية ساطعاً وجذاباً في عموم العالم. ونخص بالذكر أن اعتبار اليسار والاشتراكية قد ازداد أكثر مع ثورة أكتوبر، وأن الأيديولوجيا الاشتراكية ورؤيتها وتصوراتها قد تعززت جداً مقابل القضايا المتفاقمة التي تسببت بها الرأسمالية. ولذلك مالت الشعوب والمجتمعات والمجموعات نحو الاشتراكية التي تركت بصماتها القوية جداً على العالم أجمع خلال القرن العشرين. بالتالي، فقد استمدت الشعوب المسحوقة والمستعمَرة قوتها من وجود الاشتراكية. حيث إن سيطرة الاشتراكية المشيدة على ثلث العالم كان يقوّي شوكة حركات التحرر الوطني. وهكذا أصبح وجه العالم مختلفاً جداً أثناء سيادة حضور الاتحاد السوفييتي. وكانت الحركات اليسارية والديمقراطية والتحررية الوطنية تستمد المعنويات من ذلك. وعلى الرغم من أن الاتحاد السوفييتي كان يتعرض للتفسخ داخلياً، ويبتعد عن الطابع الاشتراكي، ويؤسس لنظام بيروقراطي ولرأسمالية الدولة عوضاً عن التأسيس للاشتراكية؛ إلا إن وجود قوة كهذه مقابل الإمبريالية الرأسمالية كان يمد اليسار بالمعنويات ويعزز نضاله. ذلك أن الاتحاد السوفييتي كان يدعم الكثير من النضالات التحررية الوطنية بهدف مضاعفة نفوذه السياسي في عهد الحرب الباردة. وقد لعب هذا الدعم دوراً مهماً في إنجاز حركات التحرر الوطني الكثير من النجاحات الباهرة. فنجاح الحرب التحررية الوطنية في فيييتنام، وحصد النتائج الملموسة في النضال ضد الاستعمار في لاوس وكمبوديا، وتطور الحركة التحررية الوطنية في أفريقيا، ونجاح كوبا قد انتهل القوة من هذا الواقع.
حصلت التغيرات الكبرى في هذه الأجواء السياسية والأيديولوجية مع انهيار الاتحاد السوفييتي. حيث افتقر اليسار لأحد أهم مصادر المعنويات لديه. ذلك أنه في حال تطبيق الاشتراكية بنحو صحيح، فإنها تمد الشعوب بالأمل وبقوة الحل، وتجلب لهم الحرية والديمقراطية. ولكن عندما تَبيَّنَ مع انهيار الاتحاد السوفييتي أن النظام المطبَّق لم يكن تحررياً ولا ديمقراطياً، فقد أثر ذلك بنحو سلبي للغاية على الحركات اليسارية، مما أضعف لديها قيمها المعنوية وجاذبيتها، وأدى إلى تشتت العديد منها. فبدلاً من توجيه النقد السليم إلى الاشتراكية المشيدة، وبدلاً من تقديم النقد الذاتي بغرض إعادة بناء وتعزيز ذاتها، فقد اتجهت نحو الليبرالية، وابتعدت عن المسار اليساري، وتحولت إلى مجموعات مرفقة بالنظام القائم. كما قال قسم من الحركات اليسارية والاشتراكية أن "النظرية الاشتراكية صحيحة تماماً، ولكن التحريفيين والانتهازيين أخطأوا"، فلم يوَجّهوا أي انتقاد إلى النظرية الاشتراكية التقليدية، ولا إلى رؤيتها بشأن التاريخ والدولة، ولا إلى مقارباتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية؛ بل سعوا إلى الاستمرار بنضالهم بالتشبث بالمقاربات النظرية القديمة. وقد أعاقت هذه المقاربة من تجاوز نقاط العقم والانسداد الذي عانت منه تلك الحركات. ما جعلها تتأثر سلباً بانخفاض معنويات اليسار من جهة، وتصاب بالرعونة والهامشية بسبب إصرارها على أخطائها.
وأثناء تراجع حركات التحرر الوطني وإصابة اليسار بالهامشية بسبب التداعيات السلبية الناجمة عن انهيار الاشتراكية المشيدة، فقد سلك PKK مقاربةً تعتمد المساءلة والنقد. حيث رأى PKK نسبة مهمة من أخطاء ونواقص الاشتراكية المشيدة، وحلل تداعياتها السلبية على بنيته. مما لم يؤثر ذلك سلباً على نضاله، بل وأدى إلى تصعيد حركة الحرية الكردية من نضالها وفق النهج الاشتراكي الحقيقي. أي أنها خاضت نضالاً أكثر تأثيراً وحماساً، والتحمت مع الشعب بنحو أفضل آنذاك، مما جعلها مصدراً مهماً للمعنويات وانتهال القوة منها بالنسبة إلى الشعوب وإلى القوى اليسارية والاشتراكية. وهكذا، فقد أثبتت وقفة القائد APO ونهج PKK أنه بإمكان النهج الاشتراكي والثوري أن يحرز التطور والنجاح في حال تسييره بنحو سديد.
لقد كانت أعوام التسعينيات حقاً فترةً يسودها الإحباط واليأس بالنسبة للقوى اليسارية والديمقراطية. بل وكان يقال أنها نهاية التاريخ، وأنه لم يعد ثمة بديل عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تطرحها الرأسمالية، وأن الرأسمالية ستتحكم بكل العالم بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، وأنه ما من قوة يمكنها الوقوف في وجهها. وبالمقابل، فقد أصيبت الإمبريالية الرأسمالية حينها بنشوة النصر مع انهيار الاشتراكية المشيدة، فكانت تتحرك وهي مؤمنة تماماً بأنه لم يبق هناك أي عائق أمامها، وأن الجميع سيتحول إلى جزء من نظامها. وهكذا كانت تطرح السلبيات المتواجدة في الاشتراكية المشيدة، وتقوم بالترويج المكثف ضد الاشتراكية. وهذا ما زاد من ميول النفور من اليسار، ورسَّخ الوعي القائل بضرورة استسلام الجميع للرأسمالية وبالتفكير فقط في الحياة الفردية. وهكذا تم ولوج مرحلة يتصاعد فيها المفهوم المنقطع عن المجتمع والمنغمس في الفردية. بالتالي، فإن تصعيد حركة الحرية الكردية لنضالها بريادة PKK في الوقت الذي كانت يسود فيه التشاؤم واليأس على صعيد الشعوب والقوى الديمقراطية، قد أدى دوراً تاريخياً بالغ الأهمية، فتحول نضال PKK إلى قيمة معنوية مهمة جداً بالنسبة للشعوب.
