إليكم متابعي وكالة فرات للأنباء (ANF) الجزء الثالث من الحوار مع الرئيس المشترك لمنظومة المجتمع الكردستاني وأحد مؤسسي حزب العمال الكردستاني, جميل بايك, وتحليلٌ دقيق عن ما جرى في جنوب كردستان, والدور الإقليمي لتركيا وإيران, بالإضافة لمواضيع آخرى في السياق الشرق أوسطي.
.الكونفيدرالية الديمقراطية تحجم مشروع الدولة وتحد من عنفها وسطوتها..
قلتم في تقييماتكم كحركة أن فكرة الدولة القومية قد أفلست، وأنها باتت عائقاً أمام تمكين الحرية والديمقراطية في الشرق الأوسط. وأنتم كحركة الحرية الكردية، ترتأون نظام "الأمة الديمقراطية" كبديل عن الدولة القومية. فما هو الفرق بينهما، وخاصة على صعيد الشرق الأوسط؟
إن منظور الدولة القومية هو منظور الدولة السلطوية. وانطلاقاً من ذلك تسعى العديد من مراكز القوى إلى تأسيس نظام الاستغلال والقمع بناءً على جهاز الدولة المتميزة بهكذا طابع. علماً أن إنكلترا قد تلمّست هذه الحقيقة بعد الحرب العالمية الأولى، فعملت على تأسيس العديد من الدول حتى داخل العالم العربي. حيث حَوَّلَت العديد من الحكام العرب في مناطق مختلفة إلى أصحاب دولة، كي تؤسس نفوذها في المنطقة عبر هؤلاء الحكام العرب، الذين تسببوا مع دويلاتهم في إضعاف العرب. بالتالي، فلا أحد رفض هذا التقسيم، ولا أحد قال أن هذا النمط من الدولة لا يتناسب مع التاريخ العربي ولا مع المجتمع العربي. بل بالعكس، فكل حاكم عربي قام بتأسيس دولة له في مناطق نفوذه، وبدأ بتسليط القمع والاستغلال على مجتمعه العربي هناك. والنتائج التي تمخضت عن ذلك وسط العالم العربي واضحة للعيان. لذا، فلا يمكن حل قضايا الشرق الأوسط، إلا وفق ذهنية "الأمة الديمقراطية" والرؤية السياسية التي لا تعتمد على السلطة. ذلك أن تاريخ الشرق الأوسط هو تاريخ متكامل بكل معنى الكلمة. فالشعوب تعايشت بشكل متداخل على مر آلاف السنين، واسمتدت القوة من بعضها بعضاً. ما من ريب في أنه تم تأسيس دول عظمى في تاريخ الشرق الأوسط، كإيران على سبيل المثال، وكالإمبراطوريات العظمى التي أسسها العرب في المنطقة اعتماداً على قوة الإسلام. وبعد ذلك أتى الأتراك ليستقروا في إيران أولاً انطلاقاً من خصائص الغزو لديهم، ثم بدأوا بالتوسع بدءاً من بلاد الأناضول باتجاه المشرق والمغرب، ليؤسسوا بذلك الإمبراطورية العثمانية.
لكن تلك الدول لم تكن دولاً ذات خصائص قومية. فالدولة القومية تعتمد على صهر الشعوب والجماعات الأخرى. حيث إنها لا تستمد القوة من الاختلاف الكائن ضمن حدودها. بل وتدخل في توترات واشتباكات مع كل مَن هو مختلف، وتحاول إضعافه. في حين أن الإمبراطوريات تتسم بخاصية مشتركة عامة، وهي أنها تعترف إلى حد ما بحق الشعوب والعقائد المختلفة في تشكيل إداراتهم الذاتية في أماكن تواجدهم ضمن حدودها. بالتالي، فإن الإمبراطوريات الإيرانية والعربية والعثمانية لم تكن دولاً قومية. هذا ولم تنقسم منطقة الشرق الأوسط في تاريخها إلى أكثر من ثلاثة أو أربعة أقسام. أما اليوم، فإذا ما أدرجنا شمال أفريقيا أيضاً، فسنجد أنه هناك أكثر من ثلاثين دولة. ودعك من أن تُكمِل هذه الدول بعضها بعضاً، بل من الواضح أنها كانت تُضعِف بعضها بعضاً عبر التناحر والعداء. من هنا، فإن منظور "الأمة الديمقراطية" هو نموذج الحل الوحيد الصحيح، الذي يناسب التعدد الأثني والعقائدي والثقافي الغني في منطقة الشرق الأوسط، والذي سيجعل المنطقة مجدداً مهداً للحضارات مثلما كانت عليه سابقاً.
إن الدولة القومية تقسيمية وانفصالية ومحرضة على الصراع. وهي عامل مؤثر في خلق الأزمات والفوضى المستمرة، كي تعتمد عليها في تسيير الظلم والقمع بهدف استغلال الجماعات بصفتها حُكمَ مجموعةٍ سلطوية. أي أنها ليست جهازاً إدارياً ينتمي إلى الشعوب أو المجتمع. ذلك أن الإدارة المنتمية إلى الشعوب والمجتمعات لا يمكن أن تكون استبدادية إلى هذه الدرجة، ولا يمكن أن تعادي الاختلاف بهذا القدر. بالتالي، فالدولة القومية ليست عاملاً توحيدياً على الإطلاق. بل هي تقسيمية وانفصالية. أما منظور "الأمة الديمقراطية"، فهي رؤية سوسيولوجية لا تسمح بالصراع والاشتباك فيما بين الشعوب والجماعات والعقائد، بل وتُسهِّل صياغة الحلول بخصوص القضايا التي تظهر بين مختلف الجماعات.
إن الديمقراطية المحلية وشبه الاستقلاليات المحلية، أي الفيدراليات، ليست عامل تقسيم، بل هي عامل توحيد. قد تُعتَبَرُ الفيدراليات وشبه الاستقلاليات والأجهزة الإدارية عاملَ تقسيم في ظل ظروف الرأسمالية أو في الأجواء التي تسودها الذهنية الرأسمالية أو الذهنية الدولتية السلطوية. أما الفيدراليات وشبه الاستقلاليات التي لا تتشبث بذهنية الدولة القومية ولا بالذهنية الدولتية والسلطوية، والتي تعتمد على الديمقراطية وتتطلع إلى تكريسها، والتي ترتكز إلى الديمقراطية المحلية؛ فهي بالتأكيد ليست عامل تقسيم، بل عامل توحيد. وعليه، يجب عدم الخلط بتاتاً بين الرغبة في تأسيس فيدرالية أو هيمنة مرتكزة إلى منظور الدولة القومية أو الرأسمالية، أو إلى مفهوم الطبقة الحاكمة، وبين الفيدرالية وشبه الاستقلالية التي تعتمد على الديمقراطية المحلية للشعوب.
ثمة فوارق بين المفهوم المستند إلى الدولة القومية وبين مفهوم السياسة المستندة إلى "الأمة الديمقراطية". فبينما تعتمد ذهنية "الأمة الديمقراطية" إلى الديمقراطية المحلية، وتتخذ من الوحدة أساساً لها؛ فإن مفهوم الذهنية الدولتية القومية يهدف بطبيعة الحال إلى صهر كل الجماعات المختلفة وتعريضها للتطهير القومي. وهذا ما يؤدي بالشعوب والجماعات المختلفة إلى أن تتطلع لبناء دولة قومية منفصلة. أي أن مفهوم الدولة القومية أو التطرف القومي هو عامل انفصال ونزاع واشتباك. وعليه، فالتطرف القومي هو ظاهرة منافية ومخالفة لتاريخ الشرق الأوسط. ونخص بالذكر أنه لدى اتحاد التطرف القومي مع التعصب الديني، فإنه حتى الأديان التي أدت دوراً إيجابياً طيلة التاريخ على صعيد الحياة الاجتماعية والثقافية للشعوب، تتحول إلى عوامل تلعب دوراً سلبياً. أما التطرف القومي، فيتحول إلى ستارٍ يُخفي سياسات التطهير العرقي والإبادة. من هنا، ينبغي إبعاد ذهنية الدولة القومية عن شعوب ومجتمعات الشرق الأوسط، حتى تتمكن الأديان والعقائد التي أدت دوراً إيجابياً من حيث تكريس المجتمعية التاريخية للمنطقة من تجنُّب الوقوع في أدوار سلبية، وحتى تستطيع أداء مهامها الاجتماعية الجوهرية. أما بالنسبة إلى "الأمة الديمقراطية"، فهي تعيق دمج العقائد بالتطرف القومي. بل وتؤَمِّن الحياة الحرة لكل العقائد والجماعات الأثنية. كما يكتسب الدين معناه الحقيقي أيضاً في أوساط "الأمة الديمقراطية"، وتتحول الثقافات المختلفة والجماعات الأثنية المختلفة إلى قيمة ثمينة في تلك الساحة أو البقعة الجغرافية. وعلى النقيض من ذلك، فإن الدولة القومية تُخرِج الجماعات الأثنية المختلفة من كونها قيمةً ثمينة، وتسعى إلى القضاء عليها. علماً أن الجميع يرى كيف جَعَلَ التطرفُ القومي الأتراكَ والعربَ والفُرسَ يهاجمون قيم البشرية، بدلاً من أن يَكونوا في خدمة البشرية. ومن الواضح كيف أن هذا المفهوم يسخّر الدين أيضاً في خدمته لتأليب الشعوب على بعضها بعضاً، ويحوّله إلى أداة بيده لتصعيد الاشتباكات والحروب المتبادلة في المنطقة.
