نقدّم اليوم لقرائنا الأكارم الجزء الثاني من الحوار الذي أجرته وكالتنا مع الرئيس المشترك لمنظومة المجتمع الكردستاني, جميل بايك, حيث تطرقنا في الحديث معه إلى الشأن السوري بالعموم والكردي منه على وجه الخصوص.
النظام في سوريا لم يكن ديمقراطياً، بل أحادياً شمولياً، اعتمد القمع والإقصاء منهجا له..
كيف تتناول حركة الحرية الكردية وصول الأزمة في سوريا إلى مستواها الراهن؟
ما من شك في أن طابع النظام في سوريا لم يكن ديمقراطياً. بل كان نظاماً سلطوياً يعتمد الحزب الواحد. لذا، كانت إرادة المجتمع غائبة فيه. وعلى الرغم من الانتخابات التي تحصل بين الحين والآخر، إلا إنها لم تكن ذات طابع ديمقراطي يمد النظام بالشرعية. بل كان يُنتَخَب المرشحون والنواب الذين يحدِّدهم حزب البعث. أي أنه لم تكن تتم مراعاة إرادة المجتمع، ولم تكن ثمة ديمقراطية محلية نظراً لطابع النظام المركزي. بالتالي، لم تكن إرادة الشعوب والجماعات المحلية تنعكس على الإدارة. أي أن الإدارة لم تكن تأتي بالانتخابات المرتكزة إلى الديمقراطية المحلية أو إلى الطابع الديمقراطي للمجتمع. من جانب آخر، فإنه لم يكن نظاماً تحيا فيه الهويات المختلفة بحرية وديمقراطية وفق هويتها وثقافتها هي. ما من شك في أنه كان يسمَح لبعض الجماعات العقائدية، وخاصة المسيحيين والأرمن والدروز، أن تحيا عقائدها بنسبة مهمة. بالتالي، لم يكن نظاماً يقمع العقائد المختلفة بقوة. أي أنه كان متقدماً جداً على تركيا بخصوص السماح لها بممارسة طقوسها وعباداتها. إلا إن تلك الجماعات لم تكن تتخذ القرارات المعنية بها بذات نفسها، ولم تكن تدير نفسها بنفسها.
لقد كان يسود نظام سلطوي مركزي لا تنعكس إرادة عموم الشعب عليه، ولا يعترف بها فيه. وهذا ما كان يولِّد استياء ملحوظاً في المجتمع. إذ عادةً ما يكون المجتمع مستاءً في ظل الإدارات التي لا تنعكس إرادته فيها. ورغم أنه لم يُظهِر ردود فعل كبرى إزاء ذلك، إلا إن نظام البعث القائم لم يَكُن مستساغاً من قِبَل سواد المجتمع. إن الحركات الشعبية التي ابتدأت في تونس عام 2011، وانتقلت إلى مصر، ثم استمرت في ليبيا مع التدخل العسكري فيها؛ كانت تتميز بالحنين إلى الديمقراطية والحرية وتطمح في التخلص من الأنظمة الدولتية القمعية والاستبدادية والسلطوية. ذلك أنه إلى جانب التقاليد القمعية للأنظمة الدولتية السلطوية على مر آلاف السنين في منطقة الشرق الأوسط، كانت ثمة إدارات استبدادية تشكلت وفق ذهنية الدولة القومية على يد الحداثة الرأسمالية. وفي عهد الحرب الباردة كان ثمة أنظمة سلطوية استبدادية استمرت بوجودها من خلال الحظي بدعم القوى الإمبريالية من جهة ودعم الاتحاد السوفييتي من جهة أخرى. ومع الحراك الشعبي الذي سُمّي "الربيع العربي" كان يُؤمَل المجيء بأنظمة ديمقراطية تحل محل الأنظمة السلطوية الاستبدادية السائدة. إلا إن القوى الإمبريالية تدخلت بالتوجه نحو تأسيس نظام شرق أوسطي جديد اعتماداً على الإسلام المعتدل المتواطئ معها، وذلك بهدف حماية مصالحها في المنطقة.
تركيا التي قالت في البداية "ماذا يعمل الناتو في ليبيا؟"، بدأت تسعى إلى التحكم بالحركات الإسلاموية المعتدلة التي كانت ستظهر إلى الميدان لاحقاً بالاستفادة من استخدام مقر حلف الناتو الذي في مدينة إزمير التركية. ونخص بالذكر أنه لدى ظهور حركات اجتماعية مشابهة في سوريا، فقد تناولت تركيا الأمر بمنفعية انتهازية، وبدأت بالتدخل الفعال بهدف تحقيق تبدل السلطة في سوريا خلال فترة قصيرة، وإحلال سلطة سياسية مقربة منها محلها. وبذلك أرادت أن تكون صاحبة نفوذ في سوريا الجديدة من جهة، وأن تعيق تمتع الكرد بالحياة الحرة والديمقراطية في أجواء الأزمة السياسية المتصاعدة من جهة ثانية. وهدفت إلى تغيير نظام الأسد بأقصى سرعة، وإحلال نظام إسلاموي استبدادي محله، بحيث يكون تابعاً لها وقادراً على التحكم بالكرد. وبذلك حرَّفَت انتفاضة الشعوب في سوريا، والتي انطلقت بهدف تكريس الديمقراطية. وهكذا دخلت الحركات السياسية والاجتماعية في سوريا مرحلة التبعية لتوجيه القوى الخارجية بعد تدخل القوى الإمبريالية من جانب وتركيا من الجانب الآخر. وهذا ما زاد من حدّة الاشتباكات في سوريا. ونخص بالذكر تلك العصابات التابعة لتركيا، والتي تلقّت الدعم الكبير منها فشنّت هجماتها في كل الأطراف، وابتدأت مرحلة صراع عنيف خلَّف وراءه دماراً كبيراً. وفي هذه المرحلة تَمَكَّن الكرد من بسط نفوذهم على مناطقهم، ليتوجهوا نحو تأسيس حياة حرة وديمقراطية فيها دون التحول إلى جزء من أية قوة أخرى في أجواء الأزمة السياسية السائدة، متطلعين بذلك إلى سد الطريق أمام دخول روجافاي كردستان في أية حرب تدميرية. وهكذا، فإن قيام "وحدات حماية الشعب YPG" بحماية الأحياء والقرى والضواحي والبلدات التي يقطنها الكرد، قد أَفسَد ألاعيب تركيا وبعض القوى الخارجية الأخرى.
