في هذا السياق، أجرت وكالة فرات للأنباء مقابلة مع الباحث المصري الدكتور أحمد محمد إنبيوة، وتحدثت معه حول مجموع من أفكار عبد الله أوجلان فيما يتعلق بمفهوم الدولة وفكرة بنائها، وكذلك نقده لفكرة الدولة القومية وشراستها في التعامل مع الإثنيات المختلفة، وما يحمل ذلك من تفسيرات لتصرفات تركيا.
إلى نص المقابلة:
*كيف قدمت كتابات القائد عبد الله أوجلان نموذجا تفكيكياً لقراءة مغايرة عن مفهوم الدولة؟
- الدولة في عالم اليوم، هي بالأساس منتج معرفي غربي نشأ نتيجة تفاعلات اجتماعية وثقافية في أوروبا الحديثة، وفي السياق التاريخي، كان لدى أوروبا حساسية مع التمايزات الإثنية، وتحولت هذه الأفكار لإرث ضمن تركيبة الدولة. ولذلك ركز عبد الله أوجلان على أهم مكون في بنية الدولة الحديثة يجعلها عدائية ودموية تجاه قطاعات من مواطنيها، كونها "دولة قومية"، إذ حاول في كتاباته قراءة التجربة التاريخية للدولة وميلاد الحداثة، التي تضمنت منذ البداية درجة عالية من العنف والدموية تجاه المجتمع.
*تحدثت في بحث بك عن لماذا يغدو عنف الدولة وجودياً في نظر البعض تجاه بعض تكويناتها، هل من خلال هذا التساؤل يمكنك تفسير الموقف التركي تجاه الكرد وتجاه أوجلان؟
- في إطار تصميم بنية الدولة التركية الحديثة وفق مبدأ الدولة القومية التي ترى في صفة الإجماع الوطني ووحدة الصف صفات تكوينية لا يمكن التنازل عنها لتركيا، يغدو كل خروج مستحقاً أن يواجه بالدم. كما أن الدولة التركية الحديثة، ورثت هواجس الإمبراطورية العثمانية، التي انهارت بوجهة نظر البعض لأنها لم تكن تركية بما يكفي، أمام فيضان التكوينات الإثنية والعشائرية وبالتالي الهوياتية التي تكونت منها الإمبراطورية على مدى تاريخها، وفي مقابل كل هذا يمثل الكرد وأوجلان على سبيل التحديد معضلة حقيقية وتحد دائم لنموذج الدولة التركية الحديثة، حسب الأفكار السابقة.
*قلت إن من محبسه أخرج أوجلان عدداً من الكتابات كصيغة دفاع فكري أمام محكمة العدل الأوروبية، أرادها مرافعة معرفية وليست قانونية، ماذا قصدت؟
- عادة يصاغ دفاع المتهم بشكل قانوني يضمن له نفي كل ما وجه إليه بغية إظهار براءته، لكن في حالتنا هذه لجأ أوجلان لخيار آخر؛ حاول أن يستغل اتهامه الشخصي لتفكيك الأسباب البعيدة والبنية المعرفية والإرث التاريخي لعداء الدولة التركية مع الكرد بشكل عام، بوصفهم إثنية مارقة عن الإجماع الوطني.
* ما الذي توقفت عنده في مانيفستو الحضارة الديمقراطية؟
- تضفيره الرائع بين التاريخ والحضارة الغربية في كليته من أفكار وتوجهات وتنظيرات، وما بين الهم الكردي الخاص. وهذا يخيرنا أن الأفكار التي دونت في القرن السادس عشر على سبيل المثال لا تزال تشكل حياتنا وتشكل تعامل الدولة معنا، بل وتشكل قدرتنا على التعايش. وما راهن عليه أوجلان هو إعادة قراءة المعرفة بوصفها صائغة للحياة والسياسة والمجتمع على الإجمال.