الفرق الأساسي الأهم بين مفهوم "الأمة الديمقراطية" ومفهوم الدولة القومية على صعيد الشرق الأوسط، هو أن الأول يناسب تاريخ وثقافة المنطقة، في حين أن الثاني يُعَدُّ ذهنيةً وبنيةً تخالف وتدمّر تاريخ وثقافة وقِيَم المنطقة. وهذا بحد ذاته فارق كبير وفاصل يوضح بكل شفافية مدى ضرورة تفضيل "الأمة الديمقراطية" في المنطقة.
إن مفهوم "الأمة الديمقراطية" يعزز الديمقراطية، ويُعَبّر بالتالي عن تمكين كافة الجماعات الأثنية والدينية من تنظيم ذاتها. وهو لا يعني التطلع إلى بناء دولة ولا نفوذ السلطة. بل يؤدي إلى تأسيس نظام كونفدرالي ديمقراطي يُنظّم فيه كل مجتمع نفسه بنحو ديمقراطي، ويسود فيه دياليكتيك العلاقات الديمقراطية فيما بين المجتمعات. أما النظام الكونفدرالي الديمقراطي، فيعني الإدارة التشاركية للمجتمعمات الديمقراطية على أساس المساواة ضمن الاختلاف. وبينما تفضي الأمة الأحادية إلى الدولة القومية، فإن "الأمة الديمقراطية" تؤدي إلى الكونفدرالية الديمقراطية. وبمعنى آخر، فإن مفهوم "الأمة الديمقراطية" هو الأنسب من أجل تكريس الكونفدرالية الديمقراطية.
إن الدولة تحتضر اليوم في مكان ولادتها، أي في الشرق الأوسط. وهي الآن في أزمة جادة في نفس المكان الذي ظهرت فيه على مسرح التاريخ، حصيلة القضايا التي ضاعفتها وأثقَلَتها على مر آلاف السنين. إن الدولة القومية قد أقحمت المنطقة في أزمة سياسية حادة، وفي سياق الفوضى. أما رؤية "الأمة الديمقراطية"، فهي القوة الوحيدة التي تمتلك مفاتيح الحل في المنطقة، لأنها تسفر عن تشكيل النظام الكونفدرالي الديمقراطي المرتكز إلى المجتمع الديمقراطي المنظَّم. إن النظام الكونفدرالي الديمقراطي هو نظام يُدير فيه كل مجتمع منظَّم نفسه بنفسه على أساس الديمقراطية المحلية. ولكنه بنفس الوقت يعني أن تغذي المجتمعات فيه بعضها بعضاً لدى اتحادها على أساس تكافلي. فالإرادات المحلية هي الأساس في هذا النظام. ذلك أن الإرادات المحلية ومختلف الجماعات تقوم بتوحيد جوانبها القوية مع بعضها بعضاً، وتشكل بذلك تركيبة جديدة أقوى في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فتخلق بذلك النظام الديمقراطي الحقيقي.
قد تحيا الكونفدرالية الديمقراطية جنباً إلى جنب مع الدولة. ولكنها تقوم بتحجيم الدولة. فنظراً لتكريس الديمقراطية المحلية وخصوصيات الاختلاف وشبه الاستقلالية في ظل الكونفدرالية الديمقراطية، فإن الدولة تتحول بالتالي إلى جهاز سياسي لامركزي. وحتى لو تواجدت الدول في البلدان التي تتكرس فيها الكونفدرالية الديمقراطية، فإن المجتمع يظل يدير نفسه بنفسه، وبالتالي يتحول إلى قوة تُزيد من تحجيم الدولة وتتخطاها مع الزمن.
إن مفهوم الدولة القومية هو الدعامة والأرضية الخصبة التي يقوم عليها نفوذ الإمبريالية والحداثة الرأسمالية في منطقة الشرق الأوسط. في حين أن منظور "الأمة الديمقراطية" ترتكز إلى وحدة مختلف الشعوب والجماعات والعقائد، فتعزز الديمقراطية، وتؤدي إلى سيادة الرؤية الديمقراطية. وهكذا تتسبب في إضعاف دعامات الإمبريالية في المنطقة، وتعيق بسط نفوذها فيها. بمعنى آخر، فلا يمكن تأسيس نظام سياسي يتناسب مع الواقع التاريخي والثقافي للمنطقة، ويقدر على مناهضة الإمبريالية والرأسمالية؛ إلا عبر منظور "الأمة الديمقراطية". ولدى تأسيس الأنظمة الديمقراطية المستندة إلى هذا المنظور، فسيضعف تأثير القوى الخارجية. أما أمة الدولة، فتسببت بدخول الإمبريالية الرأسمالية والحداثوية إلى المنطقة وبَسط نفوذها فيها خلال القرنين الأخيرين، وأدت بالتالي إلى زيادة وطأة قضايا المنطقة. وعليه، فإن الدولة القومية في حقيقتها هي بمثابة خنجر مغروس في مجتمعات الشرق الأوسط. وهي نظام سياسي لا يتناسب مع الواقع التاريخي والمجتمعي للمنطقة، ولا يمثل سوى مصالح الإمبريالية الرأسمالية. وبالأصل، فإن الوقائع البارزة خلال المائة أو المائة وخمسين عاماً الأخيرة تشير بكل وضوح إلى أن الدول القومية مجرد عملاء إقليمية لقوى الإمبريالية الرأسمالية.
تنظيم "داعش" في العراق استفاد من تحجيم السنّة وتمدد إيران وأذرعها..
ما هي مقاربتكم من الأحداث في العراق؟
لا يمكن تناول الأحداث في العراق بشكل منفصل عن التطورات في الشرق الأوسط. إذ يُعَدّ العراق من الساحات التي شهدت أشد الصراعات السياسية منذ حرب الخليج. ومع التدخل الأمريكي ظهر في العراق الكيان التنظيمي الذي يسمى "القاعدة"، والذي اعتماد على العرب السُّنّة، وكان يتلقى الدعم من السعودية وتركيا ومن البلدان العربية السُّنّية الأخرى. وحماية طارق الهاشمي، الذي هو على علاقة مع تنظيم "القاعدة" العراقي، من قِبَل تركيا؛ إنما يسلط الضوء على هذه العلاقات بصورة كافية. ومن جانب آخر، تخوض إيران أيضاً صراعاً قوياً لبسط نفوذها على العراق. بالتالي، ثمة حقيقة تقول أنه هناك الكثير من القوى التي تتصارع في العراق. بعد التدخل الأمريكي وصل الأغلبية العربية الشيعية إلى سدة الحكم. لكن إقصاء العرب السّنّة، الذين كانوا أصحاب نفوذ طيلة تاريخ العراق، من النظام السياسي أصبح مصدراً للااستقرار الذي ما يزال مستمراً. فإقصاء السّنّة من النظام قد أفضى إلى ظهور "القاعدة"، وأدى بعدها إلى استفادة ما يسمى بتنظيم "داعش" من هذه الأجواء، بل وإلى انطلاقه من العراق ليتحول إلى قوة مؤثرة في سوريا. إلا إن ثوار روجافا والقوى الديمقراطية في شمال سوريا قد ألحقوا الهزيمة بـ"داعش". وحينها تجرأ العراق على البدء بالقتال العسكري ضد داعش. وبعد صراعٍ صارم تسبب بموت آلاف المدنيين تم دحر داعش من الموصل ومحيطها، وبالتالي إضعافه. ثمة انطباع مفاده أن العراق قد زاد قوةً بعد دحر داعش. لكن هذا مغالطة. فالعراق الذي لا يحل مشاكله مع الكرد، والذي يُقصي العرب السّنّة من النظام ولا يحل مشاكله معهم؛ لا يمكنه أن يكرس الاستقرار. بالتالي، لا يمكن الزعم حينها أن النظام العراقي الحالي قد أصبح أقوى. انطلاقاً من ذلك، يبدو أن الصراع السياسي في العراق سيطول لسنين طويلة.
