غياب الديمقراطية والتدخلات الخارجية في الشرق الأوسط

من المهم أن نعرف أن تحقيق التحول الديمقراطي ورفض التدخلات الخارجية، لن يكون بالأمر السهل، بل يحتاج إلى وعي ومقاومة وبذل جهد، وهي معركة شاملة بين القوى الديمقراطية والمجتمعية من جهة والقوى السلطوية الدولتية ورعاتهم الدوليين و الإقليميين من الجهة الأخرى.

تزداد التحديات الداخلية والخارجية المختلفة في المنطقة يوماً بعد يوم، وخاصة مع فصول الحرب العالمية الثالثة وصرعات مراكز القوى على تقاسم الهيمنة في ظل النظام العالمي الواحد واستمرار تدخلاتهم في شؤون المنطقة والعالم، وكذلك مع غياب أفق الحلول الديمقراطية لدى المنظومة الدولية والإقليمية لأهم القضايا المصيرية والحياتية لمجتعاتنا وشعوبنا في دول الشرق الأوسط.

ولو حاولنا البحث في المشاكل والقضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية الظاهرة، سنجد أن ما يجمعها من جملة الأسباب والعوامل، هو غياب الفواعل الداخلية العينية المؤثرة والمعبرة عن ذهنية وإرادة الشعوب والمجتمعات وأولوياتهم داخل دول المنطقة ومؤسساتها المختلفة، ناهيك عن التوتر في العلاقة الجدلية بين السلطة والمجتمع بسبب إصرار السلطات الأحادية في تحجيم ساحة عمل ونشاط المجتمع منذ اليوم الأول لتدفق الحضارات المركزية، أو بالمجمل يمكن أن نقول إن غياب الديمقراطية الحقيقية المباشرة، التي نرى ملامح غيابها وصور ضعفها الشديد في كل تفصيلة ومنعطف ومناسبة وممارسة من السلطات وتدخلاتها في حياة الشعوب داخل الدول المصطنعة في الشرق الاوسط بعد الحرب العالمية الأولى، وخاصة مع التحول السلطوي الكثيف الذي تبلور في صيغة الدولة القومية التي أوجدتها الرأسمالية العالمية كأهم أداة للهيمنة والقمع ونهب مقدرات شعوب ومجتمعات الشرق الأوسط والعالم عبر نظم إقليمية وكذلك تيارات ونظم سلطوية دولتية قومية ودينية بعيدة عن مصالح شعوب الشرق الأوسط وقيمهم الثقافية والاجتماعية.

لو نظرنا إلى غالبية دول الشرق الأوسط وخاصة في القرنين الاخيرين وبالأخص في العقد الأخير، نجد أن الفشل السياسي والاقتصادي والأمني هو سيد الموقف بلا منازع، ناهيك عن حالة الفراغ الفكري والثقافي، بسبب غياب الديمقراطية كثقافة وذهنية وأداء وسلوك سياسي واقتصادي وأخلاقي ومجتمعي، فالمعادلات الصفرية تجاه المختلف أثنياً أو دينياً أو مذهبياً أو جنسياً، هي التي تظهر بشدة من تصرفات وتفاعل الكثير من القوى والشخصيات والسلطات والدول، بالإضافة إلى الأحادية والإنكارية التي لاتقبل بأي رأي مخالف أو معارض، حتى لو كانت في صلب احتياجات المجتمع ومصيره ومستقبله، وعليه فالتعايش السلمي وثقافة التكامل والاختلاف في الوحدة أصبح عند بعض السلطات والدول والأحزاب الضيقة هي مصدر لتهديد الأمن أو التقسيم أو بالأحرى تهديد كرسي السلطة الذي هو في حالة عداء مستمر مع الشعوب والمجتمعات، لأنه بعيد عن الأداء والفهم الواعي التنويري وعمليات التحول الديمقراطي في المؤسسات والبنى الفكرية والمادية التي من المفروض ان تكون الهدف لمجمل الإمكانات والطاقات الداخلية.

أما التدخلات الخارجية ببعديها العالمي والإقليمي، فهي أصبحت من إحدى أهم مصائب وكوارث مجتمعاتنا ودول المنطقة وزيادة التحديات أمامهم، لأن الإرادة الخارجية وكذلك الإدارة الخارجية التابعة وأن كانت من القوى المحلية وما يتصل بهم من سلطات في دول المنطقة، لا تهتم إلا بمصالحها وهيمنتها ونفوذها وأجندتها، وبالتأكيد حالة التقسيم والتشرذم والتقاتل والصراعات المستمرة والثنائيات القاتلة في دول المنطقة، وبؤر التوتر القابلة للإشتعال وكذلك الحالة الأداتية لبعض القوى والسلطات في سياق أجندات التدخلات الخارجية، ماهي إلا تعبير عن حجم التدخلات التي لا تنفك تضعف الإرادة الوطنية وتخوض صراعات الهيمنة وتقاسم النفوذ بين مراكز القوى ضمن النظام العالمي نفسه كما هو الآن في عدد من الأماكن المشتعلة بالحروب حولنا.

من الصحيح القول إن التدخلات والإرادات الخارجية كان دائماً تكمل سلباً، وبل تحاول فرض غياب الديمقراطية والعمل بشكل حثيث للقضاء على روح التشارك والتقاليد الديمقراطية والأخلاقية لشعوبنا الشرقية، لأن لا يكون هناك ديمقراطية حقيقة ومباشرة في المنطقة وبين شعوبها ودولها، لأن المجتمع الديمقراطي ودولة الدستور والمؤسسات لن تكون وفق مايريدونها من التبعية والخضوع والارتباط العضوي، كنتيجة طبيعية للحقيقة التي تقول "إن أي مجتمع أو دولة أو جمهورية عندما تصبح ديمقراطية ستكون منغلقة أمام الاستغلال والنهب ورافضة للتدخلات الخارجية في إرادتهم وفي شؤونهم الداخلية ومصالح شعوبهم".