إن تطور حركة الحرية الكردية بريادة PKK في تلك الأعوام لم تقتصر فقط على التأثير إيجاباً في تمكين ثبات القوى اليسارية والديمقراطية وتزويدها بالمعنويات في الساحة التركية. بل وأصبحت الأمل للقوى اليسارية وللشعوب كافة في منطقة الشرق الأوسط والعالم أجمع. حيث أثبتت أنه بالإمكان تصعيد النضال ضد الإمبريالية والرأسمالية والأنظمة القمعية، في حال تنظيم الشعب وممارسة سياسة سديدة وسلوك نهج عملياتي صحيح. وعليه، فإذ كان لا بد من الحديث عن عودة انتعاش الحركات اليسارية والتحررية الوطنية بحماس ومعنويات ملحوظة، فمن الضروري جداً رؤية دور حركة الحرية الكردية التي رادها PKK في التسعينيات في تحقيق التطورات الكبرى والتأثير عبرها على المنطقة والعالم.
هل يمكننا القول أن الدور الذي أدته ثورة أكتوبر الروسية في القرن العشرين بالنسبة إلى الشعوب والمضطهَدين، يقوم به اليوم PKK بحيث تحول إلى أمل الشعوب على صعيد قيادته ومستواه التنظيمي والأيديولوجي الريادي؟
يتجسد المصدر الأساسي لقوة PKK اليوم في امتلاكه نهجاً أيديولوجياً ونظرياً قادراً على صياغة الحلول للقضايا الرئيسية التي تعاني منها البشرية، وفي سلوكه سياسة صائبة وتمتعه برؤية تنظيمية وعملياتية سديدة في هذا السياق. حيث إن الريادة والدور التاريخي الذي أداه قد تجسد أساساً في إيجاد الحلول الجذرية للقضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية العالقة في تلك الفترة. ومَن يمتلك هذه المقدرة، بإمكانه أن يؤدي دوراً تاريخياً عظيماً ويؤثر في تغيير مجرى التاريخ.
لقد تناول PKK الاشتراكية المشيدة ونواقصها وأخطاءها وأسباب انهيارها بشكل صحيح، وعمل بموجب ذلك على تحديث ذاته عبر التخلص من أخطائها ونواقصها. ونخص بالذكر أنه كان ثمة مستوى ملحوظ من النقد والنقد الذاتي داخل PKK متجسداً في شخص القائد Apo. وخصائص PKK هذه قد أدت إلى تَبَنّيه المقاربة التي تبحث في أسباب انهيار الاتحاد السوفييتي، وتطرحها، وتعالجها. ذلك أنه لم يَعتَبِر أخطاء الاشتراكية المشيدة على أنها أخطاء الاشتراكية وإفلاسها. بل على النقيض، فقد تعمق على كيفية تعزيز الاشتراكية باستنباط الدروس مما حصل، وعلى كيفية الابتعاد عن الأخطاء التي تسببت بها الممارسة العملية الحاصلة في الاتحاد السوفييتي. بل ويمكننا القول أيضاً أن انهيار الاشتراكية المشيدة في أعوام التسعينيات قد فتح الطريق أمام التفكير السديد والحر بالنسبة إلى PKK والقائد APO. فعلى الرغم من توجيه بعض الانتقادات أثناء سيادة الاتحاد السوفييتي، إلا إنها لم تكن انتقادات جذرية شاملة، ولم تكن تتواجد الأجواء الأيديولوجية والسياسية الكافية للتخلص التام من تلك النواقص والأخطاء. أما مع انهيار الاشتراكية المشيدة، فقد تهيأت الأجواء لانتقاد الاشتراكية الكلاسيكية التي كانت تؤثر سلباً في النهج الأيديولوجي والنظري والسياسي الذي انتهجه PKK وقيادته. أي أن القائد APO و PKK قد وجَّها النقد وقَدَّما النقد الذاتي بهدف التغلب على الأخطاء والوصول إلى النهج الصحيح، كضرورة حتمية لاحترام الاشتراكية. وعليه، فبفضل تعمق القائد APO تَمكَّن PKK من تلافي المرور بالانسداد الذي عانت منه الحركات الاشتراكية الأخرى. فلولا النقد والنقد الذاتي الجذريين الحاصلين بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، لَما كان بمقدور PKK أن يتخطى الانسداد الموجود، ولا أن يخلق المستجدات اللاحقة. بل كان سيظل يعاني من العقم والشلل والوهن على غرار العديد من الحركات الاشتراكية في مختلف أنحاء العالم.
لقد تحلّى القائد APO بروح المسؤولية العليا، واستخلص الدروس الكبرى من ممارسة الاشتراكية المشيدة، فتمكن بذلك من تحقيق مستوى أيديولوجي ونظري سليم في نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، ومن طرح البراديغما القادرة على صياغة الحلول الجذرية للمشاكل والقضايا التي تسببت بها الإمبريالية الرأسمالية. ونخص بالذكر في هذا السياق أنه تم تحليل السلطة والدولة، والتأكيد على أنه لا يمكن الوصول إلى الاشتراكية بالسلطة والدولة، بل عبر الديمقراطية. من جانب آخر، فقد تم تشخيص استحالة أن يقتصر تمثيل البديل المضاد للرأسمالية على مناهضتها أو على انتزاع الاقتصاد من الطبقات الاستغلالية وتسليمه إلى الطبقات المسحوقة. بل ينبغي بالضرورة طرح نظام اشتراكي متكامل يشمل كافة مجالات الحياة. وعلى هذا الصعيد، فقط طرح القائد APO نظرية فكرية حققت مجتمعية الحياة بكل مجالاتها (وليس اقتصادياً فحسب)، ورسم ملامحها الاجتماعية والثقافية والسياسية بما يتوافق تماماً مع نهج الاشتراكية العامر بالحرية والديمقراطية، وحدد ذلك البديل بأنه "العصرانية الديمقراطية" المضادة للحداثة الرأسمالية.
