مشهد تمثيلي بامتياز جمع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بنظيره الأمريكي دونالد ترامب خلال أعمال قمة العشرين التي استضافتها أوساكا اليابانية خلال اليومين الماضيين، وكان الملمح البارز والمُنتظر في هذه القمة فيما يتعلق بتركيا والولايات المتحدة هي مسألة شراء تركيا لمنظومة الصواريخ الروسية S400 التي من المنتظر أن يشهد شهر تموز/يوليو ملامح ما سيجري بشأنها، حيث تقرر روسيا تسليمها لتركيا في هذا الشهر بدون تحديد ليوم بعينه، بينما تُمهل الولايات المتحدة تركيا حتى 31 تموز/يوليو للتخلي عن هذه الصفقة وإلا سيتم فرض عقوبات عليها.
ولم تكن هذه المرة الأولى التي تلوح الولايات المتحدة بفرض عقوبات على حليفتها ضمن حلف الناتو، إذ سبق ذلك العقوبات التي فرضت على خلفية أزمة القس برونسون.
وخلال التقرير التالي نحاول قراءة الموقف التركي من مختلف جوانبه فيما يتعلق مسألة منظومة الصواريخ الروسية، والغرض منها وهل تتحرك تركيا باتجاهها خوفاً من تهديد أمريكي محتمل مستقبلاً؟ أو لأغراض أخرى قد يكون من بينها الضغط على الولايات المتحدة لتحقيق أهداف تنشدها تركيا؟ وكذلك سنحاول الإشارة إلى الفارق بين المنظومة الروسية مقابل منظومة باتريوت الأمريكية، ولماذا تشكل الروسية تهديداً كبيراً على الطائرة الأمريكية F35، التي كان يطلق عليها منذ الإعلان عنها بالطائرة الشبح لصعوبة رصدها.
مستقبل العلاقات الأمريكية التركية
والحقيقة أن كل المتغيرات المحيطة بمنطقة الشرق الأوسط تعد عوامل تأثير كبيرة للسياق الحاصل في الوقت الراهن، لكن المهم في الموضوع تتبع أثر القضية من البداية، فإذا كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لوح مراراً بأن إقدام أنقرة على شراء منظومة S400 سيدمر العلاقات بين البلدين، وتأكيده على أن هذه الخطوة ستؤدي بالولايات المتحدة إلى فرض عقوبات على تركيا، التي تشهد أزمة اقتصادية هي الأصعب في تاريخها إلا أنه من الواضع أن أردوغان لجأ إلى هذه الخطوة لعدة أسباب وقد لا تكون من بينها ما قاله أردوغان عن مماطلة الإدارة الأمريكية السابقة بشأن منظومة باتريروت الأمريكية التي تريد تركيا الحصول عليها.
وبعيداً عن السبب الذي قد يبدو قريباً للأذهان، وهو التخوف من تهديد لتركيا قد تكون الولايات المتحدة مصدره بالأساس إلا أن الواضح أن تركيا تتخذ مساراً معهوداً لديها على مدار تاريخها والمعروف بالابتزاز، فيبدو أن أنقرة بقيادة أردوغان تسعى لابتزاز الولايات المتحدة بورقة روسيا، وهي الورقة التي استخدمتها مطولاً خلال السنوات الماضية على صعيد الساحة السورية.