وفيما عدا تركيا، فإن دولاً أخرى كالسعودية وقطر كانت ترغب في جر سوريا إلى نهج يخدم مصالحها هي. وبجانبها هذا، فقد تحولت سوريا إلى ساحةِ حرب وصراع بالنسبة للقوى التي أرادت التدخل في منطقة الشرق الأوسط. وقد أدت الدولة التركية بصورة خاصة دوراً سيئاً للغاية في هذا المضمار. إذ دفعت العصابات للهجوم على الكرد بسبب عدائها لهم. ونظراً لأن هدفها الأساسي هو عرقلة إحراز الكرد لأية مكاسب، فقد وَجَّهَت كل المعارضات في سوريا نحو هدف سد الطريق أمام نيل الكرد لحقوقهم. وبذلك خرجت الحرب بجانبها هذا من كونها تستهدف إسقاط نظام الأسد، لتتحول إلى حرب تستهدف كسر إرادة الحرية والديمقراطية لدى الكرد. فقامت الدولة التركية بدعم "داعش" الذي ظهر في تلك الفترة. فعلى الرغم من مزاعم "داعش" بأنه حركة تستهدف السلطات القائمة في سوريا والعراق، إلا إنه قد تَبيّن خلال فترة قصيرة أنه حركة دفعَتها القوى الإقليمية الرجعية، وعلى رأسها الدولة التركية، لشن الهجمات والنيل من آمال الشعوب في الحرية والديمقراطية. من جانب آخر، فإن داعش بات حركة سياسية دخلت حرب بسط النفوذ والحاكمية بالقتل والحرق والتدمير وبقطع الرؤوس وتهديد المجتمعات وفرض الاستسلام على الجميع، وبصورة خاصة على الكرد. فقد ارتكبت المجازر في شنكال (سنجار). ونالت دعم الدولة التركية ومختلف القوى الأخرى في هجومها على الكرد بهدف كسر إرادة الكرد وقمع ثورة روجافا للتمكن من تأسيس نظام فاشي في سوريا بناء على ذلك. لكن، ومع تدخل قوات الكريلا، لم يستطع داعش تحقيق مآربه كاملةً. فقد نجا الإيزيديون من المجزرة، وأبدت قوات YPG والشعب الكردي في كوباني إحدى أعظم المقاومات في التاريخ، لتغدو ملحمة القرن. وهكذا تحققت مقاومة شعوب العالم متجسدةً في مقاومة كوباني. ذلك أن داعش كان قد أصبح حركة معادية للبشرية، وتهدف إلى بسط نفوذها عبر بث الذعر والإرهاب في نفوس الشعوب، بتحريض مباشر من الدولة التركية. وهذا ما أثار حفيظة شعوب العالم والقوى الدولية على السواء. بالتالي، فإن المقاومة الكردية حظيت بدعم كافة شعوب العالم، وبدأت قوات التحالف الدولي، التي كانت تَعتَبر داعش خطراً يهددها، بالقصف الجوي على داعش دعماً لهذه المقاومة البطولية في كوباني.
كل ذلك زاد من تعقيدات الحرب في سوريا، وأضفى عليها أبعاداً جديدة. حيث لم يَهزم الكردُ عصابات داعش في كوباني فحسب، بل وفي الشدادة وتل حميس والهول وغيرها من المناطق الأخرى. ومع الهزائم التي تَكبَّدها داعش في كوباني وغيرها من مناطق روجافا، بدأ يتجه نحو الانحدار. ومع تحرير كري سبي (تل أبيض) وارتباط كانتون الجزيرة بكانتون كوباني، ومع تحرير منبج أيضاً؛ بدأت الدولة التركية بشن هجمات مسعورة أكثر ضد ثورة روجافا. وعندما لم يفلح داعش في تحقيق مآرب الدولة التركية في قمع ثورة روجافا، بدأت الدولة التركية بالدخول مباشرة على الخط، لتُزيد من حدّة هجماتها مع مرور كل يوم. إلا إن المقاومة الباسلة التي أبداها الشعب الكردي قد أَفرَغت سياسات الدولة التركية هذه من محتواها. مقابل ذلك، فإن الدولتين السورية والعراقية، اللتين استمدتا الجرأة من هذه المستجدات، قد بدأتا بالتصدي لهجمات داعش. أي أن هاتين القوتين اللتين كانتا حتى وقت قريب في موقع الدفاع السلبي تجاه هجمات داعش، قد استمدتا الجرأة من مقاومة الكرد، فبادرتا إلى تعزيز أماكنهما. وفي تلك الفترة كان النظام السوري أيضاً قد لملم قواه إلى حد ما بدعمٍ إيراني وبتدخل روسي مباشر. فقد سمحت هذه القوى لتركيا بالدخول إلى جرابلس والباب، مقابل أن تُخرِج العصابات التابعة لها من حلب وريفها. وبالتأكيد، فكانت هذه خطوة مهمة على صعيد حماية النظام السوري لمواقعه ووجوده. ذلك أن خسارة النظام السوري لمدينة حلب كانت تعني خسارته للعاصمة دمشق أيضاً. بالتالي، فإن انسحاب العصابات من حلب كانت خطوة مهمة للنظام من حيث حماية وجوده كنظامِ دولة. أما تحرير "قوات سوريا الديمقراطية" لمدن منبج والطبقة والرقة، وتوجهها نحو دير الزور من جهة، وبسط النظام السوري سيطرته على دير الزور ومحيطه من جهة أخرى؛ فقد أدى إلى ظهور توازنات جديدة في سوريا. حيث باتت القوى الأساسية الفاعلة في سوريا راهناً تتمثل في "فيدرالية شمال سوريا الديمقراطية" والنظام السوري.
لقد كان النظام السوري في البداية وجهاً لوجه أمام الانهيار. إلا إن خطر داعش والنصرة كان سبباً في تخفيف مختلف القوى التي كانت تهدف إلى إسقاط النظام من حدّة هجماتها عليه. من جانب آخر، فإن القوى السياسية في لبنان وإسرائيل قد نظرت إلى السلطة السورية الحالية على أنها أهون الشرَّين، لأنها لا ترغب بسوريا الجارة التي تحكمها عصابات داعش والنصرة. وعندما وجدت الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا أن سوريا الجديدة التي يتطلع داعش والنصرة إلى تأسيسها ستَكون أكثر خطراً، راحتا تغضان النظر عن بقاء النظام السوري واستمراره. وبالمقابل، فقد درست سوريا وروسيا وإيران هذه الأوضاع، فتدخلت بفعالية أكبر للتمكن من تعزيز شأن النظام إلى حد ما.
بعد هزيمة "داعش" وفشلها في القضاء على الكرد، قررت تركيا الدخول بنفسها إلى الساحة السورية والاعتماد على جيشها في محاربة الشعب الكردي..
في أي مستوى هي التوازنات السياسية في سوريا الآن؟ وكيف هي سوريا المستقبل حسب رأيكم؟
لقد هُزم داعش، وضاق الخناق بنسبة ملحوظة على النصرة. وقد بسطت "فيدرالية شمال سوريا الديمقراطية" والنظام سيطرتهما على مناطق واسعة تشكل أغلب مساحة سوريا. ولم يَبقَ سوى بعض العصابات التابعة للدولة التركية، والتي ما تزال فاعلة في منطقة الشهباء وفي إدلب ومحيطها. وسيتم الجزم بمستقبل سوريا وفق نتائج الصراع الذي ما يزال دائراً في الشهباء. ونخص بالذكر أن الدولة التركية ما تزال تدعم العصابات هناك، لتتمكن من المتاجرة وعقد الصفقات مع سوريا وروسيا، ولإعاقة الكرد من التمتع بحياة حرة وديمقراطية في روجافا. حيث لوَّحَت الدولة التركية بالعصابات التي في حلب، ودخلت جرابلس والباب بهدف إعاقة إيصال كانتون الجزيرة بكانتون عفرين. وهاهي الآن تُزيد من ضغوطها على عفرين بموجب سياستها التي تهدف إلى كسر إرادة الكرد في تلك المناطق من جهة، وزيادة نفوذ مختلف العصابات التابعة لها من جهة ثانية، لتتمكن من فرض شروطها على روسيا والنظام السوري. وعليه، فالدولة التركية حالياً هي القوة التدميرية الكبرى ومن أهم مصادر عدم الاستقرار في سوريا. كان بإمكان الحركات الشعبية والاجتماعية في سوريا أن تلعب دورها في إطراء التغيير ضمن سوريا وفق نهج أفضل ومسار أصح. وكان بالإمكان إحداث تطورات إيجابية تُمَكِّن من تحقيق التحول والتغير في النظام السوري وفق إرادة الشعوب الفاعلة، دون أن تصل الحرب في سوريا إلى ما هي عليه الآن من حدّة. إلا إن تركيا لا ترغب في بروز نموذج سوريا ديمقراطية بحيث تتجه نحو التحول الديمقراطي وتَعترف بالحياة الحرة والديمقراطية للكرد. بالتالي، فهي ما تزال بمثابة القوة التي تحرض على الحرب في سوريا، وتمنع انتهاءها، وتخلق اللااستقرار فيها. وكل من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وإيران ونظام البعث السوري يدركون ذلك جيداً.