وقد عبّر القائد APO عن ذلك بـ"الكونفدرالية الديمقراطية" المرتكزة إلى المجتمع الاقتصادي المضاد للرأسمالية والمتمحور حول السوق الاشتراكية، وإلى المجتمع الصناعي البيئي المضاد للصناعوية، وإلى المجتمع الأخلاقي والسياسي المضاد للدولة. وأكد على ضرورة تناول هذه العناصر الديمقراطية بصورة متكاملة. وشدد على أن كل ذلك سيتحقق بالتمحور حول حرية المرأة الخالقة للمجتمعية الأولى وللبشرية الأولى، وبتحولها إلى قوة تحدد مسار الحياة الاجتماعية برمتها وتلعب دوراً نافذاً في المجتمع. وبالتالي أكد على ضرورة المقاربة من القضايا وفق نظرية المجتمع الديمقراطي البيئي المتمحور حول حرية المرأة، وعلى حل تلك القضايا تأسيساً على ذلك. وبهذا النحو قد رسم الإطار النظري الذي يمَكِّن من التغلب على القضايا الناجمة عن النظام الدولتي المعمر منذ خمسة آلاف سنة، وعن الحداثة الرأسمالية المعمرة منذ قرنين، وعن النظام الرأسمالي والدولة القومية المعمرة خلال القرن الأخير. وعلى هذا الأساس، فإنه ثمة ثورة ذهنية متمحورة حول الكونفدرالية الديمقراطية المرتكزة إلى المجتمع الديمقراطي المنظم المضاد للدولة، وحول نموذج الأمة الديمقراطية البعيدة كل البعد عن التطرف القومي والتعصب الديني، وحول الرؤية العامرة بالديمقراطية والحرية والمتعمقة على نهج حرية المرأة. فالرأسمالية المتعولمة والمتسببة في خلق المجتمع الاستهلاكي، قد تحولت اليوم إلى خطر كبير يهدد المجتمعات والبشرية جمعاء. وفي الوقت الذي تتثاقل فيه قضايا الشرق الأوسط تحت وطأة التطرف الديني والقوموي والعلموي وقضايا النوع الاجتماعي، فإن PKK قد تحول إلى حركة حرية قادرة على صياغة الأجوبة لجميع قضايا القرن الحادي والعشرين، وذلك بموجب النهج الذي طرحه القائد APO. وقد أفضى هذا النهج إلى ثبات PKK في وجه شتى أنواع الهجمات التي طالته، وإلى خوضه نضالاً أكثر تأثيراً، وتحوُّله بالتالي إلى شعلة أمل بالنسبة إلى الشعوب. ذلك أن الشعوب التي تعاني من القضايا المتفاقمة في البلدان الرأسمالية وفي بلدان الشرق الأوسط على السواء، قد اعتَبَرت النهج الأيديولوجي والنظري والسياسي لـPKK بأنه سيجلب لها الديمقراطية الحقيقية والحياة الحرة المشرّفة.
بفضل تعمق القائد APO والنقد والنقد الذاتي تَمكَّن PKK من تلافي المرور بالانسداد الذي عانت منه الحركات الاشتراكية الأخرى..
هل ترون أن نهج PKK سيستطيع أن يؤدي دوراً نافذاً في حل قضايا شعوب الشرق الأوسط والبشرية في عموم العالم في القرن الحادي والعشرين؟
إذا كان PKK قد تحول اليوم إلى شعلة أمل بالنسبة لشعوب الشرق الأوسط والعالم، مثلما كانت عليه ثورة أكتوبر في القرن العشرين؛ فإن ذلك يرجع بالتأكيد إلى طرحه رؤيته الجديدة بخصوص الحياة الاجتماعية وفق نهجه الأيديولوجي والنظري والتنظيمي والعملياتي. وبالأصل، فإن جميع القفزات الكبرى في التاريخ تتحقق على يد مَن يمتلك ويطرح رؤية تتسم بنظام متكامل كهذا. إذ تكمن قوة المعنى أساساً وراء انتصار المسيحية على العبودية، ووراء إنجاز الإسلام للتطورات العظيمة في الشرق الأوسط والعالم، ووراء تَمَكُّن الحركات الشعبية المرتكزة إلى الإصلاح والتنوير من طرح حضارة وحياة جديدتين في أوروبا، ووراء القفزة الكبرى التي أنجزتها الاشتراكية في القرن العشرين وتأثيرها في العالم. ذلك أن الوصول إلى قوة المعنى هو أمر في بالغ الأهمية. والذهنية التي تصل إليها، وتطرح بنيتها الملموسة، وتحولها إلى حياة اجتماعية متجسدة؛ هي نفسها الذهنية الموفقة دون بد. إذ تتمكن من تذليل المصاعب التي تعترضها أياً كانت. ومهما بَدَت صغيرة وواهنة في البداية، إلا إنها تستطيع تحقيق التطورات العظمى خلال فترات وجيزة، وتجاوز كافة العراقيل، لتتحول إلى منبع أمل بالنسبة إلى البشرية؛ في حال تمكنت من صياغة الأجوبة السليمة للقضايا العالقة. وعليه، فقد دخلنا اليوم مرحلةً سيتمكن فيها نهج PKK من خلق النتائج المماثلة لتلك التي أسفرت عنها الثورات الذهنية التي تمكّنَت من حل القضايا الاجتماعية في التاريخ. ذلك أن PKK ليس قوة أيديولوجية ونظرية فحسب. بل أصبح حركة تحوِّل قوته تلك إلى سياسة سديدة ونهج وطيد وممارسة ملموسة صائبة، وتغيِّر بذلك حياة المجتمع، وتقوم بحل قضاياه الاجتماعية.