لكن فيما يتعلق بخطوة منظومة الصواريخ الروسية فيبدو أن تركيا تبتز الولايات المتحدة للحصول على أكبر قدر من المكاسب وفي مخيلتها عدد من النقاط من بينها: تسليم فتح الله غولن، وهي الخطوة التي كانت تضغط لتحقيقها خلال أزمة القس أيضاً، إضافة إلى الضغط على الولايات المتحدة لرفع دعمها الذي تقدمه إلى الكرد في سوريا لا سيما قوات سوريا الديمقراطية، ووحدات حماية الشعب التي استطاعت القضاء على تنظيم داعش الإرهابي في الجغرافيا السورية بمساعدة التحالف الدولي وفي مقدمته الولايات المتحدة، وهذه النقطة تحوي العديد من الأهداف المرحلية لتركيا، التي لا تخفي حالة طمعها في بسط سيطرتها على الأراضي السورية على غرار مقاطعة عفرين التي احتلتها تركيا على مرأى ومسمع من الجميع بدون أي تحرك، وكذلك على صعيد العراق، وخاصة إقليم كردستان، الذي يحتضن عدداً من القواعد العسكرية التركية وما يقارب من العشرة آلاف جندي تركي منذ ثمانينات القرن الماضي، ولا تزال تحافظ على وجودها وتوجه ضرباتها حتى للمدنيين بهدف هجيرهم من أراضيهم على غرار ما فعلتها من عمليات تغيير ديمغرافي في عفرين؛ تلك الضربات التي كانت آخرها القصف الجوي في كورتك قبل عدة أيام.
سعي تركي لجمع مكاسب من الأزمة
وتسعى تركيا إلى الحصول على المزيد من المكاسب في هذه الجغرافيا التي كان واضحاً خلال السنوات الماضية حالة الدعم التركي المقدم إلى عناصر تنظيم داعش الذين كانوا يتنقلون عبر الحدود التركية بسهولة ويسر، كما أن مصابيهم خلال الحرب الدائرة على التنظيم كانوا يعالجون في المستشفيات التركية بشهادة عناصر التنظيم ذاته والتي قدمت اعترافات خطيرة تدين تركيا وأجهزتها الأمنية والاستخباراتية، إلا أن عدم وجود محاكمات لهؤلاء الذين يقدر عددهم بالآلاف حتى الآن يصب بالأساس في صالح تركيا التي من المؤكد أن وجود أي محكمة دولية لمحاكمة الدواعش ستكتشف الفظائع التي ارتكبها النظام التركي.
كل هذه الأمور تحتاج إلى ضغط تركي على الولايات المتحدة التي لا تخفي درجة تخوفها من تشغيل منظومة الدفاع الروسية في دولة عضو في حلف الناتو، وليست دولة عادية بل دولة كان لها تاريخها وكانت حائط الصد الأول لدول الناتو في مواجهة الاتحاد السوفيتي (السابق) خلال فترة الحرب الباردة.
ورغم حالة التحول الكبير بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وتوسع رقعة الدول الأعضاء في الناتو بانضمام دول سوفيتية سابقة يبقى وجود تركيا ضمن الحلف التاريخي الذي تقوده الولايات المتحدة بقوة أمر حيوي واستراتيجي، وهو ما ألمحت إليه بعض التصريحات على هامش اجتماع وزراء دفاع حلف الناتو خلال اجتماعهم الأخير في بروكسل قبل أيام، والذي جاء بعد مطالبات تركية للحلف بعدم اتخاذ نفس النهج الأمريكي حال فرضها عقوبات على تركيا بسبب منظومة الصواريخ الروسية.
ورغم ذلك فإن الناتو يرفض الخطوة التركية باقتناء المنظومة الروسية S400، و F-35 في آن واحد، على نحو سنوضحه تالياً.
قمة أوساكا وصور التشاحن والهدوء
ورغم الوعيد الأمريكي على مختلف الأصعدة داخل الإدارة الأمريكية والكونغرس الأمريكي لتركيا حال تنفيذ صفقة منظومة الصواريخ الروسية، إلا أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لا يتوانى بين حين وآخر عن التأكيد على مضي الصفقة، وكان آخر ذلك في أوساكا حيث حذر قبل انطلاق القمة ولقائه ترامب، الولايات المتحدة من استخدام لغة التهديد تجاه بلاده، لافتاً إلى أن بلاده قد تلجأ للتحكيم الدولي حال تم فرض عقوبات عليها.