وعليه فعندما تغيب الديمقراطية تكون الإرادة الخارجية هي الحاكمة مع بعض من التابعين و المتواطئين والخونة، الذين يرون مصالحهم مع المحتل الخارجي في سلطة دولتية أداتية فاسدة أو من الأصح نقول سلطة الاحتلال كما غالبية دول المنطقة، أما عندما تكون للديمقراطية حضوراً ووجوداً بين أبناء المجتمع وفي ثقافاتهم وممارساتهم وفي المؤسسات تكون إرادة المجتمع الحقيقة هي المؤثرة والناظمة لحيثيات الحياة التي تذهب باتجاه هدفي الحرية والديمقراطية لأي مجتمع أو إنسان أو خصوصية مجتمعية.

ولكن الديمقراطية وتوفرها ليس بالأمر السهل في ظروفنا وأوضاعنا في الشرق الأوسط رغم حاجة كل المجتمعات والدول إلى عمليات التحول الديمقراطي التي لا بد منها وخاصة في المجال السياسي والاقتصادي وإدارة الحياة المختلفة، لكي نكون قادرين على مواجهة التحديات التي تزداد يوماً بعد يوم مع المشاريع الإقليمية التي تحاول إبتلاع شعوبنا ومجتمعاتنا وثرواتنا عبر مختلف الوسائل والحروب المختلفة بأنواعها المتعددة تحت أسماء وشعارات قد يخدع بها البعض من شعوب المنطقة وقواها وخاصة مع توحدها مع مشاريع الهيمنة العالمية وفصول الحرب العالمية الثالثة.

إن مجالات التعليم والصحة والأمن والاقتصاد وعلاقة الرجل بالمرأة والبنية التحتية وتغيرات المناخ وغضب الطبيعة، وكذلك المشاريع والبرامج التي تتناول هذه المجالات لا بد من أن تأخذ في حسابها ضرورة وأهمية عملية التحول الديمقراطي ومعالجة مشكلة غياب الديمقراطية لأن المجتمع غير المستقر والمتوتر يمكن أن يصبح بالضرورة حاضة للاعتداء على الطبيعة والإنسان.

 ونعتقد أن عملية التحول الديمقراطي يمكن أن يرتكز إلى عدد من الركائز اساسية وهي:

1-      إرادة حقيقة ورغبة في الأفضل والأحسن وتغير واقع الحال المتأزمة، مع توفر قراءة بحثية دقيقة وصحيحة لمواضع الخلل والفساد وعقلية الإقصاء والتهميش ورؤية الممارسات القمعية بأنها قتل للحياة والمجتمع والبيئة، ليس فقط في المستوى النخبوي والنظام القائم، بل في عامة المجتمعات والشعوب صاحبة المصلحة في التغيير والتحول الديمقراطي وتثقيف وعيها السياسي الجمعي.

2-      المجتمع الديمقراطي أو المجتمع الأخلاقي والسياسي، وأن يكون الهدف والمركز في عملية التحول هو بناء الإنسان والمجتمع السليم وهو المجتمع الديمقراطي المنظم والواعي والمدرك لحقيقته وواجباته وحقوقه وحامي لأفراده، المجتمع الذي يكون فيه الفرد صاحب إرادة حرة يضيف إرادته تلك لإرادة المجتمع ليكون المجتمع حراً ديمقراطياً، وأن لا يكون ثقافة القطيع هي السائدة كما هي الآن في غالبية دول المنطقة.

3-      حرية المرأة، وريادة المرأة للحياة الحرة والتي نعتقد أنها التعبير المكثف عن الديمقراطية ودون وجود إمرأة واعية ومدركة لدورها وأهميتها وممثلة لجنسها لا يمكن أن نتحدث عن الديمقراطية وعمليات التحول الديمقراطي التي ننشدها.

4-      تحقيق التوازن بين العاطفة والتحليل أو بين المادة والمعنى، وبالمجمل دمقرطة البعد الروحي والقدسيات الحياتية والغيبية، إلى ما تجعل هذه المقدسات تكون معبرة عن حرية الإنسان وحرية المجتمع وأولوية الحياة الحرة كأهم مقدس في حياة الإنسان، وهنا لا بد من إعادة قراءة وشرح التاريخ وتفسيره وفق هذه الأولويات.

من المهم أن نعرف أن تحقيق التحول الديمقراطي ورفض التدخلات الخارجية، لن يكون بالأمر السهل، بل يحتاج إلى وعي وإدراك وصبر وإصرار ومقاومة وعمل وجهد متنوع السبل والأدوات، وهي معركة شاملة وفي مختلف المجالات بين القوى الديمقراطية والمجتمعية من جهة والقوى السلطوية الدولتية ورعاتهم الدوليين و الإقليميين من الجهة الأخرى، وفي هذه الحالة لا بد أن نمتلك الذهنية التشاركية وحالة التعايش المشترك والاعتراف المتبادل والاحترام  بين بعضنا كشعوب وقوى مجتمعية في ظل مشروع مجتمعي وثقافي وسياسي واقتصادي وأمني متكامل، حتى نفعل الطاقات الكامنة لشعوب ومجتمعات المنطقة  وحتى تنظم الشعوب قدراتها وامكاناتها الذاتية للدفاع والعمل والسياسية الديمقراطية لبناء نظم ديمقراطية، حتى نكون قادرين على مواجهة التحديات المختلفة وكذلك التدخلات الخارجية.