فقد حقق PKK تطورات عظمى في باكور كردستان. صحيح أنه لم يصبح دولة، ولم يتمكن من تكريس نظامه بصورة تامة. لكن العالم أجمع يشهد على قدرة نهجه على تغيير المجتمع الكردستاني. وهو نفسه النهج الذي سارت عليه ثورة روجافا، فحققت النجاحات الباهرة، وأنجزت تغييرات اجتماعية مهمة. ما من شك في أنه ثمة أخطاء ونواقص تعاني منها ثورة روجافا، ولم تطبق بعدُ نهج القيادة بالشكل الكامل. ولكن من الواضح أيضاً أن هذا النهج يمثل موقفاً صائباً وأصبح قوة مهمةً بالمقارنة مع الوقفات الأيديولوجية والمسارات السياسية الأخرى السائدة في منطقة الشرق الأوسط. فعلى الرغم من نواقصه وأخطائه، إلا إنه قد أصبح قوة قادرة على إيجاد الحلول اللازمة، ليس على صعيد روجافا فحسب، بل وعلى صعيد شعوب سوريا قاطبة. وانطلاقاً من ذلك، فإن العرب والسريان والشيشان والدروز والتركمان وغيرهم من الشعوب يَعتَبرون ثورة روجافا بأنها النهج الذي سيحررهم هم أيضاً. وإذا ما طَبَّقَت ثورة روجافا نهج القيادة حقاً، وتغلبت على نواقصها وأخطائها الموجودة؛ فستتحول إلى شعلة أمل بالتأكيد، ليس على صعيد شعوب سوريا فقط، بل وبالنسبة إلى شعوب الشرق الأوسط أيضاً. وستغدو قوة ريادية في إنجاز الثورة الديمقراطية في الشرق الأوسط.
إن حقيقة قيادتنا ونهج PKK اليوم هما أفضل مَن يمثل الاشتراكية والديمقراطية ونهج الحرية والحق والعدالة والمساواة والوجدان والأخلاق. وما من نهج أيديولوجي أو سياسي آخر في العالم قادر على أن يتحول فعلاً إلى منبع أمل بالنسبة للشعوب أكثر من هذا النهج. فانطلاقاً من الدروس التي استنبطها القائد APO من الاشتراكية المشيدة، وانطلاقاً من تحليله للمجتمع التاريخي السائد منذ خمسة آلاف سنة؛ قد تمكَّن اليوم من إنجاز أرقى ثورة ذهنية ووجدانية شهدتها البشرية من حيث مستواها الأيديولوجي والنظري. إن الثورة التي أنجزها PKK متجسدةً في شخص القائد APO هي ثورة عظيمة وثمينة وسامية للغاية. وعلى الرغم من عدم فهم محتواها تماماً من قِبَل شعوب العالم، إلا إنه حتى فهمها وتطبيقها المحدودَين يولِّدان الحماس في الشرق الأوسط أولاً وفي عموم العالم ثانياً. وعلى هذا الصعيد، فإن PKK يتسم بطاقة كامنة ستتمخض عن تداعيات شاملة في القرن الحادي والعشرين بحيث تتجاوز ما أنجزته ثورة أكتوبر. ونخص بالذكر أن تحقُّقَ هذه الثورة في الشرق الأوسط، سيُولِّد معه قوة إيجاد الحلول لكافة قضايا العالم. ذلك أن كل قضايا البشرية قد تحولت اليوم في منطقة الشرق الأوسط إلى عقد كأداء. ولذلك نجد أن الكثير من القوى الدولية تتدخل في المنطقة، ولكنها لا تستطيع إيجاد الحلول. كذلك فإن القوى الإقليمية أيضاً عاجزة عن إيجاد الحلول. لكن PKK قد أثبت قوة الحل لديه بالنسبة إلى المنطقة. ومَن يَجِد الحلول لقضايا الشرق الأوسط، ويتحول إلى قوة حل بشأنها؛ فهو الذي سوف يؤثر في البشرية جمعاء، وسيتحول إلى مركز جذب يستقطبها. ذلك أن إيجاد الحلول لقضايا الشرق الأوسط التي تسبب النظام الدولتي المعمر خمسة آلاف سنة باستفحالها واستشرائها، يعني في الوقت نفسه إيجاد الحلول لأجل كافة قضايا البشرية. وعليه، فإن منطقة الشرق الأوسط ستتحول ثانية في هذه المرة إلى مهد الحضارة المبنية على أسس ديمقراطية. وهي تستحق ذلك لأنها تتحلى بالقوة الكافية والطاقة الكامنة التي تخولها لإيجاد الحلو لكافة قضايا البشرية العالمية، في حال مراعاة إرثها التاريخي وقدراتها المجتمعية.