ثمة نفوذ ملحوظ حالياً لقوات التحالف الدولي وأمريكا في سوريا اليوم، بالإضافة إلى نفوذ روسيا فيها. وكِلا الطرفين يسعيان إلى بناء نظام جديد في سوريا وفق تشاركات وتوافقات معينة، لأنهما يجدان أن التصادم سيُزيد من وطأة المشاكل في سوريا. ولذلك فقد بادرا إلى شراكة معينة تهدف إلى رسم معالم نظام سوري جديد. ورغم أنهما لم يتوصلا إلى اتفاقيات علنية في هذا الشأن، إلا أننا نراهما يجهدان لأجل تكريس هذا النظام الجديد من دون صِدام. وتوافُقُ كل من بوتين وترامب في فييتنام حول الشأن السوري، هو تعبير واضح عن هذه الحقيقة. ولذلك أسبابه بالطبع. ذلك أن الأجواء السياسية العالمية ليست كما كانت عليه في عهد الحرب الباردة. إذ كانت هناك تقطبات صارمة في فترة الحرب الباردة، وكانت تؤدي إلى صِدامات وحروب عنيفة. إلا إنه مع انتهاء الحرب الباردة وتَحَقُّق عولمة الرأسمالية، طرأت التغيرات على طراز الصراع السياسي. ما من ريب في أن الظروف التي تهيمن فيها الرأسمالية والإمبريالية لن تخلو من الاشتباكات والتناقضات والصراعات. ذلك أن طبيعة الرأسمالية تُحتّم وجود التناقضات والاشتباكات. إلا إن تَوَجُّه الرأسمالية نحو العولمة، وتَحَوُّل روسيا والصين والولايات المتحدة الأمريكية إلى أجزاء لا تنفصل من هذا النظام الرأسمالي، بالإضافة إلى السيولة الحرة والآمنة لرأس المال في هذه المرحلة الجديدة التي دخلتها الرأسمالية؛ كل ذلك وما يسفر عنه من شراكة تلك القوى حول مبدأ الاستغلال الرأسمالي، إنما يُحتّم عليها جميعاً الابتعاد عن الصِّدام واللجوء إلى دياليكتيك الصراع-العلاقة المتبادلة. وعليه، فإن الصراع الحالي هو صراع تحاول فيه كل قوة أن تراعي مصالحها فيه وفق مستويات معينة لدى رسم المسار العام للصراع. أي أنها تستمر في الصراع فيما بينها وفق سلّم درجات أو هَرَم المصالح الذي تكون فيه قوة ما أكثر أو أقل نفوذاً. وسيكون الصراع الرأسمالي الاقتصادي والسياسي من الآن فصاعداً على شكلِ صراع يهدف إلى تداوُل وتبديل سلّم الدرجات ذاك بين الحين والآخر. أي أنه لن يستمر وفق الانقسام وتشكيل أقطاب ثنائية أو ثلاثية متضادة يسعى كل طرف فيها إلى التغلب على منافسيه كلياً. ولن يكون صراعاً سياسياً على شاكلةِ بسطِ قوةٍ ما لنفوذها في منطقة معينة وإقصاء القوى الأخرى منها. ذلك أن عولمة الرأسمالية والتدفق الحر والآمن لرأس المال قد أصبحا مبدأً أساسياً ومصلحة رئيسية لجميع القوى، وهذا ما يُولِّد معه الحاجة إلى تغيير طراز الصراع السياسي فيما بينها. وانطلاقاً من ذلك، فإن كلاً من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية سوف تستمران في سياساتهما وفق مبدأ العلاقة-التناقض المتبادل فيما بينهما. وبموجب هذا المبدأ الدياليكيتي، سوف يسعى كل طرف إلى تحديد موقعه ضمن نظام سوريا الجديد الذي يُراد تأسيسه.
قوات سوريا الديمقراطية حررت الطبقة والرقة وريف دير الزور، وأهل هذه المناطق أمامهم فرصة حقيقية لإدارة مناطقهم والعيش بسلام..
كيف سيكون موقع الشعوب ضمن الصراع الدائر في سوريا؟ وكيف ستَكون سوريا التي ترون أنها ستجلب الأمن والاستقرار والسلام؟
إن الحروب في عصرنا الراهن لن تخرج بتوازنات أو أنظمة سياسية تحدَّد معالمها حسب نتائج الصراع بين القوى المهيمنة فحسب، كما كان الأمر عليه في الحربين العالميتين الأولى والثانية. بل إن إرادة الشعوب أيضاً ستأخذ موقعها ضمن هذه التوازنات والأوضاع، وستكون مؤثرة، وستُراعى بهذه الدرجة أو تلك. وبهذا المعنى، فإن الوضع السياسي في سوريا لن يتحدد وفق مصالح الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا أو حسب مشيئة القوى الإقليمية الحاكمة فحسب. إذ ثمة نضال شعبي ينبغي مراعاته، وهناك إرادة الشعوب التي تهدف إلى التأسيس لحياة سياسية ديمقراطية بعد التخلص من هذه الدول الاستبدادية المركزية. وقد رأينا ذلك بكل وضوح في الحركات الشعبية العربية، وفي ثورة روجافا، وفي نضال الشعب الكردي لأجل الحرية والديمقراطية في باكور كردستان. كما هناك حِراك شعبي يهدف إلى ذلك في باشور وروجهلات كردستان أيضاً. أي أنه ظهرت خلال سنوات الحرب والصراع المنصرمة دينامياتٌ سوف تُغيّر الأوضاع في سوريا. فالكرد والعرب والسريان والدروز وغيرهم من الأثنيات والجماعات العقائدية في سوريا، تتطلع إلى بناء سوريا جديدة تمثِّل فيها إرادتها الديمقراطية بحرية. أي أنها تطمح ببناء سوريا لامركزية، تسودها الديمقراطية المحلية. بمعنى آخر، فالحرب والصراع قد وصل إلى نقطة تطرح معها تساؤلات مهمة ومغايرة من قبيل: ما هي خصائص النظام الذي سيتأسس في سوريا؟ إلى أي مدى سيتم تمثيل إرادة الشعوب فيه؟ كيف سيكون مستوى التحول الديمقراطي في سوريا؟.