بعد دحر داعش قام العراق بحملة استهدفت المناطق المتنازع عليها في باشور كردستان، وذلك بدعم من تركيا وإيران. لقد قام العراق بهذه الحملة بعد أن وجد أن القوى الدولية أيضاً لن تعترض في حال دخوله إلى تلك المناطق في ظل التوازنات السياسية القائمة في الشرق الأوسط. وبالفعل، فقد التزمت أمريكا ومختلف القوى الأخرى الصمت تجاه حملة العراق هذه. أو بالأحرى، لم ترغب مواجهة سلطة "العبادي" الذي تُعَوّل عليه في العراق. كما إن السياسات الخاطئة المتَّبَعة في باشور كردستان قد شكلت الأرضية لقيام العراق بتلك الحملة. ذلك أن حكومة باشور كردستان لم تقرأ الأوضاع السياسية في المنطقة والعراق وباشور أيضاً بعين سليمة. فقد ناهضت الكرد في روجافا، ووقفت مع تركيا في صراعها ضد PKK. بل واعتمدت على تركيا لشل تأثير القوى المعارضة داخل باشور وفي مواجهة العراق. أي أنها أصرّت على الخيار الأسوأ والعقيم، بدلاً من اللجوء إلى الخيارات الصحيحة والسياسات السديدة التي تعزز من شأنها وتُقوّيها. فقد سعَت إلى تقوية شوكتها اعتماداً على الدولة التركية التي تَرود العداء للكرد في المنطقة. والنتيجة كانت تكبّد الخسائر. فتركيا التي كان يُعتَقَد بدايةً أنها سوف تلتزم الصمت تجاه الاستفتاء، قامت بحملتها المضادة مع قرب موعد الاستفتاء، باتحادها مع العراق الذي كانت ضده ومع إيران التي كانت على خلاف معها حتى ذاك الوقت؛ وذلك بهدف عرقلة تحوُّل الكرد إلى قوة نافذة في العراق. إن هذا مرتبط تماماً بالسياسات الخاطئة التي سلكها "الحزب الديمقراطي الكردستاني PDK" وحكومة باشور. فبدلاً من اتِّباعها سياسةً واستراتيجيةً مرتكزةً إلى المجتمع الديمقراطي وإلى حقيقة التحول الديمقراطي كأفضل منطلق بالنسبة للكرد في المنطقة، لجأت إلى طرح الاستفتاء بمفهوم سلطوي ودولتي، وأصرّت على سياسة بسط النفوذ على المناطق المتنازع عليها؛ مما أوقَعَها في مستوى أكثر تخلفاً بكثير مما كانت عليه.
إن أفضل سياسة من أجل باشور والعراق كانت في خوض صراع دمقرطة باشور كردستان استناداً إلى تمكين التحول الديمقراطي في العراق. فلو أن الكرد كانوا قوة طليعية في صراع دمقرطة العراق، ولو أنهم سلكوا سياسات سديدة في هذه الوجهة؛ لكانوا سيجنوا نتائج عظيمة مختلفة. إلا إنه لم يتم تَمَثّل المقاربة الديمقراطية في باشور، ولم يتم اتّباع استراتيجية دمقرطة العراق. بل تم الإصرار على السياسات القوموية والدولتية. وهذا ما جعلهم في مواجهة العراق، على الرغم من أن الكرد كانوا قد اكتسبوا مواقع مهمة في باشور، وكانت مكانتهم في المناطق المتنازع عليها قوية. ولو أنه تم سلوك مقاربة ديمقراطية بشأن المناطق المتنازع عليها اعتماداً على دمقرطة باشور كردستان، وضمن إطار مشروع دمقرطة العراق بأكمله؛ لكان الكرد سيحمون مكانتهم في العراق، ولَتحولوا إلى قوة نافذة في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية في العراق. ولو أنهم خاضوا الصراع مع العراق بموجب ذلك لتعزز شأنهم أكثر. ذلك أنه ثمة شرائح واسعة جداً ترغب في تمكين التحول الديمقراطي في العراق، كالسُّنّة والسريان والإيزيديين والكاكائيين والشبك والتركمان وغيرهم من الجماعات الأثنية والدينية، التي كان بإمكانها حينها أن تضمن وجودها بأفضل الأشكال في عراق ديمقراطي. والكرد بالأصل كانوا سيدعمون مشروع التحول الديمقراطي بصورة كاملة. وعليه، فإن جميع تلك الشرائح الديمقراطية والأوساط الديمقراطية والديناميات الأثنية والدينية الديمقراطية المختلفة كانت ستأخذ أماكنها في خانة المقاربة والسياسة الهادفتين إلى تمكين التحول الديمقراطي في العراق. وكان الكرد سيتحولون إلى قوة رائدة في نضال الديمقراطية هذا.
إن تَعَرّض الكرد لسياسات الاستعمار والإبادة طيلة قرن من الزمان في منطقة الشرق الأوسط، قد مكّن من خوضهم الصراع في سبيل حياة حرة وديمقراطية. وهذا ما حَوَّلهم إلى دينامية ديمقراطية في المنطقة. كما إن تَعَرُّضهم الدائم للقمع والظلم والجور، قد جعلهم قوةً ديمقراطية أساسية في المنطقة. وهذا ما رسّخ وعي الديمقراطية والحرية لديهم. لقد كان الكرد يتحلون بدينامية وظروف كهذه. وبدلاً من قيام PDK وحكومة باشور كردستان بالاستفادة من هذه الإمكانيات والخصائص الكردية، وبدلاً من الإصرار على التحول الديمقراطي كأفضل مقاربة بالنسبة للكرد؛ إلا إن مقاربات الهيمنة ومفاهيم السياسة المركزية السلطوية التي جعلت الشرائح الاجتماعية والسياسية الأخرى في كردستان في القطب المقابل لهم، قد أدت إلى إصابة PDK وYNK وحكومة باشور بالوهن. ثم تَوجّهوا إلى الاستفتاء وهم في أضعف حالاتهم، حيث تغيب الوحدة بين الكرد وداخل سياسة باشور، وحيث البرلمان معطل، والتوتر مع العراق في أقصاه! والعلاقة الوحيدة التي تكمن فيها القوة هي تركيا، التي تعادي الكرد وترفض كلياً أن ينجز الكرد أي مكسب في أي مكان كان! وفي جو الاعتماد على تركيا بهدف تعزيز شأن الكرد، سادت المقاربة العمياء التي لا تُبصر الحقائق على صعيد حقيقة السياسة وعِلمها. ولكن، علينا الإشارة أيضاً إلى أنه، ورغم الوهن الذي لحق بالكرد، إلا إن العراق أيضاً لم يزد قوة.
حكومة كردستان أخطأت بالإعتماد على تركيا في سياستها تجاه روج آفا..
أي سياسة ينبغي على الكرد سلوكها في ظل الأوساط السياسية الحالية في العراق؟
ما تزال الحكومة المركزية في العراق بعيدة عن الذهنية التي تحل المشاكل، والتي تتجسد فقط في تمكين التحول الديمقراطي. حيث ما يزال التحول الديمقراطي مشروعاً قادراً على تعزيز شأن الكرد في الأجواء الحالية. ففي حال اتّباع سياسات تهدف إلى دمقرطة العراق بالتأسيس على دمقرطة باشور كردستان، وفي حال عقد العلاقات المتبادلة بناءً على ذلك؛ فإن حنين الشعوب إلى الديمقراطية سوف يضيق الخناق على الحكومة المركزية. بالتالي، فإما أن يخطو العراق خطواته باتجاه التحول الديمقراطي والاعتراف بالحقوق الديمقراطية الأساسية لكافة الشعوب والجماعات داخله، ليعزز شأنه ضمن إطار وحدة العراق؛ أو أن يبقى على نزاع وصراع مع الكرد والسّنّة، حتى يصاب بالوهن والشلل. إذ ما تزال القضايا عالقة في العراق. وحل تلك القضايا يتم بالتحول الديمقراطي المرتكز إلى "الأمة الديمقراطية". أما مفهوم الدولة والتطرف القوموي، فلن يدر نفعاً على الكرد ولا على الجماعات الأخرى. إن أشد السياسات خطأ تَمَثّلت في تطلع الكرد في باشور كردستان إلى الدولة. لقد كان هذا الموقفَ السياسي الأضعف، والذي كان واضحاً منذ البداية أنه سيجعل الكرد وجهاً لوجه أمام خطر خسران المكتسبات التي بيدهم. وقد تم توجيه التحذيرات اللازمة في هذا الخصوص. إلا إن إدارة PDK، وبدلاً من أن تفهم هذه التحذيرات بنحو سليم، فقد نظرت إليها وكأنه لا يُراد لها أن تتطور، أو أنها مناهضةٌ للاستفتاء. بالتالي، لم تُصغِ إلى تلك التحذيرات، فواجهت نتائج وخيمة. وباختصار، فإننا نعتقد أن المقاربة السديدة تتجسد في أن ينتج الكرد سياسة لمنفعة عموم العراق، وأن يحموا حقوقهم بالتأسيس على دمقرطة العراق. وفي حال صار الكرد دولة وفق هذه السياسات والمقاربات، فسوف ينجزون مكتسبات أكثر بكثير مما يتوقعون.