لا شك في أن أوروبا حققت تطورات مهمة في القرون الأخيرة علمياً وتقنياً وفلسفياً، مما جعل الحضارة الغربية في المقدمة. إلا إن الرأسمالية اليوم باتت تُثقِل من وطأة قضايا البشرية، بل وتَسُوقها نحو حافة الفناء. بالتالي، فمن الخطأ انتظار الحل من أوروبا أو من الحضارة الغربية، التي تُعَدّ مركز الرأسمالية. إذ لا قدرة للرأسمالية أو للبلدان التي تزعم أنها رأسمالية على التحلي بقدرة صياغة الحل. ما من ريب في تمتعها بإرث ديمقراطي وفكري مهم، ووصولها إلى مستوى متقدم في هذا السياق. إلا إن الشرق الأوسط هو المكان الذي سيشهد ظهور الذهنية وتجسيد البنية المؤهلتين لأن تَكونا بديلاً نموذجياً مضاداً للنظام الدولتي وقادراً على القضاء على استغلال الرأسمالية والوصول بالشعوب إلى نظام اشتراكي ديمقراطي تحرري حقيقي يعتمد على المجتمع الديمقراطي المنظم. لا شك في أن الوصول إلى نتيجة كهذه في الشرق الأوسط سيكون أمراً صعباً ومليئاً بالمخاضات، بسبب الخصائص الشائكة والأكثر عمقاً في قضايا المنطقة. ولكن، حينما يتم حل تلك المشاكل، فإن أفضل نظام ديمقراطي تحرري واشتراكي سيظهر هنا بالتحديد. بمعنى آخر، فرغم عمق الاستغلال والظلم والقمع في هذه المنطقة، إلا إن تجذُّر الحرية والديمقراطية والروح المجتمعية أيضاً سيكون عميقاً فيها بالأكثر. بل إن زيادة وطأة وشمولية الظلم والغبن والقمع والاستغلال فيها، سيؤدي دياليكتيكياً إلى التطبيق الشامل والعميق للنهج التحرري والديمقراطي، وإلى إبراز النموذج القادر على حل جميع قضايا البشرية العالقة. وظهور قائد فذ كالقائد APO هو على علاقة بالطابع التاريخي والمجتمعي للشرق الأوسط، وبتفاقم قضايا المنطقة. ذلك أن عدم الانسحاق تحت وطأة القمع الساحق في الشرق الأوسط، بل التمكن من الثبات والنضال فيه؛ إنما يعني ظهور حقيقة القيادة القادرة على إحراز النجاح والنصر. وقد أظهر PKK وضعاً كهذا بريادة نهج القائد APO. حيث لم يتبعثر أو يستسلم تجاه القمع والظلم والعنف، بل حلل المشاكل، وتصدى للقمع والعنف، وتجاوزهما، فتحول بذلك إلى قوة حل بارزة بالنسبة للبشرية. وهذا ما نقصده حينما نشير إلى أسباب تحوُّل PKK في القرن الحادي والعشرين إلى مصدر أمل بالنسبة للشعوب، وإلى حركة ثورية رائدة.
ينبغي أن تستند الاشتراكية إلى المساواة ضمن الاختلاف. فمن دون تكريس المساواة ضمن الاختلاف، ومن دون المساواة بين كل ما هو مختلف؛ لا يمكن أن تتحقق الاشتراكية..
ما هي الفوارق بين ثورة PKK وثورة أكتوبر؟
لا شك أنه ثمة فوارق مهمة تميِّز خصائص ونضال حركة الحرية بريادة القائد APO عن ثورة أكتوبر بريادة لينين. فقبل كل شيء، يجب ملاحظة التالي: لم تكن ثمة دعائم عظمى تستند إليها ثورة أكتوبر. بالتالي، فهي بجانبها هذا لم تظهر بالتأسيس على التحليلات التاريخية والاجتماعية الغائرة في العمق. ما من ريب في أنه لماركس وأنجز جهودهما الحثيثة وتحليلاتها العظيمة، وخاصة من جهة تحليل الرأسمالية. وما تزال نشاطاتهما في هذا السياق ثمينة وعظيمة للغاية على صعيد فهم الرأسمالية وإدراك حقيقتها. إلا إنها عبارة عن نظريات غير مجرَّبة على أرض الواقع. وبهذا الجانب، فقد دخلت الاشتراكية المشيدة في مجازفةِ تشكيل نظام لم يُشاهَد قبل ذلك بنحو شامل. إذ خاضت النضال في سبيل خلقِ نظام يَحكمه المسحوقون، وليس المهيمنون. وقد نَمّ ذلك عن حماس عنفواني وكدح عظيم. لقد انطلق هؤلاء بهدف خلق حياة تسودها الحرية والمساواة بكل معنى الكلمة. وكانت نواياهم نزيهة في هذا الخصوص. إلا إن النواقص والأخطاء التي اختلجت أيديولوجيتهم ونظرياتهم قد أدت إلى ظهور مشاكل جديدة في الواقع العملي وإلى تفاقم الموجودة منها. وقد لوحظ ذلك بنحو ساطع في تطبيق الاشتراكية المشيدة التي أعقَبت ثورة أكتوبر. رغم ذلك، فإن الاشتراكية المشيدة غدت تجربة عظيمة بالنسبة لمَن سيخوض النضال الثوري بعد ذلك.
إن ثوار واشتراكيو اليوم محظوظون أكثر من الثوار والاشتراكيين الذي أنجزوا ثورة أكتوبر. ذلك أن النواقص التي أظهرتها ممارسة سبعين عاماً، تقدم معطيات قوية جداً لهم لأجل الوصول إلى رؤية صحيحة بشأن الاشتراكية والحرية والديمقراطية. حيث تُلاحَظ فيها الأخطاء والنواقص ونقاط الصواب بأفضل صورة. وعليه، فإذا ما قُيِّمَت تلك الممارسة بنحو سديد وصحيح، فإن الدروس التي ستُستنبَط منها ستَمُدُّ قوى الحرية والديمقراطية والاشتراكية بالمزيد من القوة. علماً أن تجربة الاشتراكية المشيدة تُشكل اليوم أهم مصدر للقوة بالنسبة لجميع الاشتراكيين، وتمدهم بأهم المعطيات التي تُمكِّنهم من إحراز النجاح. بالتالي، فمَن يقيِّم هذه التجربة العظيمة بعين صائبة، فسيحقق النصر. أما مَن لا يقيِّمها بعين صائبة، بل يتناولها بدوغمائية وقالبية، فلن يستخلص النتائج منها، ولن ينجح. أي أن الإصرار على القديم بنحو دوغمائي، وتناوله وكأنه هو الصواب بعينه، لا يعني بتاتاً الالتزام بقادة الاشتراكية واحترامهم، ولا يعني احترام تجربة الاشتراكية المشيدة ولا جهودَ المشاركين فيها. أما أن نَكون خليقين بأولئك القادة الثوريين وبكل مَن كدح وناضل في سبيل الاشتراكية، فلن يتحقق إلا باستخلاص النتائج والدروس من تجاربهم، والتوجه بناء على ذلك نحو ممارسة عملية أصح وأفضل. ولا يمكننا إلا بهذا الشكل أن نَكون جديرين بمُنجِزي ثورة أكتوبر وبجهود كل الكادحين لأجلها. وانطلاقاً من ذلك بادر القائد APO إلى توجيه النقد والنقد الذاتي بشأن تجربة الاشتراكية المشيدة، وبذل جهوده لاستخلاص النتائج منها والوصول بذلك إلى الرؤية السديدة بخصوص الحرية والديمقراطية والاشتراكية، كي يكون بذلك خليقاً بتجربة الاشتراكية والكادحين لأجلها، وبالقادة الاشتراكيين وبكل مَن كافح وناضل وضحّى في تاريخ البشرية من أجل الحرية والديمقراطية. وفي المحصلة، فقد طرح مقاربة تليق بماركس وأنجلز ولينين وبالثوريين وكل المؤمنين بالاشتراكية وبنهج ستالين رغم كل علاّته ونواقصه. أي أن القائد APO قد أبدى الوقفة المثلى والصداقة التي يستحقونها فعلاً.
