نجاح محلي وسط أزمات مركزية.. هل تغير انتخابات البلديات الليبية قواعد اللعبة؟
مخاض عسير تعيشه الأزمة الليبية، لكن وسط هذا التعقيد جاءت الانتخابات المحلية كحدث محوري عكس تطلعات الليبيين نحو اختيار قيادات تمثلهم، لكن يبدو الأمور ليست بتلك السهولة.
مخاض عسير تعيشه الأزمة الليبية، لكن وسط هذا التعقيد جاءت الانتخابات المحلية كحدث محوري عكس تطلعات الليبيين نحو اختيار قيادات تمثلهم، لكن يبدو الأمور ليست بتلك السهولة.
ولأول مرة منذ عقد كامل، جرت الانتخابات البلدية في ليبيا يوم 16 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، بمشاركة شعبية مرتفعة وعلى امتداد 58 بلدية بكافة تراب الدولة، أي بالشرق والغرب، فاعتبر الأمر بمثابة شعاع ضوء في نفق الأزمة الليبية المظلم، ربما يمهد الطريق نحو إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية المتعثرة وإنهاء الانقسام بين حكومتين.
وعادة ما تلقى باللائمة على مناطق الغرب الليبي الخاضعة لسيطرة تنظيمات الإسلام السياسي ومليشيات موالية لتركيا في تعطيل مسار الانتخابات العامة، لا سيما وهي من انقلبت على نتائجها عام 2014، ومن هنا جاءت بذرة الانقسام بين شرق وغرب، لكل منهما حكومته، وحتى لما شكلت حكومات وحدة وطنية في طرابلس العاصمة انتهى بها المطاف إلى الارتماء بأحضان المليشيات.
هذه المرة جرت الانتخابات البلدية دون تسجيل أي خروقات تذكر، ما أثار عديداً من التساؤلات حول مدى إمكانية إجراء الانتخابات على المستوى الوطني طالما الأمور كانت جيدة، فضلاً عما إذا كان نجاح المحليات قد جاء تعبيراً عن تفوق الغضب الشعبي من الانقسام والتشرذم والأوضاع الصعبة وربما كذلك رسالة بأن الليبيين سأموا الوضع الراهن.
ليس بعد
يقول الكاتب والباحث السياسي الليبي عزالدين عقيل، في اتصال هاتفي لوكالة فرات للأنباء (ANF)، إن نجاح هذه الانتخابات بلا شك عبر عن رغبة لدى الليبيين بالخروج من وضعهم الحالي واختيار ممثليهم غبر انتخابات نزيهة، مستدركاً بالقول: "لكن إذا تحدثنا عن إجراء انتخابات على المستوى الوطني فإن الأمر يرتهن للأسف برغبات القوى الدولية المؤثرة وتحديداً الولايات المتحدة وبريطانيا".
ويرى عقيل أن واشنطن ولندن، على وجه التحديد، تظهران دعماً واضحاً للانتخابات المحلية، بينما تعرقلان بشدة إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية شاملة، مفسراً ذلك بأنه جزء من استراتيجية لتقسيم النفوذ والسيطرة على ليبيا، فالسلطات المحلية، التي تُشكل كيانات أصغر وأكثر انتشاراً، تُسهل على تلك الدول الإمبريالية التحكم في كافة مناطق البلاد، دون الحاجة للتعامل مع سلطة مركزية قوية قد تخرج عن سيطرتها.
ويدلل المحلل السياسي الليبي على ذلك بالقرارات الدولية السابقة، مثل تعطيل الانتخابات الرئاسية في عام 2021، عندما برزت خلافات بين القوى الغربية وروسيا حول مرشحين مثل سيف الإسلام القذافي، وبدلاً من الدفع نحو استكمال المسار الديمقراطي، تمت إعادة تعيين ستيفاني ويليامز كمبعوثة أممية، ما أدى إلى إلغاء العملية الانتخابية برمتها.
ويشدد عقيل على أن واشنطن ولندن تعتمدان على البلديات كأدوات سياسية للتحكم في تفاصيل الحياة الليبية، محذراً من خطورة هذا النهج، فمن جهة، قد تتحول البلديات إلى أدوات للتمرد ضد الحكومتين الحاليتين اللتين تتقاسمان السلطة في ليبيا، ومن جهة أخرى، فإن الاعتراف بشرعية السلطات المحلية دون دعم السلطة المركزية يخلق نظاماً هجيناً وغير متجانس، يهدد بتفكك الدولة على المدى البعيد.
استعداد للتخلص من الوصاية
جانب من إشكاليات الأزمة الليبية وربما جوهرها أن كل جانب من الفرقاء السياسيين تمترس حول وضعه الراهن بما يسيطر عليه من ثروات ومصالح، يخشى أن تؤثر الانتخابات العامة حال إجرائها على ما بقضبته، ومن خلفه واقعياً قوى دولية كانت الفاعل الأكبر في استمرار الأزمة الليبية لنحو 14 عاماً، وحطمت الآمال في استعادة الدولة منذ الإطاحة بنظام العقيد الليبي الراحل معمر القذافي.
يقول الدكتور محمد المصباحي رئيس مركز التمكين للدراسات والبحوث الاستراتيجية إن الانتخابات البلدية تشكل تجربة ناجحة تعكس رغبة الليبيين الحقيقية في المضي قدماً نحو الانتخابات العامة، مشيراً إلى أن نسبة المشاركة المرتفعة التي تجاوزت 76% تعبر عن استعداد الشعب للتغيير والتخلص من الوصاية المفروضة عليهم.
وأوضح المصباحي، في تصريحات لوكالة فرات للأنباء (ANF)، أن الانتخابات البلدية تغطي جميع المناطق الجغرافية في ليبيا، وهو مؤشر على قبول الليبيين بالعملية الديمقراطية ونتائجها، مشيراً إلى أن الاستقرار الأمني الذي رافق هذه الانتخابات يعكس وحدة الليبيين، رغم الخلافات، كما استدل كذلك من قبل بأحداث إعصار درنة التي عكست تلك الوحدة.
لكن المحلل السياسي الليبي البارز يتحدث بدوره عن التدخلات الخارجية كإشكالية كبرى، حيث بسببها تُستغل ثروات ليبيا الهائلة لخلق الفوضى والانقسام ومنع إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، ودعا هنا إلى ضرورة تعزيز المصالحة الوطنية عبر العدالة الانتقالية وجبر الضرر لتجاوز الخلافات ومعالجة الأضرار التي لحقت بالمجتمع.
وأيا كانت وجهة النظر بشأن ما إذا كانت البلديات ستقود إلى انتخابات على المستوى الوطني من عدمه، فإنها تؤكد أنه بالإمكان إجراء هذا الاستحقاق الذي ينظر إليه باعتباره مفتاح لحل الأزمة، وأن الشعب الليبي يتوق إلى انتشال دولته من وضعه الراهن المحزن، وأن الكرة ربما الآن في ملعب القوى السياسية الكبيرة (شرقاً وغرباً) إذا تحررت من الحسابات الخارجية وسارت باتجاه حل ليبي – ليبي.