في الوقت الذي يخرج فيه قائد الجيش الليبي المشير خليفة حفتر في خطاب قبل دخول العاصمة طرابلس الواقعة تحت سيطرة الميليشيات المتحالفة مع حكومة الوفاق الوطني المعترف بها أممياً، والتي تنال دعماً تركياً وبالتبعية قطرياً كبيراً منذ بداية الأزمة، تجددت الإشارة إلى تركيا والدعم غير المحدود الذي تقدمه للمليشيات في خرق واضح لقرارات مجلس الأمن وفي مسعى يمدد مسيرة الأزمة الليبية ولا يبشر بأي أفق للحل.
وفيما تمارس تركيا رقصتها الأخيرة والتي ستقاتل من أجلها بشراسة في ليبيا يبدو أنها بدأت تبحث عن سبل جديدة.
والواضح في الفترة الأخيرة ومنذ رياح ما أطلق عليه بالربيع العربي، وحالة الفراغ السياسي التي شهدتها المنطقة، والتي تتشابه إلى حد كبير مع الحالة التي عاشتها المنطقة في نهاية حقبة دولة المماليك في مصر وهو ما دفع برجب طيب أردوغان، الطامح باستعادة دولة الخلافة العثمانية، إلى مواصلة سعيه الذي كان قد بدأه قبل الربيع المزعوم بصور مختلفة قوامها التعاون ومدخلها الاقتصاد.
ورغم الصور والمحاولات المتعددة لأردوغان في الدول العربية والتي يبدو فيها أنه يسير على نهج مواطنه سليم الأول، في جنوب كردستان وروج آفا، وحتى توجهه نحو السودان، واختياره سواكن التي لم تأت اعتباطاً حتى تأتي الأوضاع الحالية وتقضي على هذا التحرك أو تعطله حتى يبحث عن مدخل جديد، وصولاً إلى طرابلس (ليبيا) والتي كانت من أصعب المعارك التي خسرتها الدولة العثمانية مع أفول نجمها، وبين هذا وذاك تأتي قلب المنطقة (مصر) التي كان ضعفها من أهم أسباب سيطرة العثمانيين على المنطقة في أسوأ وأطول احتلال مرت به المنطقة وكرس لأغلب أزماتها التي تعيشها حتى هذه اللحظة، ولذلك لا يتوان أردوغان بين الحين والآخر عن التشاحن مع مصر متحينا فرصة ضعف للدولة المصرية تمكنه من الانقضاض على دول المنطقة فيها لتحقيق أطماعه.
وبداية من المشهد الليبي فإن الإشارة الأهم هي في طرابلس، (طرابلس الغرب) والتي خضعت للاحتلال العثماني وتعيش اليوم نفس إرهاصة الخضوع للعثمانيين الجدد الذين يقدمون كافة صور التسليح والدعم للمليشيات والجماعات الإرهابية من سنوات بغرض السيطرة في واستعادة النفوذ الماضي.
وفي هذا السياق يقول الكاتب والمحلل الليبي أحمد الفيتوري، وهو صاحب كتابات مهمة عن الوجود العثماني في ليبيا وما عانته هذه الجغرافيا في هذه الفترة التي انتهت بتسليم الدولة العثمانية ليبيا لإيطاليا، إن المشهد الراهن يذكر بوضع العثمانيين في الماضي في هذا البلد وأن ما يجري الآن يسير على هذا النهج حتى أن أردوغان هو الرئيس الوحيد، الذي يعلن في 2019، ويبشر الليبيين، بتزويد طرف منهم بالسلاح، ويتم ذلك في عرض أشرطة تتناقلها محطات التلفزيون.
ويلفت إلى أن المشهد الليبي الحالي يشير إلى عودة المحتلين السابقين (تركيا وريثة أنقاض الدولة العثمانية وإيطاليا) لليبيا للبحث عن النفوذ ولجعل ليبيا ساحة جديدة للصراع فيما بينهم، فكما أردوغان كما ماتيو سالفيني، الوزير الإيطالي، الذي يراه موسوليني اللحظة، والذي يقول إن ليبيا ملاذٌ آمن، وموثوق به لإيواء المهاجرين غير الشرعيين.
ويوضح الفيتوري أنه ومن هذا باتت طرابلس مأوى، وسوق لعبيد عصر ما بعد الحداثة الأوروبية، فأقيمت، مراكز احتجاز للمهجرين في ليبيا، وأنجز كل ذلك بتحالف مضمر، بين المصالح والنفوذ، الأردوغاني واليمين المتطرف الإيطالي.
ويحمل الفيتوري في مخيلته ذكريات روتها له جدة أمه، التي عايشت سيطرة الدولة العثمانية على بلاده، ورغم أنه كان في مرحلة مبكرة من طفولته في 1968، إلا أنه لازال يتذكر كافة الصور التي نقلتها له عن هذه الفترة، ويشير إلى أنه تتبع بعدها أثر الوجود العثماني في ليبيا، والذي تُشير المراجع إلى أن الإمبراطورية العثمانية احتلت طرابلس الغرب في 15 أغسطس 1551. وبقت تحت سيطرتها حتى عام 1711، عندما استقل أحمد باشا القره مانلي بالولاية، لتعرف تلك الفترة بالعهد العثماني الأول. ثم استمرت الأسرة القره مانلية حتى عام 1835، وهو العام الذي احتلت فيه البحرية العثمانية الايالة، وعرفت هذه الفترة بالعهد العثماني الثاني، لتبقى تحت سيطرة الباب العالي حتى 1912.
ويلفت الفيتوري إلى أن تركيا سلمت البلاد لإيطاليا، بموجب معاهدة أوشي، التي عقدت بين البلدين في سويسرا، بعد نجاح غزو إيطاليا الذي بدأ في أكتوبر 1911، وكانت ولاية طرابلس الغرب، آخر نقطة تسلمها تركيا، من ممتلكاتها في الشمال الأفريقي.
ويشير الفيتوري إلى أنه ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى في 1914 عاد التُرك إلى ليبيا، التي زُج بها في حرب كبرى، بعد أن تم تسليمها من قبلهم للمملكة الإيطالية، حتى أن عبد الرحمن عزام أول أمين عام للجامعة العربية، كان ممن شاركوا في هذه الحرب في ليبيا، في مذكراته التي صدرت 2013، عن الهيئة العامة للكتاب في مصر.
ومن الوضع التاريخي للغزو العثماني لمصر يشير إلى علاقات أردوغان بالقذافي، والتي رغم قوتها إلا أن أردوغان اتخذ نهجاً براجماتياً للحفاظ على مكتسباته، بدءاً بانتهاج مبدأ عدم ردّ الفعل، في التعاطي مع حدث الثورة الليبية عام 2011، وصولاً لحالة استغلال الوضع الراهن رغم علاقاته القوية بنظام معمر القذافي، والتي كان البعد الاقتصادي فيها واضحاً للدرجة التي أدت بالقذافي لدعوته كضيف شرف لقمة سرت في ٢٠١٠.