منذ اليوم الأول لتحول الإدارة الطبيعية للمجتمعات والشعوب نحو السلطة والدولة، وخروج الدولة، ذلك الوليد من رحم الزقورات السومرية، وتصاعد الذكورية ونهبه لقيم المرأة الحرة، وهناك علاقة جدلية إشكالية بين المجتمع من جهة والسلطة والدولة من الجهة الأخرى، لكون زيادة قوة أي من الطرفين كانت ولا زالت على حساب الطرف الأخر، وكون السلطة راكمت تجاربها وأدواتها أمام قوة المجتمع الطبيعية وتسللت إلى غالبية أنسجة المجتمع وعروقه، فالغلبة كانت لقوى السلطة والدولة في كثير من الأحيان، مما أدى إلى محاولات تجريف للحياة والمجتمع وخاصة مع وصولنا للدولة القومية الأحادية، ولكن المجتمعات كانت دائماً تحتفظ بقوتها الذاتية وطاقتها الكامنة حتى في أصعب الظروف لتعود للظهور والتعبير -في أقرب فرصة- ممكنة، وبذلك أصبحنا أمام ثنائي، يجسد الحرية والديمقراطية من طرف وأخر يمثل التحكم والسيطرة والهيمنة والنهب، وإن تحت اسم القانون والتشريع الذي يتم وضعه غالباً وفق قيم ومصالح السلطة والدولة بعيداً عن مصالح وقيم وأخلاقيات الشعوب وتقاليدهم الديمقراطية.
من المفيد الإشارة أن الاستقرار والأمان والعدالة، غير ممكنة، إلا بوجود ساحة حرية كافية للحياة المجتمعية، وباعتراف الدولة والسلطة، وعدم التدخل في كل تفاصيل الحياة المجتمعية، ولعلّ الديمقراطية المباشرة قادرة أن تعطي للمجتمع بينة مؤسساتية فاعلة في تأمين مصالح الأفراد والمجتمع معاً، أما محاولة تحجيم وإضعاف أنسجة المجتمع من العمل السياسي والأخلاقي، فلن يجلب سوى التوتر والهشاشة، ومع مرور الوقت ستكون هناك مسافة كبيرة بين السلطات والمجتمع، كما هي عليه الآن في معظم دول المنطقة. ولكن هذه المقدرة والتمكينية الاجتماعية لن تتوفر إلا بوعي تنويري، وبمعرفة وفهم للتاريخ والثقافة الذي يمتاز به كل مجتمع وشعب، إضافة إلى ضرورة امتلاك المجتمعات حق إدارة مواردها واقتصادها وتربية أبنائها وفق أولوياتها وليس وفق أولوية الدولة والسلطة، كما هي الآن وفي معظم حقول التربية والتعليم والإعلام، الذي يتجسد في تأمين موظفين(عبيد) للدولة والسلطة وليس ناس فعالين مع الحياة لتأمين سيرورة المجتمع والحياة الحرة.
لقد عاشت شعوب المنطقة وعبر غالبية تاريخها في ظل الاحترام والاعتراف المتبادل المبني على التماسك المجتمعي وأخوة/أخوات الشعوب التي تجسدت في الحياة التكاملية للشعوب التي عاشت معاً في نفس البقعة الجغرافية أو إلى جوار بعضها، وهذه الحالة التكاملية الثقافية والاجتماعية والأمنية حققت انتصارات ومحطات مشرفة تاريخية للشعوب، ومزيد من الاستقرار الحقيقي القائم على ضمان كل مجتمع وشعب لحريته والعيش بخصوصيته الثقافية، وعليه فالحياة غنية بتنوعها وثرائها الشعبي ومستقرة بذات الوقت، لأن ضمانة استمرار الاستقرار على المدى المتوسط والطويل، هو تحقيق الحرية والديمقراطية وأخوة/أخوات الشعوب، أما ما يقول عنه النظم الدولتية السلطوية فهو الاستقرار المؤقت أو السلام المؤقت الذي يمثل هدنة مرحلية، ينهار في مواجهة أول تحدي خارجي أو داخلي.
ولكن مع الأسف، عندما أرادت قوى الهيمنة الخارجية والاستبداد والاحتكار أن يحكموا المنطقة وشعوبها ويهبوها، كانت عينهم على تخريب العلاقة بين الشعوب وإضعاف المرأة وتبضيعها، وضخ الأفكار التقسيمية والأحادية السلطوية القومية والدينية، وبذلك حتى يتم تهديم أو إضعاف أهم قوة للاستقرار وهي أخوة/أخوات شعوب المنطقة أو تماسك الجبهات الداخلية وتعاضد الشعوب والمجتمعات وتكامل الثقافات المجتمعية.
لو نظرنا للقضايا الرئيسية في منطقتنا كالقضية الكردية والقضية الفلسطينية، وما يتعرضان لهما من الإبادة الجماعية من نفس الفكر الإلغائي الصفري والقوى الدولية المهيمنة، وكذلك قضايا المرأة الشرق أوسطية ومختلف قضايا التي تؤكد على أهمية وضرورة الإسراع في التحول الديمقراطي، سنلاحظ أن هناك دائماً خطين أو موقفين يجب التميز بينهم لأهميته، وهما موقف الشعوب من جهة وموقف السلطة أو الدولة من الجهة الأخرى، لأنه لكلا الموقفين أولويته ورؤيته ومصالحه وفي غالب الأحيان يكون هناك تضاد لأن السلطة والدولة ترى وجودها واستمرارها على إضعاف المجتمع والتدخل في شؤونه، لكن هذا لا يلغي دور المجتمعات وأهمية وجود رأي عام ضاغط على قوى السلطة والدولة، في ظل ضعف او تصحر الحياة السياسية والثقافية والفكرية، وتحول الكثير من المثقفين لمرتزقة عند بعض أصحاب السلطة والدولة والتخلي عن دورهم في تنوير الشعوب وتشكيل الوعي المجتمعي الصحيح ورفدهم التحركات الشعبية بعقلية الإصرار على الحرية والحق والعدالة.