لقد تعمق القائد APO في النظرية الاشتراكية، كي لا يبقى بلا نضال، بل لأجل نضال أكثر تأثيراً. كل هذا التعمق وتلك التحليلات وطرح النهج الأيديولوجي والنظري، هو بالتأكيد لأجل تطوير العقيدة الاشتراكية أكثر وتحويلها إلى طراز حياة للبشرية. أي أن هذه المقاربة والرؤية تشير إلى أنه هناك حقيقة قيادة تعجن كل الإرث البشري والأطروحات الفكرية والعملية للقادة الاشتراكيين لتخرج بتركيبة جديدة أنقى تقدِّمُها للبشرية جمعاء. وينبغي اعتبار ذلك على أنه من أهم الفوارق التي تميز ثورة PKK عن ثورة أكتوبر.
لقد تجلّت حقيقة الرأسمالية أيضاً بنحو أوضح بكثير عما كانت عليه في عام 1917. أي أنه ثمة فارق شاسع بين مستوى إدراك الرأسمالية في عهد ثورة أكتوبر وبين مستوى إدراكها اليوم. حيث تبيَّن أن الرأسمالية ليست مجرد استغلال اقتصادي فحسب، بل إنها شكل ممن الحداثة التي تؤثر في كافة مجالات حياة المجتمع وتُغيِّرها. ما من ريب في أن الاشتراكيين والثوريين لم ينظروا إلى الأمر من الزاوية الاقتصادية فحسب. بل تحدثوا عن البنية التحتية والبنية الفوقية، وأن الأولى تؤثر في الثانية، وأنهما سوف تتبدلان. أي أنهما لم يتناولوا الأمر بمقاربة اقتصادية بحتة. إلا إن هذه المقاربة كانت هي الطاغية. بالتالي، فقد استخفّوا نوعاً ما بالقيم التي سُمِّيت "البنية الفوقية"، ولم يرَوا جيداً أنها هي أيضاً تؤثر في حياة المجتمع وتبدِّلُها وتوجِّهها. ونخص بالذكر الثقافة والذهنية اللتين تُعَدّان ظاهرتَين تعودان إلى آلاف السنين. وبهذا الجانب، فإن تحليل القائد APO للرأسمالية بنحو أفضل، وقيامه بتعبئة المجتمع تجاهها لأجل تجاوزها وشل تأثيرها وتمكين الاشتراكية بدلاً منها؛ يشير إلى وجود إرث مهم ووعي عظيم. بالتالي، فبقدر ما يتم فهم هذه الإشكالية بنحو أفضل، بقدر ما يصبح ممكناً إيجاد الحل. وقد تجلّت اليوم ضرورة تحديد ما ينبغي طرحه لأجل فهم الرأسمالية وتحليلها وتجاوزها أكثر مما كان عليه الأمر في عهد ثورة أكتوبر 1917، أي في عهد ماركس وأنجلز.
من جانب آخر، فإن التطورات العلمية تؤثر دوماً في الأفكار. ففيزياء نيوتن في القرن التاسع عشر، ونظرية النسبية لآينشتاين في القرن العشرين قد أثرت في تحديد أفكار الإنسان وفي نظرته إلى الطبيعة والمجتمع. أما ظهور فيزياء كوانتوم اليوم، والتي تجاوزت فيزياء نيوتن، فما من شك في أنه فتح آفاقاً جديدة في الفكر من حيث الفهم الأفضل لخصائص الحركة الداخلية للمادة، وبالتالي من حيث الفهم الأفضل للمجتمع. وهذا ما أدى إلى تعمق الفكر وفهم الديمقراطية والحرية والاشتراكية بنحو أصح. ذلك أن فهم الخاصية الكوانتية للمادة قد زوَّدنا بمعطيات بالغة الأهمية بالنسبة للإنسان بصفته أرقى مادة وبالنسبة إلى المجتمع بصفته طبيعة ثانية. وPKK يخوض نضاله اليوم في مرحلة تشهد تطورات تقنية علمية متسارعة ومتكاثرة. وهذا ما يمده بمعطيات مهمة تُمكِّنه من الوصول إلى نهج أيديولوجي ونظري سديد وإلى رسم سياسة ومقاربة تنظيمية وعملياتية صائبة.