لقد حررت "قوات سوريا الديمقراطية" كلاً من الطبقة والرقة وريف دير الزور، وتتطلع إلى تأسيس نظام ديمقراطي في عموم شمال سوريا. إنها تهدف إلى بناء سوريا اتحادية ديمقراطية مرتكزة إلى الديمقراطية المحلية وشبه الاستقلاليات المحلية. وبالفعل، فهذا ما يتحقق اليوم في شمال سوريا. فبالرغم من ميول ومساعي النظام في بسط حاكميته على عموم سوريا بذهنيته المركزية والسيادية القديمة، إلا إنه لم يعد هذا الأمر ممكناً. فقد تغيرت الكثير من الأمور في سوريا. بالتالي، فالسعي إلى إعادة هيكلة النظام القديم وكأن شيئاً لم يحدث في سوريا، لن يعني في حقيقة الأمر سوى أن يُقحِم النظام القائم أو القوى المتحكمة بمفاصل الدولة نفسها في حرب ستُودي بها تحديداً. وبقول آخر، فمن دون أن يتغيَّر النظام السوري الحالي، ومن دون أن يتحول إلى جزء من التغير الجاري في سوريا؛ فمن غير الممكن له أن يحمي وجوده أصلاً. فلا الشعب الكردي، ولا الشعب العربي، ولا بقية الشعوب في سوريا ستقبل بإرغامات سيطرة النظام كما كان عليه في السابق. كما إن مصالح روسيا والقوى الدولية أيضاً لا تكمن في تأمين استدامة نظام الشرق الأوسط الذي كان سائداً في القرن العشرين. ذلك أن الرغبة في الاستمرار بنظام القرن العشرين يعني الرغبة في استدامة اللااستقرار. فنظام القرن العشرين قد تشتت، لأنه لم يحل المشاكل والقضايا العالقة، بل زاد من وطأتها. بالتالي، فالسعي في القرن الحادي والعشرين إلى الاستمرار بنظام سياسي مرتكز إلى التوازنات القديمة في المنطقة، والتي لم تحل المشاكل بل زادتها استفحالاً، إن دلّ على شيء فهو يدل على التيه وفقدان العقل. حيث إن مقاربات الذهنيات الاستبدادية السلطوية، التي تفرص ذاتها ولا تقبل التغيير، هي مقاربات لا تتماشى مع الواقع الاجتماعي والسياسي والتاريخي للمنطقة ولا مع واقع النضال الشعبي السائد في القرن الحادي والعشرين. وعلى هذا الصعيد، فإننا كـPKK نقول أن سوريا لن تكون كما كانت سابقاً، وأن الإصرار على القديم من حيث مفهوم الدولة والسلطة الذي كان سائداً في القرن العشرين، لن يكون في منفعة أو مصلحة أحد. كما إن بناء سوريا جديدة بهذا الشكل أيضاً بات أمراً غير ممكن. وعليه، فإننا نؤيد اتحاد الشعوب في سوريا بهدف بناء سوريا جديدة ديمقراطية تُمكِّن توافُق كافة القوى السياسية في سوريا. إلا إننا على قناعة بضرورة أن يراعي هذا التوافقُ إرادة الشعوب. ولا يمكن للحرب الدائرة أن تتوقف، ولا للانسداد السائد أن يتلاشى إلا بهكذا نموذج من سوريا المستقبل. وبهذا الشكل يمكن تذليل القضايا العالقة، وبناء نظام سياسي جديد يتناغم مع الواقع التاريخي والاجتماعي والسياسي لسوريا.
وهذا يكون بالتحول الديمقراطي وبوجود رؤية ديمقراطية. إذ من غير الممكن حل القضايا العالقة في سوريا إلا من خلال سوريا ديمقراطية معتمدة على الديمقراطية المحلية. وهكذا حل سيكون في صالح الجميع من الكرد والسريان والعرب السُّنّة والعرب العَلَويين والدروز والشيشان والتركمان. أي أنه ليس الكرد فقط هم بحاجة إلى الديمقراطية. بل وللعرب العَلَويين وللجماعات ذات التعداد القليل على وجه الخصوص حاجة ماسة بالديمقراطية. ذلك أن الحاكمين وذوي الأغلبية السكانية يتميزون دوماً بميول التحكم بالجماعات الأثنية والدينية الأخرى وقمعها. علماً أنه يُراد الآن في تركيا بناء نظام سياسي مرتكز إلى الإسلام السني التركي تحت ذريعة "نحن أغلبية، لذا على الجميع أن يتبع الأغلبية". بل ويفسرون الديمقراطية بهذا المنظار، إذ يقولون "ما دمتم تريدون الديمقراطية، فعليكم بالخضوع لإرادة الأغلبية". إنهم يستثمرون حتى الديمقراطية لصالحهم، ويمارسون الديماغوجية بالترويج لديمقراطية منحرفة بهدف قمع الشعوب وتنفيذ التطهير العرقي ضدها. وقد تظهر هكذا ذهنية في سوريا أيضاً. ففي سوريا هناك تيارات شبيهة بذهنية داعش والنصرة، حيث تقول: "إننا أغلبية في سوريا. السُّنّة أغلبية. العرب أغلبية". بالتالي، فقد تبادر بقمع العَلَويين والجماعات العقائدية الأخرى من جهة، وبقمع الكرد من جهة أخرى. ثمة هكذا خطر على الدوام. من هنا، لا بد من تمكين الديمقراطية كشرط لا غنى عنه، في سبيل ضمان المستقبل للجميع في سوريا وتمتعهم بحياة ديمقراطية حرة. فإذا ما تم تمكين الديمقراطية، فسيضمن الكرد والعَلَويون والدروز والشيشان والمسيحيون الاستمرارَ بوجودهم وفق لغاتهم وهوياتهم وثقافاتهم وعقائدهم من جانب، وسيستمر العرب السُّنّة أيضاً بوجودهم ضمن أجواء من الديمقراطية الحقيقية، دون أن يشعروا بالإقصاء الذي كان يطالهم هم أيضاً في الماضي. ما من شك في أنه في حال استتباب الديمقراطية، فلن يقول العرب السُّنّة "نحن الأغلبية"، ولن يُرغِموا الآخرين من كُرد وعَلَويين على الخضوع لهم. ذلك أن الديمقراطية لا تقبل الإرغام. حيث إن الديمقراطية الحقيقية هي أساساً نظام سياسي مرتكز إلى شبه الاستقلاليات الديمقراطية، بحيث تنظِّم مختلف الهويات الأثنية والدينية حياتها الحرة والديمقراطية بإرادتها الحرة اعتماداً على الديمقراطية المحلية. إننا على قناعة بأن سوريا التي ستُدار شؤونها بشكل صحيح وفق نظام سياسي كهذا، سوف يتعزز شأنها وتتحقق وحدتها.
لسنا مع تقسيم سوريا ونحن ضد إنفصال الكرد أو أي مكون آخر عن الوطن السوري..
لكن بعض الشرائح تنظر إلى هذا المشروع على أنه "مشروع تقسيم سوريا". فماذا تقولون في هذا الشأن؟
إننا لسنا مع تقسيم سوريا. ونحن ضد انفصال الكرد أو بناء دولة منفصلة لهم، تماماً مثلما أننا ضد أية سياسة تقسيمية قد يتطلع إليها الآخرون في سوريا. إننا مع سوريا متكاملة ومتحدة تشارك فيها مختلف الهويات والثقافات في بناء نظام سوريا ديمقراطية بالتأسيس على الديمقراطية المحلية. إذ إن مصلحة شعوب سوريا لا تكمن في بناء الدول أو الدويلات، ولا في الانفصال أو التقسيم. إن هذا ليس في مصلحة الكرد ولا العَلَويين ولا شعوب سوريا قاطبة. لكنّ النظام المركزي المهيمن لن يَكون من مُرَسِّخي الديمقراطية. بمعنى آخر، لا يمكن حماية وحدة سوريا ولا استتباب الاستقرار فيها عن طريق نظام سلطوي لاديمقراطي. بالتالي، فإننا نقول بأن سوريا الديمقراطية المرتكزة إلى الديمقراطية المحلية ستَكون قادرة على حل جميع القضايا، وستُعزز وحدة سوريا. وبالمقابل، فإن سوريا الموحدة ستصبح بلداً بالغ التأثير في عموم الشرق الأوسط. وكلنا إيمان بأن تمكين التحول الديمقراطي في سوريا سيؤدي دوراً بارزاً في تطوير الحياة الحرة والديمقراطية في العالَم العربي ضمن منطقة الشرق الأوسط قاطبة، بل وفي إبراز العالَم العربي على مسرح التاريخ بنحو نافذ.