ولكن يجب الإشارة هنا إلى أن كمية القصف الذهني والفكري الموجه من قبل السلطات وعبر أدواتهم الكثيرة ومنها التعليم والإعلام والتوجيه الإلكتروني والاستهلاك الحياتي المعنوي والمادي، جعلنا نجد أن قطاعات واسعة من الشعوب أصبحت في إطار منظومة السلطة والدولة بمعنى لا ترى أو ترى ولكن لا تريد التعبير عن الحقيقية التي تراها في الواقع المتأزم، إضافة إلى أن تأثير الرقمنة والذكاء الاصطناعي، يحتاج لدراسات وتمعن كبير لما سيكون لها من التأثير على سلوكيات الشعوب والقوى والدول، وربما تكون بحجم تأثيرات الثورة الصناعية وتداعياتها في مختلف مجالات الحياة لدرجة أنه من المحتمل أن يكون هناك انعطافة تاريخية مصيرية بعد الذكاء الاصطناعي.
لو اقتربنا أكثر من القضية الكردية وقوى نضال الحرية والديمقراطي الكردي، سنجد مثلاً أن التوظيف الدولي لتركيا الدولة والسلطة أو التفاهم السلطوي التركي مع دول الثلاث الموجودة فيها الكرد أو مع دول المنطقة والعالم، مبني وفق المصلحة والأولوية التركية على مشاركة هذه الدول لتركيا في إبادتها وحربها ضد الشعب الكردي أو الصمت على ارتكاب تركيا للإبادة الجماعية بحق الكرد، في حين نعلم أن شعوب المنطقة والعالم وبغالبيته ليس ضد أن يحصل الكرد على حقوقهم الطبيعية كباقي الشعوب في إدارة وحماية مناطقهم ضمن الدول الموجودة.
كذلك الشعب الفلسطيني وما يتعرض له من إبادة جماعية، فالتباين بين مواقف عدد كبير من دول المنطقة والعالم وشعوبها واضح بشكل ملفت وهذا يشير بوضوح أن الاستقرار الدولتي أو السلطوتي يختلف عن الاستقرار المجتمعي.
ولذلك، من المفيد ملاحظة هذه الهوة و إدراك أسبابها، لنكون في التحركية النضالية لأجل الاستقرار والأمن، غير مخطئين، ونبحث عنها في ديمقراطية المجتمع وحرية المرأة وبناء الإنسان، وليس في مزيد من الدولة والسلطة والذكورية، لأن القهر الجماعي والإدماج القسري والإبادة الجماعية وقطعنة المجتمعات والأفراد وتشييء المرأة، وهم من سبل وأدوات الدولة القومية والسلطوية الأحادية، لن تزيد المشاكل إلا تعمقاً واشتعالاً، في حين الركون والاعتماد على أخوة/أخوات الشعوب والاعتراف المتبادل والحالة التكاملية الثقافية الكلية ومراعاة خصوصية ومخاوف كل تكوين مجتمعي، يضعنا على طريق الصحيح الذي يصلنا للاستقرار المبني على الحرية والديمقراطية والعدالة، ولذلك عندما أصبح النضال المجتمعي الديمقراطي الكردي أو حركة الحرية للشعب الكردي وبريادة القائد أوجلان جزء من نضال التحول الديمقراطي وبل محركه الأكثر فعالية، أصبح غالبية شعوب المنطقة ومجتمعاتها في حالة تكامل وتأخي وتعاضد وتعاون مع القضية الكردية، وكذلك أصبح الكرد محرك ومولد الديمقراطية في الدول الأربعة وفي الشرق الأوسط للوصول إلى الديمقراطية والحرية لكافة الشعوب وبالتالي الوصول للاستقرار والسلام، في الوقت التي زادت فيها قوى الهيمنة والاستبداد من عدائها للقائد أوجلان وللشعب الكردي وحركة حريته. ولذلك نجد التلاقي الدولتي والسلطوي أو صمت الدول والسلطات على المؤامرة الدولية في 15 شباط واستمرارها وعزلة القائد أوجلان بشكل مطلق وحرب الإبادة الجماعية التي تجرى بحق الكرد. ولكننا نعتقد أن أخوة/أخوات الشعوب ونبضهم التشاركي والتعايشي الحر، أعلى وأهم من توافق بعض الدول والسلطات على حساب شعوبنا، ولن يكون المستقبل إلا لشعوب المنطقة وتعايشهم وتكاملهم ووحدتهم الديمقراطية، رغم كل التحديات والتدخلات، وبالتالي فإن حرية القائد أوجلان وحل القضية الكردية ستكون من أهم مرتكزات الاستقرار والأمان في المنطقة، لما يشكله القائد أوجلان والكرد من فعالية وأهمية وتأثير في التحول الديمقراطي في المنطقة، وفي بناء وتعزيز الأخوة/الأخوات بين شعوب المنطقة الأصيلة بطرحه لمشروع العصرانية الديمقراطية كبديل للحداثة الرأسمالية والكونفدرالية الديمقراطية واتحاد الأمم الديمقراطية والأمة الديمقراطية كبديل للدولة القومية أداة الرأسمالية العالمية للهيمنة والنهب.