من أهم خصائص PKK هي وصوله إلى رؤية سديدة باستنباط الدروس من ثورة أكتوبر. ولعل أهمها أيضاً هي رؤيته بخصوص الدولة والديمقراطية. حيث طرح بكل شفافية استحالة الوصول إلى الاشتراكية من دون الديمقراطية، واستحالة الوصول عبر الدولة إلى حياة حرة وديمقراطية. وبالأصل، فقد عبَّر الأنارشيون قبل ذلك بكثير عن أن الدولة هي مصدر أهم الرذائل. لكن أهم نواقصهم تتمثل في عدم تحليهم بفكر ممنهج بشأن البديل الذي سيوضَع محل الدولة، أو في عدم قدرتهم على طرح تحليل ممنهج لرذائل الدولة ضمن إطار المجتمع التاريخي. ذلك أنه من المهم تبيان الجينات والخصائص التي انتهلت منها الدولة سيئاتها، وطرح البديل المضاد لذلك من أجل إدراكها بنحو أفضل. إذ لا يمكن للدولة مهما كان شكلها أن تكون أمل الشعوب أو مصدر حماس لها. بناء عليه، فمن المهم تصوُّر عالَم بلا دولة، والوصول إلى ذهنية بلا دولة. إنها أعظم ثورة ذهنية وفكرية في التاريخ. وقد أنجزها القائد APO. فخلافاً للأنارشيين، طرح كافة خصائصها وميزاتها وتداعياتها السلبية منذ ظهورها وحتى راهننا، فتوصل إلى وعي سديد ووطيد بشأن الدولة. وهذا بدوره ما مَكَّنَه من طرح بديل قوي ومؤثر، فكان نقطة مهمة تصبّ في خانة PKK. أي أن عدم تفكير PKK وفق المحور الدولتي قد أدى إلى بلوغه مستوى أهم وأعظم وأقوى مما كانت عليه ثورة أكتوبر، وإلى تحوله إلى مركز جذب للمجتمعات.
هناك نواقص في ثورة أكتوبر على صعيد فهم المادة والمجتمع والتاريخ. حيث ثمة قوالب معينة ورؤية دوغمائية بشأن الأحداث والظواهر. أما في PKK، ثمة سيرورة للنقد والنقد الذاتي. وهذا ما جعله في مكانة أقوى أيديولوجياً ونظرياً من ثورة أكتوبر. كما أنه هناك نواقص فادحة في ثورة أكتوبر بخصوص تحليل الرأسمالية. حيث اعتمدت الصناعوية ووضعت ثقلها عليها، واعَتبَرت الاشتراكية بأنها عبارة عن تمكين طرق المواصلات المكهربة وتطوير الصناعة. لكن إحدى أهم نقاط الضعف والنقص في الاشتراكية المشيدة تتمثل في عدم الطرح الصحيح لكيفية تحقيق هذا التحول الصناعي. بل وفي أنها اتسمت برؤية اقتصادية تقدِّس الصناعوية التي لا تراعي البيئة ولا تأبه بالطبيعة. بالتالي، فحصر التعبير عن التنمية والتعزيز والاشتراكية في القطاع الاقتصادي فقط كان من أفدح الأخطاء. وقد قام القائد APO بالتصحيح الشامل والجذري في هذا الشأن من خلال تحليلاته حول الرأسمالية والاشتراكية المشيدة. وبذلك تمكنت مجالات الحرية والديمقراطية والثقافة من خلق نهج نظري وأيديولوجي يتمثل التطورات الحاصلة في حياة المجتمع بقدر القطاع الاقتصادي بأقل تقدير. لا ريب أنه ستحصل تطورات اقتصادية أيضاً، بحيث تهدف إلى تلبية الاحتياجات الأساسية للمجتمع وتأمين الرفاه في حياته. ولكن، لا يمكن أن يكون ذلك انطلاقاً من مقاربة الرأسمالية. أي أن مقاربة الامتثال والاتباعية لا يمكن أن تكون مقاربة اشتراكية. ولا يمكن تناول الحداثة الاشتراكية بأنها كناية فقط عن تحقيق التطور الاقتصادي وتوفير الإمكانيات الاقتصادية وبلوغ القيم المادية.
ثمة أخطاء في الاشتراكية المشيدة تتعلق بنهج حرية المرأة أيضاً. فهي بجانبها هذا تمثل نهج البورجوازية الصغيرة الذي يعتمد المساواة المطلقة أساساً. وقد وصف لينين والاشتراكيون ذلك في القطاع الاقتصدي بمفهوم "البورجوازية الصغيرة". لكن الاشتراكية المشيدة قد وقعت في فخ "مساواة البورجوازية الصغيرة" فيما يتعلق برؤيتها عن المرأة. حيث تم اعتماد المساواة بين المرأة والرجل في المعامل وفي المجالين الاقتصادي والقانوني، وقيل أنه يحق للمرأة أن تستفيد من كل الإمكانيات التي يستفيد منها الرجل. إنها رؤية ناقصة فيما يخص حرية المرأة. إذ لا يمكن اعتبار حرية المرأة على أنها تحقيق المساواة في بعض المجالات فقط. أي أن التقسيم المتساوي لكافة الإمكانيات بين الجنسين لا يمكن اعتباره بأنه تمكين حرية المرأة. ما من شك في أن هذا الأمر مهم. ولا يمكن الاستخفاف بأهمية المساواة. ولكن، إن كنا نتحدث عن نهج حرية المرأة أو عن قضية حرية المرأة أو تأسيس نظام مرتكز إلى نهج حرية المرأة؛ فإن المرأة في هذا النظام ليست متساوية فحسب. بل إن الأمر يقتضي التحلي برؤية تَكون المرأة فيها محدِّدة لجميع جينات المجتمع، ومؤثرة في جميعها، بحيث يتمحور كل شيء حول نهج حرية المرأة. أي أنه ينبغي أن تترك المرأة بصماتها على كافة مجالات المجتمع. فمن المهم أن تضع المرأة ثقلها بما يتجاوز إطار المساواة، وأن تترك بصماتها على كل شيء، بل وأن يتشكل المجتممع برمته وفق روح وطابع حرية المرأة. وحينها فقط يمكن للاشتراكية أن تكون اشتراكية حقيقية. ذلك أن المرأة هي أول مَن خلق المجتمعية. أما مصدر الدولة والاستغلال والقمع، فهو الحاكمية المتأسسة على الضد من المرأة. وبذلك أثَّرَ القمع والظلم على المرأة بنحو غائر للغاية. بالتالي، فالمرأة ستَحيا وتُحيي الحرية والديمقراطية بكل أعماقها، وستحمي وتطبق المجتمعية أكثر من الجميع. وبهذا المعنى، فإن نهج حرية المرأة ليس نهجاً يعترف ببعض الحقوق للمرأة. لكن الاتحاد السوفييتي فهم الأمر بهذه الشاكلة.