يجب ألاّ ينظر النظام في سوريا، ولا العرب ولا الجماعات الأخرىن إلى "فيدرالية شمال سوريا الديمقراطية" على أنها مشروع انفصالي. ذلك أن "فيدرالية شمال سوريا الديمقراطية" بشبه استقلالياتها المحلية التي تشتمل عليها وترتكز إليها هي ضمان وحدة سوريا، وهي الأرضية المنيعة لتمكين تحوُّلها الديمقراطي. إذ كان بإمكان الفيدرالية المنحصرة بروجافا أو شبه الاستقلال المقتصر على الكرد فقط أن يؤجج النعرات القوموية، أو أن يُعتَبَر عاملاً مؤثراً في الانفصال. إلا إن تطلع الكرد إلى تأسيس سوريا ديمقراطية ضمن إطار "فيدرالية شمال سوريا الديمقراطية" بالتشارك مع العرب، إنما يعبّر عن عيشهم ضمن إطار وحدة سوريا وفي أجواء من التآخي مع أشقائهم العرب. أي أن "فيدرالية شمال سوريا الديمقراطية" ليست فيدرالية كردية محضة. بل وتُعَدّ نسبة العرب ضمن هذه الفيدرالية أكثر حتى. من هنا، فتطلُّع الكرد إلى بناء نظام سياسي مرتكز إلى الديمقراطية المحلية وشبه الاستقلال المحلي ضمن إطار "فيدرالية شمال سوريا الديمقراطية"، وعيشُهم فيها بنحو حر وديمقراطي؛ إنما يدل على طموحهم في تكريس وحدة سوريا. وعليه، فعلى العرب أولاً، وعلى جميع شعوب سوريا والشرق الأوسط أيضاً، أن يَعتَبروا "فيدرالية شمال سوريا الديمقراطية" مشروعاً يؤسس لوحدة سوريا، وليس مشروعاً انفصالياً أو تقسيمياً. فبهكذا مقاربة عَبَّر الكرد عن رفضهم لتقسيم سوريا، وأنهم يرغبون في العيش المشترك ضمن سوريا موحدة مع الشعب العربي والسريانيين. بل وتُعَدّ "فيدرالية شمال سوريا الديمقراطية" تعبيراً قوياً وتأكيداً حاسماً على إصرار الكرد على العيش ضمن إطار وحدة سوريا. هكذا نفهم الأمر. ونحن على قناعة تامة بضرورة أن ينظر الكرد والعرب إلى "فيدرالية شمال سوريا الديمقراطية" من هذا المنظار، وأن يبذلوا جهودهم بناءً على ذلك من أجل تأسيس "سوريا فيدرالية" وتكريس "فيدرالية شمال سوريا الديمقراطية". هكذا هي مقاربتنا بالتأكيد. وهكذا هي مقاربة القائد APO. أي أن القائد APO وPKK لا يقبلان إطلاقاً بتقسيم سوريا. بل يؤكدان على ضرورة وحدة سوريا، ويتطلعان إلى بناء سوريا الجديدة، التي يعيش فيها العرب والكرد والسريانيون والكلدانيون والآشوريون والشيشان والتركمان والدروز والآخرون ضمن إطار العيش المشترك والتآخي.
الدولة القومية لم تجلب على شعوب الشرق الأوسط سوى الويلات..
إنكم تصرّون على رؤية "الأمة الديمقراطية". فهل لكم أن تشرحوها قليلاً؟
إننا كحركة نتسم بنهج يعتمد أساساً على رؤية "الأمة الديمقراطية" عوضاً عن المفهوم الكلاسيكي للأمة. ولا شك أنه ينبغي على جميع الجماعات الأثنية والدينية أن تحيا بحرية وديمقراطية وفق منظور "الأمة الديمقراطية" وفق هوياتها وثقافاتها، وأن تسعى إلى تعزيز وجودها وتطوير هوياتها وثقافاتها بموجبه، وألاّ تأبه بأي عائق في سبيل تكريس ذلك. وبالأصل، فقد عاشت الشعوب والجماعات بشكل متداخل على مر التاريخ، سواء في منطقة الشرق الأوسط بصورة خاصة، أم في جميع أصقاع العالم بصورة عامة. أما وضع الحدود الفاصلة بين الشعوب، والقول أن هذه الحدود تعود للعرب، وتلك تعود للكرد، والأخرى تعود للأتراك؛ فإنها مقاربة غير صحيحة بتاتاً. فالمهم هو حرية الشعوب، وبلوغ الأمم إلى مستوى حياة حرة وديمقراطية، وتذليل العقبات التي تعترض تحقيق ذلك. هذا ما ينبغي التركيز عليه أساساً. وفي هذا السياق، فإننا على قناعة بأن الدولة لا تجلب الحرية للشعوب. ونخص بالذكر مفهوم الدولة القومية الذي ساد في عصر الحداثة الرأسمالية، إذ نَعتَبرها نظامَ تطهير عرقي بكل معنى الكلمة. إذ ما من منفعة قدَّمتها الدولة القومية للبشرية. بل إنها خيانة بحق البشرية وثقافاتها، وهجوم يستهدف قيمها التاريخية والثقافية. ذلك أن منظور الدولة القومية يهدف إلى القضاء على كل الأمم فيما عد الأمة الحاكمة. بالتالي، فهو منظور رجعي، بل وهو من أكثر ذهنيات التاريخ وبُناه وممارساته رجعيةً وتخلفاً. إنه أكثر رجعية من باقي أشكال الدولة التي شهدها التاريخ. وهو أكثرها تنظيماً للإبادات والمجازر والقمع واللاديمقراطية.
إن خلق نموذج الدولة القومية وطرحه كنظام قائم بذاته، هو كنايةً عن جرثومة سرطانية طُعِّمَت بها البشرية، وهو أشنع الرذائل. فالدولة بحد ذاتها تعني السوء والرذيلة. لكن الدولة القومية هي أُمُّ الرذائل. فهي عدوة البشرية والتاريخ والثقافة وكل القيم النبيلة. ذلك أنها لا تؤسس ذاتها إلا على التطهير العرقي والقمع والظلم والغبن. وبمجرد القبول بالدولة القومية وتَمَثّلها، يبدأ حينها التأسيس للقمع والظلم وبنحو مستدام. إن جوهر الدولة القومية هي الفاشية حقاً. وبمجرد تطبيقها على أرض الواقع، يبدأ تنفيذ التطهير العرقي والإبادة. وقد ذَكَرَ القائد APO أن الدولة القومية قد جلبت كل الرذائل لشعوب الشرق الأوسط بصورة خاصة وللبشرية قاطبة بصورة عامة. فقد عاشت شعوب الشرق الأوسط على مر تاريخها بنحو متداخل ضمن كيانات فيدرالية أو كونفدرالية، بحيث تحتفظ بهوياتها وثقافاتها الذاتية في أماكن تواجدها وسَكَنها. كما تبادلت العلاقات وتداخلت مع الشعوب الأخرى. بالتالي، فإن فصل الثقافات عن بعضها بعضاً، ورسم الحدود الصارمة بينها هو أمر مُنافٍ لطبيعة البشرية، ومقاربة لا تتماشى مع مسار التطور التاريخي للبشرية. وعليه، فإن الدولة القومية قد أَبلَت البشرية بالرذائل والسيئات الكبرى.