من جانب آخر، لا يمكن للكرد أن يضمنوا الحياة الحرة والديمقراطية بشكل مستدام في جزء واحد فقط. بل بمقدورهم ضمان مكتسباتهم بالتأسيس على دمقرطة الشرق الأوسط بعد تمكين الحرية في الأجزاء الأخرى من كردستان. ذلك أن تَغيُّر الأوضاع في المنطقة لا يمكن أن يتحقق إلا بتكريس التوازنات الجديدة اعتماداً على حرية الكرد. وهذا ما يتطلب أولاً تمكين التحول الديمقراطي والتغيير الحقيقي في تركيا، التي تَرود العداء للكرد. ومن دون الأخذ بهذه الحقيقة، ستبقى كل الخطوات السياسية التي سيخطوها الكرد خاطئة. من هنا، فإن الاعتماد على تركيا في الصراع مع العراق أو انتزاع مكاسب منه، هو سياسة خاطئة ينبغي التخلي عنها بالتأكيد. كما إننا على قناعة بأن السياسة السديدة هي أن يكتسب الكرد حقوقهم في الأماكن المسماة بالمناطق المتنازع عليها أيضاً بناءً على دمقرطة العراق. وعلى الكرد والعرب والتركمان والإيزيديين والسريان أن يتحركوا وفق مقاربة "الأمة الديمقراطية". أي أن تمكين التحول الديمقراطي الحقيقي في العراق ممكن فقط بتكريس الديمقراطيات المحلية وشبه الاستقلاليات الديمقراطية.
المقاربة السياسية الأصح هي إدارة العراق بنظام فيدرالي. كما إننا ضد المقاربات التي تتطلع إلى القضاء على الفيدرالية الكردية، والتي طُرِحت مؤخراً في الأجندة. إذ من الواضح تماماً ضرورة وجود "فيدرالية كردستان" المتكاملة، حتى وإن وُجدت مناطق شبه مستقلة ضمن هذه الفيدرالية. فنحن على قناعة تامة بأن وجود شبه الاستقلاليات المحلية وفق خصوصياتها لن يُضعِف "فيدرالية باشور كردستان"، بل سيكون عاملاً يُقوّيها. كما نعتقد بضرورة تكريس الديمقراطية المحلية في المناطق الأخرى أيضاً من العراق. فقد تَكون بعض الأماكن مناطق شبه مستقلة، كـ"شنكال" على سبيل المثال. كما إن وضع التركمان في تلعفر ووضع السريان أيضاً مختلف. وبإمكانهم التمتع بإدارات شبه مستقلة. كما إن اتخاذ السّنّة أماكنهم داخل النظام كمنطقة فيدرالية أو شبه مستقلة في أماكن تواجدهم قد يكون سبيلاً للحل. إنها مقاربات ينبغي تناولها ضمن إطار وحدة العراق، وليس تقسيمه. إننا لا نؤمن بتاتاً بإمكانية حل المشاكل وفق مشاريع التقسيم والتطلع إلى بناء دولة، سواء في تركيا أو سوريا أو العراق أو إيران. بل نؤمن بإمكانية حل المشاكل بناءً على الفيدراليات وشبه الاستقلاليات المرتكزة إلى الديمقراطية المحلية بالتأسيس على تمكين التحول الديمقراطي في البلاد. وهذا هو إطار مقاربتنا السياسية على صعيد عموم العراق أيضاً.
لتركيا اليد في تحريض بغداد وطهران ضد اقليم كردستان لإضعافه وتحجيمه..
هل لكم أن تشرحوا قليلاً سياسات الدولة التركية المضادة لتحالف الكرد والعرب وبقية الشعوب؟ وكيف يمكن إفراغ تلك السياسات؟
لا ترغب الدولة التركية في تعزز شأن البلدان العربية. فبالرغم من مساعيها لأجل عقد علاقات جيدة مع العرب بين الحين والآخر، إلا إنها لا تفعل ذلك من منطلق نظرتها بعين المساواة إلى الشعب العربي أو بهدف تطوره. بل على النقيض، فهي تركّز على تحقيق غاياتها في تأسيس نفوذها وسيطرتها على العالم العربي. وهذا ما يمكن تسميته بالعثمانية الجديدة، التي ستغدو فيها تركيا دولةً عليا، وسيصبح العرب شعباً مرتبطاً بدولة تابعة وموجَّهةٍ من تلك الدولة العليا. وهي تعقد العلاقات مع العرب على هذا الأساس، وليس رغبةً منها في تعزيز شأنهم. فهي تدرك أن زيادة قوة العرب يعني القضاء على أحلامها في التوسع في الشرق الأوسط. ذلك أن العرب من أهم شعوب المنطقة، إلى جانب الكرد والفُرس. أما الأتراك، فقد أتوا إلى بلاد الأناضول بعد ذلك بكثير، وتوسعوا نحو الشرق والجنوب والغرب بقوة العسكر. هذا وظل العرب أيضاً تحت الحاكمية الاستعمارية الإقطاعية العثمانية قروناً طويلة. ومثلما هو معلوم، فقد أسس العرب إمبراطورية عظمى في العهد الإسلامي، فأصبحوا مركزاً حضارياً مهماً. لكن الأتراك هم مَن قضَوا على وضع العرب هذا، إدراكاً منهم بأن تعزُّز العرب يعيق الأتراك من تحقيق أحلامهم في المنطقة. ولهذا السبب تناهض تركيا الوحدة والتحالف الكردي-العربي. ولهذا السبب أيضاً لا ترغب في تمكين التحول الديمقراطي في سوريا والعراق. فهي تريد أن يتنازع ويتناحر العرب والكرد في العراق وسوريا. فإذا ما تحققت الدمقرطة في هذين البلدين، فإن ذلك يوطد العلاقات العربية-الكردية ويؤدي إلى التحالف بين الشعبين. ومَن يتحالف مع الكرد تزداد قوته في المنطقة. ولهذا السبب تود الدولة التركية تأليب الكرد والعرب على بعضهم بعضاً في كل من سوريا والعراق.
كما إن الدولة التركية ترى بوضوح أن المشكلة العربية الكردية قد قاربت على الوصول إلى الحل في كل من سوريا والعراق. حيث تتضاعف تدريجياً الرؤية التي تعترف بوجود الكرد في كِلا البلدين. وهذا ما تَعتَبره الدولة التركية خطراً عليها. أي أنها تَعتَبر تَطَوُّر العلاقات الكردية-العربية على أساس الاعتراف بالوجود الكردي داخل العالم العربي، بأنها خطر يهدد سياسة التطهير العرقي والإبادة التي تنفذها ضد الكرد. ولذلك تبذل كل ما في وُسعها لإعاقة حصول ذلك. فبالرغم من صراعها الكبير مع الحكومة العراقية، إلا إن اتفاقها مع إيران في دفع العراق للهجوم على الكرد هو نتيجة لهذه الرؤية التركية الاستراتيجية. فعندما يكون الكرد على نزاع وصراع مع العرب، فإن المشاكل ستتفاقم في العراق وسوريا، وهذا ما يفضي بدوره إلى تطبيق سياسة التطهير العرقي ضد الكرد في العالم العربي أيضاً، على غرار ما تفعله الدولة التركية ضد الكرد. ولهذا السبب تتهيج تركيا لإعاقة الكرد من نيل حقوقهم في سوريا. وقد ذَكرَت حكومة "حزب العدالة والتنمية AKP" مراراً وتكراراً أنها أخطأت في السابق حينما لم تمنع تشكيل الفيدرالية في باشور كردستان. بالتالي، فهي تعمل على إفشال وإجهاض العلاقات الكردية-العربية من منطلق تصحيح خطأها ذاك. إنها ترغب في أن يحذو العرب حذوها من حيث إنكار الكرد والاشتباك الدائم معهم! فبهذا الشكل سيُصاب العرب بالوهن، وسيتم سد الطريق أمام الاعتراف بوجود الكرد وأمام ظهور الأجواء السياسية الجديدة التي تتكرس فيها الأخوّة الكردية-العربية. وهي تلجأ إلى كل الأساليب والطرق من أجل تحقيق ذلك.