ورغم أن حالة النقاش بين ترامب وأرودغان في أوساكا لم توضح بشكل واضح تفاصيل النقاش الذي تم حول منظومة الصواريخ الروسية.
ولمح أردوغان في حديثه لصحيفة نيكاي الصينية إلى أن "ترامب يعرف مخاوف تركيا، ولماذا نحتاج إلى هذه المنظومات في إطار بحثنا عن نظام فعال للدفاع الجوي ضد التهديدات الأمنية".
لماذا يلجأ أردوغان للتحكيم الدولي؟
ويُرجع اردوغان إمكانية لجوء بلاده للتحكيم الدولي حال تنفيذ الولايات المتحدة أي من تهديداتها بعدم تسليم تركيا مقاتلاتF-35 ، قائلاً أن بلاده دفعت جزءاً من ثمنها يُقدر بـ 1.25 مليار دولار للحصول عليها، وأن بلاده قد تقوم بالخطوة من أجل استعادة المبالغ المالية التي دفعتها للحصول على المقاتلات.
لماذا هذه المخاوف من جانب الولايات المتحدة؟
وترجع مخاوف الولايات المتحدة، وفقاً لما نقله موقع "دفينس وان" بسبب إمكانية أو محاولة استغلال قدرات F-35 من قبل المنظومة الروسية التي بالتأكيد سيتم تغذيتها بالبيانات الحساسة لطائرة تعد من أغلى وأهم مقاتلات الجيل الخامس في العالم، والتي يُطلق عليها الشبح لمقدرتها تفادي أجهزة رادار العدو وأجهزة التتبع الحراري، ما يعني التجسس على هذه التكنولوجيا المتقدمة والتي تعد الأغلى في العالم.
وتؤكد كاي بيلي هتشيسون المبعوثة الأمريكية لدى الناتو أن بلادها ليس أمامها إلا منع القوات التركية من تشغيل المقاتلات F-35 وتطويرها إذا مضت أنقرة قدما في شراء منظومة الدفاع الروسية.
وقالت هتشيسون: "لا يمكننا أن نترك برنامج F-35 يتأثر أو يتزعزع استقراره بأي شكل، بوجود هذا النظام الروسي."
كما تعتبر الولايات المتحدة أن منظومة الصواريخ الروسية بهذا الشكل تشكل تهديداً لطائراتها بالمنطقة، بينما يعتبر الناتو أنه لا يمكن دمجها (منظومة S400) في نظام الدفاع الجوي الخاص بالحلف والذي تعد تركيا من بين أهم القوى العسكرية داخله.
ويذهب الناتو إلى أن نشر الصواريخ الروسية وما يتطلبه من تعاون وتدريب مشترك بين قوات تركية وروسية، يمكن أن يؤدي لتسريب معلومات عسكرية وفنية حساسة لروسيا.
تركيا ليست الوحيدة التي تسعى للحصول على S400
والواضح مؤخراً أن تركيا ليست الوحيدة في المنطقة التي تسعى للحصول على المنظومة الروسية، فقد خرج حديث مؤخراً عن سعي إيراني لشراء المنظومة، قابله ترحيب روسي بالموضوع حال تم طلبه من جانب إيران خاصة بعد حالة التصعيد الأخير مع الولايات المتحدة.
أيضا الهند تسعى للحصول على هذه المنظومة رغم الموقف الأمريكي الرافض والداعي إلى التوقف عن هذه الخطوة التي تشكل تهديداً أيضا للولايات المتحدة.
وأخيراً؛ فإن شهر تموز/ يوليو، الذي يعد المهلة الأمريكية الأخيرة لتركيا للتراجع عن قرارها، مرشح لمزيد من التحركات التي قد تظهر خلال أيام قلائل لا سيما عقب لقاء ترامب أردوغان الذي لا تزال مخرجاته تحمل علامات استفهام كبيرة.