كما إن مفهوم "الأمة" الذي ابتكَرَته الدولة القومية هو مفهوم احتكاري يعتمد على إقصاء كل ما هو مختلف والقضاء عليه. وفي هذا السياق، اعتَقَد القائد APO أن الدولة القومية قد جلبت القمع والظلم والرذيلة لشعوب الشرق الأوسط خصيصاً، وطرح نظرية "الأمة الديمقراطية" كبديل جذري مضاد لصالح البشرية جمعاء. وقال أنه بمقدور مختلف الأمم التي تعيش على بقعة جغرافية معينة أن تتحد وتتشارك العيش كـ"أمة ديمقراطية". وهذا لا يعني صهر أمة ما في بوتقة الأمم الأخرى. ذلك أن الأمة الديمقراطية هي رؤية تعتمد أساساً على الاعتراف بوجود كل الأمم (أياً كان تعدادها السكاني)، وأن تعيش كل أمة بهويتها وثقافتها الذاتية، وأن تتشارك العيش مع بعضها بعضاً ضمن أجواء عامرة بالمساواة والتآخي، بحيث تتطلع معاً إلى تحقيق الأهداف السياسية والثقافية والاقتصادية المشتركة. أي أنه فعلاً ثمة تكامل كليٌّ فيها ضمن أية بقعة جغرافية معينة. وثمة دياليكتيك شفاف ضمن هذا التكامل والاتحاد، بحيث لا يدخل تمزيقها أو تشتيتها أو تقسيمها في خدمة أي شعب أو أمة كانت. ويتصور القائد APO في هذا السياق أن منطقة الشرق الأوسط كانت بقعة جغرافية تداخلت فيها الشعوب على مر التاريخ، فارتأى تأسيس "الكونفدرالية الشرق أوسطية الديمقراطية" أو "الفيدرالية الشرق أوسطية الديمقراطية" في المنطقة. قد يتحقق ذلك خطوةً بخطوة على أرض الواقع. إلا إن تأسيس الفيدرالية أو الكونفدرالية الشرق أوسطية الديمقراطية هو تعبير ملموس عن إعادة إنعاش تعايش شعوب الشرق الأوسط بشكل متداخل ولكن بطابع ديمقراطي عصري.
القائد أوجلان وحزب العمال الكردستاني يريدان رؤية سوريا موحدة قوية لجميع مكوناتها.
هل يمكن أن يتحقق التآخي والتحالف الكردي والعربي والآشوري-الكلداني-السرياني والشيشاني والدرزي والتركماني؟ وإذا تحقق ذلك، فما هي مكاسبه؟
إننا على قناعة تامة بأن منظور "الأمة الديمقراطية" المرتكز إلى أخوّة الشعوب ومصالحها المشتركة سوف يتحقق في سوريا بنحو مؤثر ونافذ. ونعتقد أن تقسيم سوريا ليس مقاربة صائبة. بل نؤمن بأن الكرد والعرب والسريان والآشور والكلدان والدروز والتركمان وكل الشعوب الأخرى سوف تعيش ضمن أجواء الأخوّة والتحالف والحرية الحقيقية، بشرط أن تتخلى عن ذهنية الدولة القومية، وأن تبتعد عنها. وحينها فقط بإمكانها أن تؤسس لنظام سياسي ديمقراطي يصب في مصلحتها جميعاً وفق رؤية "الأمة الديمقراطية. وسيكون حينها نظاماً ديمقراطياً منظَّماً يرتكز إلى المجتمع الديمقراطي المتأسس على حرية جميع الشعوب والأديان والعقائد. وهذا ما سيعزز الجميع ويمدهم بالقوة دون استثناء. أما مفهوم الدولة القومية والأمة الأحادية، فسيجلب الخسران للجميع من كُرد وعرب وأتراك وفُرس. أما الاعتقاد بإمكانية جني المكاسب بناء على منظور الدولة القومية، فهو دليل على عدم فهم التاريخ والمجتمع والبشرية. ومن هذه الناحية، فإن التآخي والتحالف بين الشعوب اعتماداً على منظور "الأمة الديمقراطية"، سوف يعزز كل الشعوب والجماعات.
لكل الجماعات قِيَمُها الجميلة المختلفة الخاصة بها وخصوصياتها المتعلقة بها. وبإمكانها إحياء ذاتها عبر إبراز جمالياتها تلك ومشاركتها مع الغير. وهذا ما سيؤدي إلى تعزيز خصائص وهويات الآخرين، وليس إلى إلغائها. وهكذا سيكون بمقدور الشعوب كافةً أن توحِّد طاقاتها وتُكمل بعضها بعضاً. فأن تكتفي جماعةٌ ما ذاتياً شيء، وأن تجتمع كل الجماعات وتتحد وتُكمل بعضها بعضاً وتتعزز شيء آخر يؤدي إلى إبراز حياة اقتصادية واجتماعية وثقافية مشتركة أرقى بكثير. الأمر كذلك علمياً وتاريخياً. وعليه، فأن يقول الكرد "سوف أنفصل وأبني دولةً ونظاماً لي لوحدي"، وأن يقول العرب "سأبقى منفصلاً وسأقوم بتأسيس نظام مرتكز إلى العرب فقط"، وأن يقول الأتراك "سنقضي على كل الجماعات المختلفة وسنبني دولة ونظاماً للأتراك فحسب"، وأن يسلك الفُرس أيضاً مقاربة كهذه؛ إن دل ذلك على شيء، فهو يدل على الخيانة للذات قبل كل شيء. إن هذا يفضي إلى إضعاف الذات أولاً. لذا، فإننا نؤمن بأخوّة وتحالف الشعوب. فما يُعيق اتحاد الشعوب هو مفهوم الدولة القومية ومفهوم الأمة الأحادية ومفهوم الدولة السلطوية الاستغلالية. ذلك أن السلطات والدول لا تتأسس على مبدأ تعزيز المجتمعات لذاتها أو لبعضها بعضاً. بل تتأسس على الاستغلال والقمع. بالتالي، فهل هناك أجمل من ابتعاد الشعوب عن الدولة والسلطة والدولة القومية وعن مفهوم الأمة الأحادية، للتمكن من بناء تحالفاتها؟ إن هذا سيعزز جميع الشعوب. لذا، فمَن من الشعوب يمكنه أن يتهرب من تعزيز شأنه ومن عقد العلاقات والتحالفات؟ ولماذا تكون الشعوب معادية لبعضها بعضاً؟ بمقدور الشعوب أن تعيش متآخيةً، إذ ما من سبب يجعلها تتعادى أو تتآلب على بعضها بعضاً. بل بمستطاع كل شعب أن يستمر بحياته في مكان عيشه واستقراره، وضمن أجواء من التآخي والتآزر مع الشعوب الأخرى. هذا هو الممكن والمعقول.