من هنا، فمن بالغ الأهمية عقد العلاقات المتينة مع العرب، سواء لأجل سد الطريق أمام سياسات الدولة التركية الساعية إلى إجهاض العلاقات العربية-الكردية، أم لأجل إفساد سياساتها وذهنيتها الإنكارية المرتكزة على التطهير العرقي. من هنا، ينبغي تناول حل القضية الكردية في سوريا والعراق بالتأسيس على دمقرطة هذين البلدين. أما المقاربات القوموية أو السلطوية أو الهادفة إلى بناء الدولة، فهي مقاربات لا تدخل في منفعة الكرد إطلاقاً. فالمهم بالنسبة للكرد هو الحرية والديمقراطية وتكريس الإدارة الذاتية بهويتهم ولغتهم وثقافتهم. في حين أن الدولة والسلطة لا تعنيان سوى تحقيق مآرب بعض الشرائح في تأسيس احتكار الاستغلال والقمع والتسلط على الشعب الكردي أو الشعوب الأخرى. فجوهر مشروع الدولة في باشور هو السياسة الهادفة إلى تأسيس نظام استغلالي وتسلطي يخدم مصلحة الطبقات الكردية الحاكمة وبعض الشرائح الأخرى من أجل التحول إلى سلطة ودولة على حساب المجتمع. أي أنه لا يُعنى بترسيخ الحياة الحرة والديمقراطية للشعب الكردي. وإذا ما أخذنا الواقع الشرق أوسطي في الاعتبار، فدَع جانباً من أن يؤدي منظور الدولة والسلطة إلى تمتع الكرد بالحياة الحرة والديمقراطية، بل إنه سينمُّ عن اشتباكات ونزاعات تُقحِم الوجود الكردي في المخاطر والمهالك. وباختصار، فقد يخلق هذا المنظور وضعاً يتحول فيه إلى جزء من سياسة تأليب شعوب المنطقة على بعضها بعضاً على يد بضعة قوى. من جانب آخر، فإن الذهنية الدولتية لن تثمر عن شيء سوى تأجيج التطرف القومي العربي والكردي والفارسي من جهة، وتمهيد الأرضية لأجل تنفيذ سياسة الإبادة ضد الكرد حصيلة ذلك من جهة ثانية. بالتالي، على الكرد ألاّ يُعَوِّلوا على الحياة الحرة والديمقراطية بطلب الدعم من هذه الدولة أو تلك أو ببناء دولة جديدة.
لا يمكن إفراغ سياسات الدولة التركية الهادفة إلى إعاقة تأسيس العلاقة الكردية-العربية وإلى تأجيج الاشتباك الكردي-العربي، إلا بمقاربة تتطلع إلى تمكين التحول الديمقراطي في البلاد اعتماداً على أخوّة الشعوب وفق نهج "الأمة الديمقراطية". إذ يتضج بكل جلاء أن الدولة لم تجلب الحياة الحرة والديمقراطية للشعوب، بل وأنها باتت بلا جدوى في الشرق الأوسط أولاً وفي عموم العالم ثانياً. وإذا ما أخذنا بالحسبان أنها جلبت الدمار الكبير والظلم الجائر على الشعوب، فستتبين ضرورة الابتعاد عن السياسات الدولتية التي لم يعد لها نفع على الشعوب، بل ولا تخلق سوى المشاكل. لقد شهد القرن العشرون سياسة بناء دولة لكل أمة. وقد كان هذا في الحقيقة جزءاً من سياسة الرأسمالية والطبقات الحاكمة التابعة لها. لم تجلب الرأسماليةُ الخيرَ للبشرية. بل إن الرأسمالية تُعَبِّر عن التسرطن الحقيقي بالنسبة إلى البشرية. فقد فاقمت من مشاكل وقضايا الشعوب. وعليه، ينبغي التخلص من ذهنية الدولة القومية وما أسفرت عنه من مفهوم الاستغلال الرأسمالي، والذي حَوَّل الدولة والرأسمالية في راهننا إلى عبء ثقيل على البشرية. بالتالي، ثمة حاجة ماسة لنظرية جديدة تتخطى المقاربات المهيمنة الاستبدادية المركزية التي فَرضَها النظام السلطوي الدولتي على مر التاريخ. وتتجسد هذه النظرية في نظرية المجتمع الديمقراطي البيئي المتمحور حول نهج حرية المرأة، والتي طرحها القائد APO. أي أنها النظام الكونفدرالي الديمقراطي المتأسس على المجتمع الديمقراطي المنظَّم اعتماداً على "الأمة الديمقراطية". إنها ذهنية جديدة ونهج جديد ونظرية جديدة.
ما من شك في أن النظرية القوموية الدولتية التي سادت في القرن العشرين أسفرَت عن تداعيات سيئة للغاية على صعيد الشعوب والمجتمعات. وقد آن الأوان لتجاوزها ونسفها والنظر إلى العالم بذهنية جديدة وبنظرية جديدة. وحينها فقط يصبح بالإمكان تأسيس نظام شرق أوسطي مرتكز إلى تآخي الشعوب والجماعات الأثنية وفق نهج "الأمة الديمقراطية"، وليس إلى صراعها وتناحرها. وللشرق الأوسط عموماً وللكرد خصوصاً حاجة ماسة إلى ذلك. وبالأصل، لا يمكن للكرد أن يصلوا إلى النتائج المرجوة، إلا حين يتناولون حل القضية الكردية ضمن الإطار الشرق أوسطي. فمن بالغ الأهمية الرد على سؤال: كيف ستتحقق الحرية والتحول الديمقراطي على الصعيد الشرق أوسطي؟. أما التساؤل عمّا سيؤول إليه وضع الكرد، فلن يجلب الحرية والديمقراطية للكرد. ذلك أن المشاكل والقضايا السياسية متكاملة ومترابطة ومتفاعلة في عموم الشرق الأوسط. من هنا، فعلى الكرد أن يعلموا يقيناً أنهم لن يستطيعوا ضمان حياتهم الحرة والديمقراطية، ما لم يترسخ التحول الديمقراطي وما لم يتحقق تغيير الذهنية والمسار السياسي في الشرق الأوسط. بالتالي، ينبغي الاعتماد أساساً على تقييم الفرص السانحة في سوريا والعراق من حيث عقد العلاقات والتحالفات بين العرب والكرد وحل مشاكلهم وفق ذلك، كي يتم التمكن من إجهاض سياسات الإبادة والتطهير العرقي التي تنفذها الدولة التركية على المنطقة برمتها.
لا توجد شعوب شوفينية، ولكن توجد طغم حاكمة شوفينية النزعة وترى مصالحها في تأجيج النزعات الشوفينية والعنصرية..
هل ترون كحركة كردية أن شعوب المنطقة حليف استراتيجي لكم؟ وإذا كان كذلك، فعلى أية أرضية سيتوطد ويستمر هذا التحالف؟
لا يمكننا اعتبار القوى الخارجية ولا القوى الإقليمية الاستبدادية الاستعمارية حليفاً استراتيجياً. بالتالي، إذا ما قيل: ومَن سيكون حليف الكرد؟ فسنقول أن شعوب المنطقة هي التي ستكون حليفهم. وسيكون من الخطأ البحث عن حليف آخر سواها. إذ إن الشعوب لا تعادي بعضها بعضاً. لكن الدول القومية هي التي تؤلب الشعوب على بعضها بعضاً من خلال التطرف القومي أو التعصب المذهبي، لتؤجج نار الفتنة والنزاع فيما بينها، وتتمكن بالتالي من تأمين سيرورة سلطاتها الاستبدادية. بناء عليه، ينبغي التخلص حتماً من الأحكام القوموية المُسبَقة، والإدراك جيداً أنه لا نزاع ولا مشاكل فيما بين الشعوب، واعتبار كافة الشعوب حليفاً استراتيجياً. وإذا كان ثمة تطرف قومي أو نزعة شوفينية لدى الشعوب، فإن القوى الحاكمة والقوى الاستبدادية والقوى الفاشية المعتمدة على الإبادة والتطهير العرقي هي التي تخلق ذلك. من هنا، لا داعي لتجريم الشعوب والزعم بأنها شوفينية أو قوموية. فالطبقات الحاكمة وبيروقراطية الدولة الاستعمارية التي تلجأ إلى الإبادة والتطهير العرقي هي التي تفعل ذلك. بالتالي، يتوجب اعتبار الشعوب حليفاً استراتيجياً، وعقد العلاقات والتحالفات معها بغية خوض النضال المشترك ضد القوى الحاكمة. ينبغي أن يكون الشعب الكردي والشعوب الأخرى في تركيا حلفاء، للنضال معاً ضد السلطة القائمة. وينبغي خوض النضال بهدف تمكين التحول الديمقراطي في سوريا والعراق وإيران بالتأسيس على أخوّة الشعوب. كما إن التحالف سيكون الأرضية المتينة لشعوب المنطقة في سبيل خوض النضال المشترك الهادف إلى تمكين التحول الديمقراطي في بلدان الشرق الأوسط. فالتطلع إلى الديمقراطية يعني أن تُدير الشعوب نفسها بنفسها، وأن تتخلص من السلطات المركزية السلطوية، وأن تُبرِزَ إرادتها من أجل التمتع بحياة حرة في بلدان ديمقراطية. أي أن التحول الديمقراطي هو لصالح الشعوب بالتأكيد.