*أوجلان ربط دائما بين الدولة والديمقراطية، رغم أن كثيرين ينحون الديمقراطية جانباً، ماذا عن مكانة الديمقراطية في فكر أوجلان؟
- تعامل أوجلان مع الديمقراطية لا بوصفها فعل سياسي جماهيري، تتحكم فيه هذه الجماهير بالكلية، بل كانت الديمقراطية فعلا من أفعال الدولة في كثير من الأحيان. ومن ثم فهو يدعو "للديمقراطية التي لا تتطلع إلى التَّدَوُّل سريعاً، والتي لا تَنظُرُ إلى الدولةِ كعائقٍ يتوجب هدمه على الدوام". ويرى أوجلان ضرورةِ تحديدِ أشكالِ الدولةِ والديمقراطية، بحيث تنخفضُ فيهما نسبةُ الصراعِ والصِّدامِ إلى أدنى المستويات، وتَحُثّان بعضَهما البعض على العطاءِ المتبادَل، وبضرورةِ تطويرِ الاحتمالِ السياسيّ. فالدولُ القائمةُ لا تَعتَرِفُ بالديمقراطيةِ جوهرياً، ولذلك فهي بليدةٌ جداً وضخمةُ الجثة، في حين أنّ الديمقراطياتِ الموجودةَ منحرفةٌ للغاية وغيرُ فاعلةٍ إطلاقاً، باعتبارِها مسخاً وصورةً كاريكاتوريةً عن الدولِ القائمة، لذا، لا جدالَ في أنّ هذه هي القضيةُ الأوليةُ لفلسفةِ السياسةِ وممارستِها العملية.
*كيف تعامل أوجلان مع فكرة الفيدرالية والذاتية؟
- يرى ويطرح أوجلان الاتحاداتٍ الكونفدرالية، حلاً ومقاومة لجبروت الدولة القومية الشرسة في التعامل مع التنوعات الاثنية، فبقدرِ ما تَكون الدولة القومية إنكاراً للديمقراطيةِ المباشَرة، فإنّ الكونفدراليةَ الديمقراطية، وعلى النقيض، هي شكلُ تكوينِ وتفعيلِ الديمقراطية المباشرة. ويرى أنّ الوحدات الفيدرالية خلايا أولية في الديمقراطيةِ التّشاركية المباشرة، بل إنه يقول إن كلُّ أنواعِ الاتحاداتِ السياسيةِ هي اتحاداتٌ ديمقراطية، بشرطِ اعتمادِها أساساً على الوحداتِ المرتكزةِ إلى الديمقراطيةِ التّشارُكِيّةِ المباشرة. ويكمل أوجلان حديثه، بالقول بضرورةُ تَصَوُّرِ الوحداتِ الفيدراليةِ والذاتيةِ ضمن إطارٍ غنيٍّ جداً، إذ أنه من المهم للغاية إدراكُ مدى الحاجةِ إلى وحداتٍ كونفدرالية في كلِّ قريةٍ أو حيٍّ في المدينة، أي أنّ كلَّ قريةٍ أو حيٍّ يُمكِنُ أنْ يَكُونَ وحدةً كونفدراليةً بكلِّ سهولة، وصولاً إلى وحداتِ المرأة الحرةِ والدفاع الذاتيِّ والشبيبةِ والتعليم والفلكلور والصحة والتعاون والوحدات الاقتصادية، ويختزل وجهة النظر كاملة بالقول: بكلِّ سهولةٍ يمكن تسميةُ الاتحاد الجديد لهذه الوحدات بالوحدةِ الكونفدرالية أو الاتحاد الكونفدرالي (اتحاد الوحدات الفيدرالية)، وإذ ما عَمَّمنا هذا النظامَ على المستويات المحلية والوطنية والإقليميةِ والعالمية، فسنفهمُ بسهولة مدى كون الكونفدرالية الديمقراطية نظاماً شاملاً.