في حال سيادة مفهوم الدولة القومية أو مفهوم الأمة الأحادية، وفي حال التحرك وفق الذهنية الدولتية السلطوية؛ فإن البعض سيعملون على التحكم بالآخرين وقمعهم، بل وقد يسعون إلى القضاء عليهم. وهذا ما لن ينفع أي شعب. إذ لن يجني الأتراك أو العرب أو الفُرس أي مكسب من قضائهم على الكرد. وكذلك لن يكسب الكرد أي شيء في حال طمعوا في القضاء على الجماعات الأخرى في أماكن تواجدهم. ولكن، في حال عاش كل شعب بحرية على أرضه، وفي حال احترم العيش الحر والديمقراطي للشعوب الأخرى على أراضيها؛ فحينها سوف يكسب الجميع. بناء عليه، فلن يجني أحد أي نفع في سوريا من القضاء على الكرد أو التركمان أو الآشوريين أو الشيشان أو أية جماعة عقائدية أو مجموعة ثقافية أخرى. بالتالي، فبإمكان الشعوب في سوريا أو شمال سوريا أن تعيش متآخيةً مع بعضها بعضاً، ويجب أن تعيش كذلك. وهذا ما سيعزز شأنها أكثر. من هنا، يجب ألاّ يتطلع أحد إلى الدولة القومية. ذلك أن المفهوم السلطوي والدولتي يعيق تَغذّي الجماعات المختلفة من قِيَمِ بعضها بعضاً. بالتالي، فإن عداء شعب ما تجاه الشعوب الأخرى يعني قبل كل شيء عداء ذاك الشعب لذاته، وإضعاف ذاته بذاته. ومن هذه الناحية، فإننا نؤمن بأن الكرد قد تحلّوا بوعيِ ومنظور "الأمة الديمقراطية" على هدى نهج القائد APO، وأن الدولة أو السلطة لن تجلب الخير إطلاقاً للشعب الكردي. بالتالي، بإمكان الكرد أن يكونوا رائدين في تكريس رؤية "الأمة الديمقراطية"، وفي تمكين أخوّة الشعوب وتحالفاتها. ذلك أنهم يُعتَبَرون المجتمع الأكثر وعياً في هذا الخصوص، وذلك بفضل نهج القائد APO، الذي يؤمن بأخوّة وتحالف الشعوب. بالتالي، فالكرد كلهم إيمان بأن البلد الديمقراطي المرتكز إلى منظور "الأمة الديمقراطية"، وليس إلى الدولة، هو الذي سيجلب الخير والمنفعة للشعوب قاطبة. وعلى هذا الأساس، فبمقدور الكرد أن يَكونوا الأرضية الأساسية لعقدِ تحالفات منيعة تؤسِّسها الشعوب كافةً على أساس الأخوّة ووفق منظور "الأمة الديمقراطية"، سواء داخل "فيدرالية شمال سوريا الديمقراطية" أو داخل عموم سوريا؛ وذلك دون التطلع إلى الوصول إلى الدولة أو السلطة، وبعيداً عن بناء دولة منفصلة، وبعيداً عن المقاربات القوموية. بإمكان الكرد أن يلعبوا دور الإسمنت الصلب والصمغ اللاصق في هذه الاتفاقات. وإذا ما نجحوا في ذلك، فإن القضايا العالقة في الشرق الأوسط سوف تُحَلّ. ذلك أن السبب وراء كل قضايا الشرق الأوسط هو التطرف القومي والتعصب الديني، وكذلك مفهوم هيمنة الدولة القومية التي تهدف إلى تأسيس نظام القمع والظلم على حساب الشعوب.
علينا التشديد على أنه عندما تكرس الشعوب مفهومَ "الأمة الديمقراطية" وتنقطع عن مفهوم الدولة القومية، وعندما تتطلع إلى تمكين التحول الديمقراطي بدلاً من بناء الدولة، وعندما تبني وطناً ديمقراطياً وتؤسس للوحدة الديمقراطية؛ فإنها ستكسب قوة عظمى، وستفضي إلى إحداث تطورات كبرى. ولعل أهم تلك التطورات ستظهر على صعيد الرقي الثقافي وتحقيق الاندماج العظيم في الحياة الاجتماعية وخلق الجماليات الكبرى. ذلك أنه حينما تتوطد الأخوّة والتحالفات، فلن يبقَ هناك مكان للنزاع أو الصراع. بل سيعمّ الرفاه والأمن والاستقرار، وسيسود الأمل بالمستقبل الواعد. وعلى الكرد أن ينظروا إلى الأمور من هذه الزاوية لدى ريادتهم لتكريس أخوّة وتحالف الشعوب، وألاّ يقتصروا في هذا الشأن على القول فحسب، بل وأن يجسدوه على أرض الواقع أيضاً.
على شعوب الشرق الأوسط ومكوناتها الإبتعاد عن مرض السلطوية وتقبل الديمقراطية وأصولها..
مثلما هو معلوم، فقد مكث قائد PKK عشرين عاماً في سوريا. وكحركة، كيف تقيّمون الأزمة السائدة في سوريا بعد خروج أوجلان منها؟ وما هي خريطة الطريق التي ترتأونها من أجل سوريا الجديدة؟
إن سوريا بلد مختلف بالنسبة لنا كحركة، وبالنسبة للقائد APO. فقد بقي فيها القائد قرابة عشرين سنة. ومارست حركتنا أنشطة مهمة طيلة عشرين سنة في لبنان وسوريا. فللحركة الفلسطينية مساهماتها الثمينة ودعمها القيِّم لحركتنا التي قدَّمَت شهداء بين صفوف النضال الفلسطيني. وقد كانت العلاقة بين سوريا والقائد APO وPKK طيلة هذه السنوات العشرين قائمة على مدّ بعضنا بعضاً بالقوة. أي أنها لم تكن علاقة أحادية الجانب. حيث استمدت سوريا القوة من وجود حركة الحرية الكردية، واستمد "حافظ الأسد" القوة من وجود الكرد. فكان لهذه العلاقة تأثيرها الملحوظ في استمرار سلطته. كما مارس القائد APO نشاطاته في هذه الساحة طيلة سنوات بقائه فيها، والتي كان أهمها النشاطات الأيديولوجية والكادرية. بالتالي، فقد أسهمَت النشاطات في سوريا في مدّ PKK وحركة الحرية الكردية بالقيم المهمة.
لقد تطورت العلاقات وتشكلت جسور التواصل المهمة بين الشعبين العربي والكردي أثناء تواجد القائد APO في سوريا. وهذا ما كان يعني مع مرور الوقت رصف الأرضية المناسبة لبناء سوريا جديدة تسودها أخوّة الشعبين الكردي والعربي. هذا ولم يقتصر الأمر على سوريا فحسب. بل كان القائد APO يطمح في بناء شرق أوسط يتمكن فيه الشعب الكردي وبقية الشعوب الأخرى من تمكين العيش المشترك بتآخٍ ومحبة. ذلك أن بناء شرق أوسط يعترف بوجود الكرد ويقبل بهم، كان سيقلل من التبعية للقوى الخارجية من جهة، وسيعزز من شأن بلدانه من الجهة الثانية. وبمعنى آخر، فإن تطور أخوّة الشعوب في المنطقة كانت ستعني إضعاف ركائز القوى الخارجية والقوى الإمبريالية الرأسمالية داخل الشرق الأوسط.