أيُّ شعب يرفض التحول الديمقراطي؟ وأيُّ شعب يرفض أن يتحول إلى قوة مؤثرة أو أن يكون فاعلاً في إدارة بلاده؟ ومَن الذي يقبل بإدارة مدينته أو ضاحيته من قبل حُكّام عَيَّنَتهم قوى أخرى دخيلة عليه؟ ما من شك في أن الشعوب ترغب في إدارة مُدنها وضواحيها بنفسها. وانطلاقاً من ذلك، فإن التحالف ينبغي أن يتأسس على أرضية التحول الديمقراطي وبموجب منظور "الأمة الديمقراطية". وما من معيار آخر أو سبب آخر لذلك. بمعنى آخر، فالتحالف بين الشعوب يعني تمكين التحول الديمقراطي المرتكز إلى إدارة الشعوب لنفسها بنفسها، وإلى أخوّة الشعوب وفق منظور "الأمة الديمقراطية". وهذه الأرضية كافية ووافية لأجل تأسيس وتكريس التحالف. ولدى خوض النضال وتسيير الأنشطة بناءً على هذه الأرضية، فإن ذلك يعني الاعتراف بحق كل الشعوب والجماعات في أن تحيا حياة حرة وديمقراطية بهوياتها وثقافاتها. ويعني أيضاً الاعتراف بحق جميع العقائد في أن تعيش بموجب قِيَمِها وإرثها العقائدي. هذه هي الديمقراطية الحقة. ولا داعي للبحث عن أرضية أخرى، في حال الإجماع على هذه القواسم المشتركة بخصوص الديمقراطية، وفي حال التطلع إلى تمكين التحول الديمقراطي كهدف رئيسي. ذلك أن التحول الديمقراطي الحقيقي يعني البحث عن تكريس الحق والعدل والمساواة.
ما من قوة عالمية يمكنها أن تكون ضماناً للشعوب. وما من قوة إقليمية يمكنها أن تكون ضماناً للكرد خصوصاً وللشعوب عموماً. إذ ما من ضمان للشعوب سوى التحول الديمقراطي. وفي المكان الذي يغيب عنه التحول الديمقراطي، لن يكون هناك أي معنى لضمان تمنحه أية قوة. ويسري هذا الأمر بالأكثر على منطقة الشرق الأوسط. أما القول بأن "هذا الكلام هو شعارات مؤقتة تعتمد على المصالح، وأن الظروف والتوازنات والأجواء ستتبدل غداً، وأن الداعمين اليوم قد يصبحون خصوماً في الغد"؛ فكل ذلك ليس بمقاربة سليمة. فكيف لنا ألاّ نتحالف مع الشعوب المجاورة، وأن نبحث عن حلفاء آخرين في مكان آخر؟! هل هذا أمر منطقي أو معقول؟ من جانب آخر، لا يمكن البحث عن حليف من بين الدول الإقليمية الاستبدادية. فـ"الحزب الديمقراطي الكردستاني PDK" كان حليفاً وشريكاً لتركيا حتى وقت قريب. حيث تحالف مع دولة وسلطة AKP الاستبدادية التي تتسلط على الكرد وتظلمهم، بدلاً من أن يتحالف مع القوى الديمقراطية ومع الحركة الكردية الديمقراطية في باكور كردستان. فهل هذا منطقي؟ وهل لهذا التحالف فائدة على الكرد؟ وما هي نتيجة ذلك؟ لقد تَكَبّد PDK والشعب في باشور كردستان خسائر فادحة. من هنا، لا يمكن لأحد أن ينال الحرية أو يتمتع بالديمقراطية اعتماداً على أية قوةٍ إقليمية حاكمة. قد تُعقَد العلاقات مع بلدان المنطقة. لكن التحول الديمقراطي يجب أن يكون المعيار الأساسي فيها. أي أنه بالمقدور عقد وتطوير العلاقات مع كافة البلدان والقوى التي تعترف بالحياة الحرة والديمقراطية للشعوب وللجماعات الأثنية والدينية ولكافة الشرائح الاجتماعية، أي التي تَقبل بالتحول الديمقراطي وتعتمد على المقاربة الديمقراطية.
إن الشعوب والقوى السياسية التي تقبل بالديمقراطية هي الحليف الأساسي للشعب الكردي في عموم العالم. فدعمُ الشعوب ومؤازرتها هما اللذان أَمَّنا إنجاح ثورة روجافا وهزيمة داعش في كوباني. ولولا اليوم العالمي لمناصرة كوباني في الأول من شهر تشرين الثاني، ولو دعم الشعوب في باكور كردستان وتركيا لثورة روجافا، فهل كان لكوباني أن تتحرر؟ إن مقاومة الشعب الكردي في كوباني، ودعم الكرد جميعاً في باكور كردستان بالدرجة الأولى وفي جميع الأماكن الأخرى عموماً، ودعم شعوب تركيا وشعوب العالم هو الذي مَكَّن من تحرر كوباني. ينبغي أن نتلمس ونرى هذه الحقيقة. أي أنه على الكرد أن يَعتَبروا الشعوب حلفاء لهم دون بد، وأن يَعقدوا العلاقات مع كافة شعوب المنطقة بعيداً عن المقاربات القوموية المتطرفة. وبناء على ذلك يتوجب خوض النضال في سبيل تمكين التحول الديمقراطي في كل من تركيا وسوريا والعراق وإيران، ونيل النتائج المأمولة من ذلك. هذه هي الاستراتيجية الأكثر صواباً.
ولا يمكن عقد العلاقات مع البلدان أو الدول الأخرى، إلا في حال كانت تعتمد على أخوّة الشعوب وتدعم التحول الديمقراطي وتراه يصبّ في صالحها. أي أنه بالإمكان عقد العلاقات مع كل قوةٍ تدعم التحالف مع الشعوب، وتؤازر وحدة الشعوب بهدف تكريس التحول الديمقراطي. بالتالي، لا يمكن التفكير في أن يتحالف الكرد مع القوى الإمبريالية الرأسمالية اللاديمقراطية أو مع القوى الإقليمية الاستبدادية السلطوية اللاديمقراطية. إذ ثمة معيار وحيد في التحالف: أَلا وهو التطلع إلى تمكين التحول الديمقراطي في المنطقة. وهذا ما يعني بدوره عقد التحالفات مع الشعوب. وبمعنى آخر، فاستراتيجية تمكين التحول الديمقراطي في المنطقة لا يمكن أن تكون إلا على أساس التحالف مع الشعوب. فإذا اعتُبِرَت شعوب المنطقة حليفاً، فسيتم خوض النضال من أجل ترسيخ التحول الديمقراطي الحقيقي في المنطقة. هذه هي مقاربة القائد APO وحركة الحرية الكردية من شعوب المنطقة. إذ لم تَقُم حركة الحرية الكردية حتى الآن بعقد أية علاقة أو بتسيير أي نشاط يخالف مصالح شعوب المنطقة. ولا يمكن التفكير بأن تفعل ذلك بعد الآن أيضاً.
اتهامات بشار الأسد لثوار روج آفا بالخيانة باطلة، ومن يريد الديمقراطية والعيش المشترك مناضل ووطني وليس بخائنٍ..
اتّهَم بشار الأسد ثوارَ روجافا بالخيانة. كيف تُقَيِّمون هذه المقاربة؟
لا مشكلة للكرد في سوريا ولثوار روجافا مع الشعب العربي. بل إنهم يتطلعون إلى العيش بتآخٍ مع الشعب العربي، ويُعربِون عن تفضيلهم هذا بكل وضوح. ذلك أن الكرد لم يُعادوا أبداً مَن لم يتهجم عليهم. ثمة العديد من القوى في سوريا لاقت الدعم من القوى الدولية، مثل داعش والنصرة والجيش السوري الحر وغيرهم. لكن الكرد لم يَعقد العلاقة مع أي من هذه القوى، لأنها لا تهدف إلى تحقيق التحول الديمقراطي. بالتالي، لا يستطيع أحد الزعم بأن ثوار روجافا لا يهدفون إلى تكريس التحول الديمقراطي. وعليه، فإن اتهامات بشار الأسد غير مقبولة، ولا أساس لها من الصحة، ولا تستند إلى دلائل ملموسة. ما فعله الكرد هو أنهم أنجزوا الثورة الديمقراطية في أماكن تواجدهم في سبيل حياة حرة وديمقراطية، ثم ناضلوا مع الشعب العربي ومع السريان ضد داعش في أجواء من الأخوّة الحقيقية. أما اعتبار مقاربة الكرد هذه على أنها خيانة، فهو تحريف وتزوير للحقائق. فمع أيٍّ من العصابات المعادية للشعوب وللبشرية تعامل الكرد في سوريا؟ ومع أيٍّ من العصابات المدعومة من القوى الخارجية تعامل الكرد في سوريا؟ لو لم يحارب ثوار روجافا تلك العصابات، لَما كان بمقدور النظام السوري أن يصمد. أما مقاربة الكرد من النظام السوري، فكانت على أساس تمكين التحول الديمقراطي. وبطبيعة الحال، فهُم لا يَعتَبرون النظام الحالي ديمقراطياً. وعليه، فالتطلع إلى تحقيق التحول الديمقراطي في سوريا هو من أبسط الحقوق الطبيعية للكرد. وهم لا يسلكون سياسة أخرى في هذا السياق. فإذا تَحَقَّق التحول الديمقراطي في سوريا على أساس الاعتراف بالحقوق الأساسية للكرد، فلن تستطيع أية قوة خارجية أن تصمد في وجه إرادة الشعوب.