المساواة مهمة. خاصةً وأن الحرية المرتكزة إلى المساواة ضمن الاختلاف، هي من دواعي الاشتراكية. أي أنه ينبغي أن تستند الاشتراكية إلى المساواة ضمن الاختلاف. فمن دون تكريس المساواة ضمن الاختلاف، ومن دون المساواة بين كل ما هو مختلف؛ لا يمكن أن تتحقق الاشتراكية، ولا أن تتأسس الحياة الحرة والديمقراطية. ولكن، إذا كنا سنبني الاشتراكية الحقة، فإن هذا لوحده لا يكفي. وإذا كنا سنؤسس لحياة جديدة مستندة إلى حرية المرأة جنباً إلى جنب مع المساواة ضمن الاختلاف، فهذا ما يقتضي تجاوز إطار المساواة، بحيث تسود رؤية اشتراكية ومجتمعية وحياة اجتماعية تترك فيها المرأة بصماتها على كافة ميادينها. ثمة نواقص للاشتراكية المشيدة في هذا الخصوص أيضاً. حيث رُسِّخَت المساواة المسماة بـ"المساواة البورجوازية الصغيرة" فيما يتعلق بموضوع المرأة أيضاً. أي أنه، وبينما اعتَبَرت المساواة المطلقة في المواضيع الأخرى على أنها "مساواة بورجوازية صغيرة"، إلا إنها لم تتجاوز هذه الرؤية فيما يخص المرأة. مع أنه قد يكون لهكذا مساواة معنى في المجالات الأخرى، إلا إن هكذا رؤية إلى المساواة تتسم بخصائص تؤدي إلى ضمور الحرية والديمقراطية فيما يتعلق بحرية المرأة. بالتالي، فإن الفرق بين نهج حرية المرأة الذي طرحه القائد APO وبين الذي طرحته ثورة أكتوبر ليس فرقاً كمياً فحسب. بل إنه فرق نوعي ومحوري أيضاً. لدى قول ذلك فإنه لا ينبغي فهم القصد منه على أنه لم يتم إيلاء قيمة أو أهمية للمرأة أو أنها بقيت متخلفة. فإذا ما قارنّا الأمر مع العالم الرأسمالي، فسنجد أن المرأة تحاط بقيمة عليا في كل بلدان الاشتراكية المشيدة، وأنها مؤثرة في الحياة الاجتماعية.
يكمن فارق آخر في مفهوم الثورة. إذ ينبغي من الآن فصاعداً عدم فهم الثورة على أنها تعني تدمير الدولة وبناء دولة أخرى محلها. بل يجب البدء بإنجاز وتكريس الثورة الاجتماعية والسياسية اعتباراً من اليوم الحالي. أي أن المقاربة الثورية الأساسية يجب أن تتجسد في الوصول إلى المجتمع الديمقراطي المنظم الذي يدير نفسه بنفسه. هذا ومن عظيم الأهمية عدم تأجيل الثورة إلى ما بعد تدمير الدولة. بل يجب بناء الاشتراكية والمجتمع الديمقراطي ابتداءاً من اليوم. هكذا يجب أن تكون الرؤية الثورية الحقة. ما من شك في أنه سيتم خوض النضال ضد الاستغلال والقمع والدولة والفاشية بهدف ردعها والتغلب عليها. أما تأجيل الثورة إلى ما بعد هدم الدولة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فهو يدل فعلاً على وجود نقاط الضعف والخطأ والوهن الفظيع في الروح الثورية. أما إذا أُنجِزَت ونُظِّمَت وعُزِّزَت الثورة في كل لحظة بدءاً من اليوم وبالتأسيس على الثورة الذهنية والوجدانية، فإن الثورة ستكون اليوم أيضاً قوية، مثلما ستكون كذلك غداً. وسيكون الدفاع عن النفس أقوى في وجه الهجمات، في حال تأسيس الإدارة الذاتية للشعب على أساس الكونفدرالية الديمقراطية المرتكزة إلى المجتمع الديمقراطي المنظم.
إن نهج الحرية والديمقراطية غير المتمحور حول الدولة لدى PKK يؤثر في رؤية المجتمع أيضاً. ذلك أنه لدى الاعتماد على الدولة، فبحكم خصائص الدولة وطابعها، فستسود في المجتمع مقاربات ترفض الاختلاف مع الزمن، وتحاول تنميط المجتمع. حينها، وبدلاً من النظر إلى تنوع المجتمع واختلاف المجموعات على أنه مصدر غنى للبشرية، فإن التشبث بالذهنية الدولتية يخلق مجتمعاً حسب مشيئة الدولة، ويُسخِّر المجتمع لخدمتها، ويخلق أمة تابعة للدولة. أما في حال قبول وتَمَثُّل رؤية سياسية وإدارة تتوافق مع مفهوم الكونفدرالية الديمقراطية (وليس الدولة)، فإن مفهوم الأمة الأفضل والأصح الرديف لذلك هو "الأمة الديمقراطية". وحينها يتبلور الوعي الذي يؤمن بأن كل المجموعات الأثنية والدينية تُشكل أمة باختلافاتها وتنوعها، وأن مفهوم الأمة ينبغي أن يعتمد على الاختلاف المتواجد أساساً في بقعة جغرافية ما في هيئة اتحادات سياسية. فعلى الرغم من الاعتراف إلى حد ما بوجود الشعوب المختلفة في ظل الاشتراكية المشيدة، إلا إن الإدارة المركزية وما تخلقه من نزعة دولتية صارمة قد أظهرت معها الإدارات الدائرة في فلك الدولة، بدلاً من إبراز الأمة الديمقراطية والإدارة الديمقراطية. أما الجمهوريات التي تحتضن شعوباً مختلفة، فلم تستطع التحول إلى جمهوريات ديمقراطية معتمدة على الديمقراطية المحلية بحيث يدير الأهالي المحليون أنفسهم بأنفسهم فيها.