لكن القائد APO اضطر للخروج من سوريا تحت ضغط القوى الخارجية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل اللتان استهدفَتا القائدَ APO وPKK بهدف استغلال الدولة التركية. لم يتحمل النظام السوري تلك الضغوط الخارجية. ولو أنه تحمَّلها آنذاك، لَما وصلت سوريا إلى ما هي عليه الآن. إلا إن سوريا لم تستطع تحمّل عبء القائد APO وحركتنا. بل ودخلت حتى في علاقات متينة مع الدولة التركية بعد أَسر القائد APO. وعليه، فمن أفدح الأخطاء التي ارتكبتها سوريا، هي دخولها في علاقات مع تركيا على أساس العداء للكرد. ولو أنها عقدت العلاقات الجيدة مع الكرد حتى بعد خروج القائد APO من سوريا، ولو أنها أقدمَت على خطوات ملموسة بهدف مشاركة الكرد في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية بمقاربات ديمقراطية شفافة؛ لَما كانت سوريا ستمرُّ بالأزمات اللاحقة التي عانت منها. لكن بشار الأسد ابن الرئيس الراحل حافظ الأسد مالَ إلى الترجيح الخطأ. ذلك أن تمتين العلاقات إلى هذه الدرجة مع الدولة التركية، تُعَدّ سياسة خاطئة أساسية أَوصلَت سوريا إلى ما هي عليه الآن. كما إن إفساد علاقاته مع الكرد أدى في الأصل إلى خسرانه لأقوى مصادر القوة لديه. فقد عزز الكرد حقاً من شأن الإدارة السورية في عهد الأسد الأب، فشعرَت بالأمان وتمكنت من الثبات. لكن العلاقات اللاحقة مع الدولة التركية على أساس العداء للكرد، قد جعلت النظام السوري وجهاً لوجه ضد الكرد. وحصيلة ذلك كانت مجزرة قامشلو وانتفاضات عام 2004. فبدلاً من توجُّه النظام السوري نحو خطو خطوات ديمقراطية بشأن الكرد في المجالات الاقتصادية والاجتماعية للتمكن من تثبيت أقدامه وتعزيز ذاته تجاه الهجمات الخارجية، فقد سلك سياسات معاكسة لذلك. حيث اعتقد أنه سيُقوّي حضوره بكسب الدعم التركي. وهكذا، فقد اتَّبَع سياساتٍ خاطئة أَضعَفَته داخلياً، وجعلَته متكئاً على الدولة التركية وتابعاً لها خارجياً. فمنذ اللحظة التي انقطعت فيها العلاقات مع الكرد، صار النظام السوري أكثر استبداداً وقمعاً. بالتالي، فإن سوريا المنغلقة على التحول الديمقراطي حصيلة تلك السياسات، دخلت مرحلة الأزمة السياسية التي واجَهَت ردود فعل الشعوب ومعارضتها لها. فدخلت العديد من القوى السياسية على الخط بالاستفادة من أجواء الأزمة السياسية تلك، وعلى رأسها تركيا. وهذا ما أدى إلى حصول تقلبات جدية في سوريا.
لقد عبَّرنا في تقييماتنا السابقة عن نظرتنا وتحليلنا للأزمة السورية، التي باتت حالياً أزمةَ التوجه نحو التحول الديمقراطي من عدمه. فمثلما بدأت القوى الدولية والإقليمية تتدخل وتؤثر في سوريا، فإنه ثمة نضالات تخوضها الشعوب انطلاقاً من حنينها إلى الحرية والديمقراطية. بالتالي، فإن الصراع من الآن فصاعداً سيكون بين رغبة الشعوب في تمكين الديمقراطية والحرية وبين السياسات المصلحية للقوى الدولية والإقليمية والقوى الحاكمة في سوريا. وهذا الصراع هو الذي سيحدد النتائج النهائية للأزمة السورية. وإلى جانب ذلك، فإن الصراع ضد الدولة التركية في منطقة الشهباء سيؤدي دوراً مهماً في تحديد معالم سوريا الجديدة. ونحن كحركة الحرية، نؤمن بضرورة الاعتماد أساساً على الوفاق المرتكز إلى الذهنية الديمقراطية من أجل سوريا المستقبل. ونؤمن بضرورة بناء سوريا ديمقراطية ضمن إطار اللقاءات والعلاقات والوفاقات التي ستجري بين جميع القوى النافذة في "فيدرالية شمال سوريا الديمقراطية" وفي عموم سوريا على السواء. فحسب اعتقادنا، فبهذا الشكل فقط يمكن للأمن والاستقرار أن يستتبا في سوريا.
ليس صحيحاً أن ننتظر استتباب السلام والاستقرار في سوريا خلال فترة قصيرة. ذلك أن المشكلة لا تتوقف فقط على إرادة القوى التي داخل سوريا. بل هناك القوى الدولية، وهناك روسيا وتركيا وإيران. بالإضافة إلى قوى أخرى تُعَدّ طرفاً في الصراع السياسي الدائر في سوريا. انطلاقاً من ذلك، فإننا على قناعة بضرورة ألاّ تُصاب قوى "فيدرالية شمال سوريا الديمقراطية" بمَرَض السلطة المبكرة، وألاّ تسلك مقاربة وكأن الحرب قد انتهت وأنه لم يَعُد هناك اشتباك أو نزاع وأن الاستقرار والسلام سيستتبّان خلال فترة وجيزة. بل عليها أن تكون مستعدة لهجمات مختلف القوى الأخرى، وعلى رأسها تركيا. ذلك أنه لا يمكن لدول المنطقة ولا للقوى الحاكمة في سوريا أن تقبل بهذه السهولة بوصول الشعوب إلى حياة عامرة بالحرية والديمقراطية. فلا ذهنية الدول الإقليمية في المنطقة قد تغيرت، ولا ذهنية الشرائح الحاكمة في سوريا الحالية قد تبدلت. أي أنه ما تزال سياسة تعريض الكرد للتطهير العرقي والتحكم بهم قائمةً في الأجندة. بالتالي، فستعمل تلك القوى على اختبار نفسها تجاه ثورة روجافا وقوى "فيدرالية شمال سوريا الديمقراطية". وستعمل على قمع وتحجيم حنين الشعوب إلى الحرية والديمقراطية.
إننا على قناعة بصواب اللقاء مع كافة القوى السياسية في سوريا. ولكن، يجب ألاّ تقع الشعوب أبداً في الغفلة بحجة أن اللقاءات قائمة. وينبغي كذلك ألاّ تصاب بمَرَض السلطة المبكرة. بل عليها أن تستعد منذ الآن لشتى الهجمات المحتملة. أما السبيل إلى التصدي لتلك الهجمات، فيمر من ثلاثة أنشطة رئيسية: من تحالف الكرد مع العرب والسريان والشيشان والدروز وكافة الشعوب الأخرى؛ ومن تنظيم المجتمع وتصييره مجتمعاً ديمقراطياً منظَّماً؛ ومن تعزيز الدفاع الذاتي اعتماداً على ما ذُكِر آنفاً. وإذا ما قَوَّت ثورة روجافا و"فيدرالية شمال سوريا الديمقراطية" نفسَيهما بهذا المنوال، فسيغدو بإمكانهما نيل النتائج المرجوة لصالح الشعوب من المفاوضات والتوافقات التي ستخوضانها.