كما لا يهدف PKK في تركيا سوى إلى ترسيخ التحول الديمقراطي فيها. أي أنه يهدف إلى توطيد الحياة الحرة والديمقراطية في أماكن تواجد الكرد على أساس تمكين التحول الديمقراطي في تركيا. إنه يطمح في شبه الاستقلال الديمقراطي وفي الإدارة الذاتية الديمقراطية، ويسعى إلى تهيئة أرضية الحياة الأخوية مع شعوب تركيا، والتي سوف تعزز من شأن تركيا على أسس ديمقراطية. لـPKK تاريخ نضالي عمره 45 سنة. وللكرد نضالهم الباسل على هدى نهج القائد APO، والذي يهدف فقط وفقط إلى تمكين التحول الديمقراطي بالتأسيس على أخوّة الشعوب. وما من حدث واحد أو موقف واحد أو حالة واحدة تشير إلى عكس ذلك.
مشروع "إخوة الشعوب" هو الترياق المضاد للشوفينية والتعصب في الشرق الأوسط..
رغم أن المشاريع التي طرحها السيد أوجالان تعتمد على الهويات الأثنية، إلا إنه يتم تصويرها وكأنها أطروحات تخص الكرد فقط. ألا يدل ذلك على مقاربات ضيقة؟ وما الذي ينبغي عمله لأجل تغييرها؟
ما من ريب في أن الآبوجيين وPKK قد ظهروا إلى مسرح التاريخ بهدف تحرير الكرد. أي أنهم بدأوا بالنضال بهدف تمكين الحياة الحرة والديمقراطية للشعب الكردستاني، ونظّموا صفوفهم أساساً من أجل الكرد، وخاضوا صراعهم على أرضية الشعب الكردستاني. وباعتبار أن الكرد شعبٌ تعرّض للإبادة والمجازر، وعانى في كردستان من الاستعمار والتطهير العرقي، فإن النضال المضاد لذلك عُرِّف بأنه نضال الحرية من أجل الكرد. إلا إن PKK وحركة الحرية الكردية لم يَقتصرا فقط على نضال الحرية من أجل الكرد فحسب. أي أن حركة الحرية الكردية لم تسلك إطلاقاً المقاربات القوموية المتطرفة. وبالأصل، فقد ظهرت إلى الميدان كنضال حرية كردستان. وخاضت نضالاً شاقاً في سبيل ترسيخ الحياة الحرة والديمقراطية من أجل جميع الشعوب الموجودة في كردستان، من كرد وعرب وسريان وتركمان وآزريين وأرمن وأتراك أذربيجان. إلا إن الكرد برزوا إلى المقدمة في هذا النضال، بسبب هجمات الإبادة التي تطال وجودهم كأمة، وبسبب الظلم والقمع اللذين تعرضوا لهما.
ومثلما هو معلوم، فهناك رفاق من شعوب مختلفة وذات أهمية ضمن مؤسسي PKK. فهناك الرفيقان كمال بير وحقي قرار من منطقة البحر الأسود، واللذين كانا من أعظم مساعدي القائد APO. حيث قال القائد APO عنهما: "إنهما روحي الخفية". فقد كانت لكمال بير مساهمات عظمى في تطوير حركة الحرية الكردية، وأدى دوراً كبيراً في اتساعها. ونخص بالذكر أنه كان قائداً حقيقياً استطاع تفعيل الشبيبة وتحفيزهم بوقفته وخصائصه الثورية. بالتالي، فإن دور كمال بير كان مميزاً عن الآخرين في تأمين انخراط الشبيبة إلى صفوف النضال بنحو كثيف منذ سنوات PKK الأولى. كذلك الرفيق حقي قرار كان يجسد روح الحركة وجوهرها وثقافتها وأخلاقها ورفاقيتها ووقفتها. فقد تخمَّرت ثقافة PKK بخصائصه. إنه لم يستطع خدمة النضال والكدح لأجله لسنين طويلة، بسبب استشهاده الباكر. ولكنه خلق قِيَماً عظمى بالنسبة لحركة الحرية الكردية وللشعب الكردي خلال حياته النضالية الوجيزة. فشخصيته المتواضعة والكادحة، ورفاقيته، وشفافيته التي كانت كالماء الزلال، وعزيمته التي لا تلين، وحساسيته في النضال، وصرامته في المبادئ والثوابت الأيديولوجية والتنظيمية؛ كل ذلك جعله يُضاعف من قِيَم PKK كقائد طليعي تَمَكّن من عيش الروح الثورية وتجسيد معاييرها في شخصيته على أكمل وجه. وقد كانت خصائصه وشخصيته ووقفته معياراً محورياً في تحديد خصائص PKK ورسم معالمه منذ استشهاده عام 1977 وحتى اليوم. ذلك أنه جَسَّدَ في شخصيته الروح الثورية للقائد APO.
وهناك رفاق أتراك آخرون أيضاً كدحوا وبذلوا جهوداً حثيثة في هذا النضال. كما كانت للرفاق العرب أيضاً مساهمات هامة في هذا النضال. ثم التحق بـPKK رفاق من الشعوب والجماعات الأخرى، وكانت لهم مساهمات عظيمة أيضاً. وبالرغم من أن القائد APO وPKK خاضا نضال تحرير الكرد المنحصرين بين فَكَّي الإبادة وتحرير كل الشعوب القاطنة في كردستان، إلا إنهما خاضا النضال أساساً في سبيل الحرية والديمقراطية للشعوب قاطبة. وبالأصل، فقد اتخذ كمال بير مكانه في هذا النضال انطلاقاً من مقولته "إنني أرى أن ثورة شعوب تركيا والشرق الأوسط تتحقق من خلال الثورة الكردستانية". أي أنه نظر إلى الثورة الكردستانية على أنها ثورة تركيا أيضاً، ولم يَعتَبرها نضالاً منحصراً في حرية الكرد فحسب. وقد لوحظ بعد ذلك بكل وضوح أن PKK هو حركة خاضت نضال الحرية والديمقراطية من أجل كافة الشعوب، وليس من أجل الكرد فقط. فبالرغم من ظهور PKK انطلاقاً من التطلع إلى ريادة النضال التحرري الوطني، إلا إنه لم يسقط في التطرف القومي بتاتاً. ولم يتشبث بالعصبية القومية ولا بالأحكام القوموية المسبَقة. وبالأصل، فإنّ كَونَ أهم مؤسِّسيه وشهدائه الأوائل من الأتراك، هو تعبير صريح عن خاصيته هذه. فهل يمكن أن يتواجد التطرف القومي في الرفيق حقي الذي أضفى الروح على PKK؟ هل يمكن أن تتواجد القوموية في الرفيق كمال بير الذي أضفى الروح النضالية على PKK وأَمَّن انخراط المناضلين فيه أكثر من غيره؟ ينبغي تناول PKK بعين سليمة في هذا الخصوص.
إن القضية الكردية هي العقدة الكأداء للشرق الأوسط. بالتالي، فأنْ يخوض الكردُ نضال الحرية أو أنْ يبرزوا إلى المقدمة في هذا النضال، لا يدل على أن PKK هو حركة تفكر فقط في حرية الكرد. فنظراً لأن خصائص نضال الحرية للشعب الكردي تحدد مصير شعوب المنطقة جمعاء، فإن نضال الحرية الكردية قد برز منذ البداية كنضال الحرية والديمقراطية للشعوب قاطبة. أي أن نضال الكرد ليس معنياً بالحياة الحرة والديمقراطية للكرد فحسب. بل إنه يرسم مسار نضال الحرية للأتراك والعرب والفُرس والآزريين وكافة شعوب المنطقة. ولذلك وَصَف القائد APO القضية الكردية بالعقدة الكردية الكأداء على صعيد الشرق الأوسط. ذلك أنه من دون كسر طوق الحاكمية والإبادة المطبقة على الكرد، ومن دون تحرير الكرد، لا يمكن لتركيا وسوريا وإيران والعراق وكل بلدان الشرق الأوسط أن تحقق تحولها الديمقراطي. وفي هذا السياق قال القائد APO "كل ما هو كردستاني هو عالمي". وهذا ما مفاده أن كل ما هو كردستاني هو شرق أوسطي. أما رؤية الحرية المعتمدة على أخوّة الشعوب لدى PKK منذ انطلاقته، ورؤية خوض نضال الحياة الحرة والديمقراطية لأجل كل الشعوب؛ قد تَجَسَّدتا في الأفكار والتحليلات وفي الأرضية النظرية والأيديولوجية التي طرحها القائد APO في إمرالي.
لا يمكن النظر في المرحلة الراهنة إلى منظور ونهج القائد APO الأيديولوجي والنظري والسياسي على أنه مقاربة أو منظور معني بالكرد فحسب. كما لا يمكن اعتبار القائد APO قائداً للشعب الكردي فقط. تماماً مثلما لا ينبغي النظر إلى PKK على أنه حركة حرية الكرد دون غيرهم. ما يعلمه القائد APO و PKKهو أن النضال الذي يفكر فقط بالكرد وينحصر فيهم، لن يستطيع تحرير الكرد أيضاً. ذلك أنه من غير المستطاع إنجاح نضال حرية الكرد عبر المقاربات القوموية الضيقة. ومن غير الممكن توطيد الحياة الحرة والديمقراطية فعلاً، من دون توحيد نضال الكرد مع نضال الحرية والديمقراطية لأجل شعوب المنطقة، ومن دون الإيمان بأن هذا النضال لن ينجح إلا بالتكامل مع نضال الحرية والديمقراطية لشعوب المنطقة جمعاء. لقد تناول القائد APO و PKKحرية الشعب الكردي بالتأسيس على تمكين التحول الديمقراطي لشعوب الشرق الأوسط. أي أن القائد APO تبنّى مقاربة تعتمد حل القضية الكردية بناءً على دمقرطة شعوب المنطقة.
إن العرب والسريان في شمال سوريا يعترضون على توصيف القائد APO بقائد الشعب الكردي. ويستغربون من ذلك قائلين: إن القائد APO هو قائدنا وقائد جميع شعوب الشرق الأوسط أيضاً. هذا صحيح. لكن نضال حرية الشعب الكردي تؤدي دور المفتاح بالنسبة إلى نضال حرية جميع الشعوب. ما من شك في أن الحياة الحرة والديمقراطية للكرد مهمة، لأنها ستحدد مسار كل التطورات السياسية في المنطقة. لكن، ورغم ذلك، ينبغي اعتبار القائد APO قائداً لشعوب الشرق الأوسط قاطبة، واعتبار PKK حزباً ريادياً وقوة الثورة الديمقراطية لجميع شعوب المنطقة. بالتالين من الإجحاف النظر إلى القائد APO على أنه قائد معني بالكرد فحسب، وإلى PKK على أنه حزب معني بالكرد فقط. إنه إجحاف على صعيد النتائج التي أسفرَت عنها جهود القائد APO وPKK.
ثمة انطباع من الماضي يشير إلى أن PKK هو حركة الحرية الكردية. وإذا ما تم إدراك ذلك بنحو صحيح، فهو ليس أمراً خاطئاً. وإلا، فمن غير الواقعي اعتبار PKK حركة سياسية معنية بالكرد. إن هذا يدل على مقاربة قوموية ضيقة. بالتالي، يتوجب علينا وعلى شعبنا وعلى مناضلي وكوادر الحزب أن يبتعدوا في أقوالهم وعلاقاتهم عن المقاربات التي تحصر PKK والقائد APO بالكرد فقط. ذلك أن البراديغما الجديدة للقائد APO تمثل نهج الثورة الديمقراطية ونهج الحرية والديمقراطية والاشتراكية لجميع شعوب الشرق الأوسط. الأمر كذلك بالتأكيد. وبالأصل، فلن تتَشكَّل لدى شعوب المنطقة رؤية نضالية متأسسة على دمقرطة الشرق الأوسط، إلا بالنضال على هدى نهج القائد APO وPKK. أما النضال الذي يعتمد المقاربة المحصورة بالكرد فحسب، فلا ينتمي إلى نهج القائد APO ولا إلى نهج PKK.
ينبغي بذل الجهود في القول والعمل من أجل تصحيح الانطباعات الخاطئة. إذ ثمة حركة تقول أنها أنجزت الثورة في روجافا وفق نهج القائد APO. بالتالي، فإذا كانوا يناضلون وفق هذا النهج، فعليهم أن يوطدوا العلاقات أكثر مع الشعوب العربية والسريانية والدرزية والشيشانية والتركمانية. أي ألاّ يفكروا فقط بالكرد، بل وبجميع هذه الشعوب. فتشكيل إدارة ديمقراطية بالتشارك مع تلك الشعوب هو الذي سيؤسس "فيدرالية شمال سوريا الديمقراطية". وإذا ما رَكّزَت جميع الجهود من الآن فصاعداً على تشكيل كيان مشترك مرتكز إلى علاقات الأخوّة مع العرب والسريان والدروز والشيشان وجميع شعوب المنطقة، فحينها يكون قد تم خوض النضال بموجب نهج القائد APO. وحينها يكون قد تم سلوك مقاربة أيديولوجية وسياسية وفق نهج PKK. وعليه، فإن حصر النضال القائم في روجافا وعموم سوريا بالكرد فقط، سيَكون أفدح إجحاف بحق هذه الثورة. بل وسيكون تضاداً مع نهج القائد APO. وإذا كنا نقول أننا مرتبطون بالقائد APO، فعلينا إذاً تطبيق نهجه الأيديولوجي والسياسي، وتلبية متطلباته. ومن الواضح أنه ثمة خطوات مهمة في هذا الاتجاه داخل روجافا.
ثمة طموح لتحرير كردستان من خلال النضال المرتكز إلى أخوّة الشعوب في كل من تركيا وسوريا والعراق وإيران. وقد بُذلت جهود جبارة وأُنجِزت مكتسبات مهمة في هذا السياق. لذا، فمن الأهمية بمكان الإصرار على هذا النهج ومعالجة القضية الكردية دون التوقف عند إشكالية الحدود، والتركيز على القول والعمل بموجب ذلك. ثمة أوساط كردية تضع مسافة مع الأتراك والعرب والفُرس ومع القوى اليسارية والديمقراطية، بحجة أنه لا نفع من هؤلاء. وثمة مقاربة خاطئة ضمن الموالين لحركة الحرية الكردية أيضاً. لذا، ينبغي تجاوز مثل هذه المقاربات القوموية الضيقة داخل صفوف الموالين لحركة الحرية الكردية وأنصارها. لأن مثل هذه المقاربات تُلحق الضرر بنهج القائد APO وبنضال الحرية الذي يَروده PKK. ما من ريب في أن للشعب الكردي قضية تتمثل في الخلاص من الإبادة والتطهير العرقي وفي نيل حريته. لكن هذا الواقع ينبغي ألاّ يؤدي بنا إلى صرف أقوال تُعَرِّف نهج القائد APO وPKK بمنوال خاطئ. ولدى المناداة بالأمة الديمقراطية والنضال المشترك، فيتوجب أن تتوافق الممارسة العملية أيضاً مع ذلك، وألا يَقتصر الأمر على القول فحسب. أحياناً لا يتم توخي الحساسية في هذا الشأن، فتظهر المفاهيم والمواقف الخاطئة والناقصة إزاء الشعوب، بسبب السياسات الخاطئة التي ينتهجها الحكّام الأتراك والعرب والفُرس. وهذا ما يؤدي بدوره إلى إدراكات وانطباعات مغايرة. لكن هذا لا يمثل مقاربة القائد APO ولا مقاربة حركة الحرية الكردية إطلاقاً. بمعنى آخر، من الواضح جلياً أن أي مقاربة أو سياسة لا تتوافق مع رؤية "الأمة الديمقراطية"، وأي ذهنية لا تتماشى مع أخوّة الشعوب والنضال المشترك، إنما لا تنتمي إلى نهج القائد APO. بالتالي، لنشدد في هذا السياق مرة أخرى على أنه لا يمكن لأي مقاربة لا تعتمد على دمقرطة بلدان المنطقة والشرق الأوسط ولا تتخذ من أخوّة الشعوب والنضال المشترك أساساً لها أن تمثل نضال حرية الشعب الكردي.