الصراع الخفي بين حوزتي النجف وقُم
تشهد الساحة العراقية صراعاً على الهيمنة والنفوذ بين حوزتي قم - النجف ينعكس بشكل مباشر على الحياة السياسية العراقية وعلى علاقات الاطراف العراقية فيما بينها.
تشهد الساحة العراقية صراعاً على الهيمنة والنفوذ بين حوزتي قم - النجف ينعكس بشكل مباشر على الحياة السياسية العراقية وعلى علاقات الاطراف العراقية فيما بينها.
يمتاز شيعة العراق بإيمانٍ عالٍ بالمرجعية؛ نعم تأثر هذا الإيمان بظروفٍ قاهرةٍ ليس هنا محل بحثها، ولكن في الجملة هم <شيعة العراق> يوالون المرجعية بغض النظر عن قوميتها وانتمائها الجغرافي، هذه هي ثقافة الشيعة في العراق "لا غبار عليها"، وهذا ما أكدته المُعطيات الراهنة والتاريخية منها: الطائفة الشيعية التي قاتلت البريطانيين في القرن الماضي تحت مظلة المرجعية "الشيرازي، الأصفهاني وشيخ الشريعة وغيرهم"، ورُسخت هذه الثقافة في أعماق العقل الشيعي وتحولت إلى مُعتقد مع كل المحاولات التي بُذلت للفصل بين المرجعية وشيعة العراق.
هذه الروحية والثقافة لها كامل الأثر في تحريك العملية السياسية بالعراق، لتبلغ مبتغاها وتقطع أشواطاً في غاية الأهمية، وكم بذلت الحكومات من جهود لتغيير ثقافة الشيعة إزاء المرجعية إلى ثقافة "القومية والمناطقية" إلا أن واقع التشييع في العراق بعيد عن هذا الاتجاه.
صراعٌ خفي يدور بين حوزتي "قُم والنجف" هدفه فرض النفوذ والهيمنة، حيث تتبنى حوزة "قُم" ولاية الفقيه وتجعل السياسة من صلب عمل رجال الدين، أما بالنسبة لحوزة "النجف" لا تؤمن بولاية الفقيه ويفتي كبار مراجعها بالابتعاد عن السياسة وترفض حوزة النجف أيضاً سلطة "الولي الفقيه" على شيعة العراق أو أي مكان أخر سبق.
وأكد كبار مراجعها أمثال: محمد إسحاق فياض، محمد الصدر، بشير النجفي، ومقتدى الصدر، كمال الحيدري، عبد المهدي الكربلائي وجواد الخالصي أن ولاية خامنئي تنحصر في إيران فقط، فيتهكم عليه كبار المراجع، أما حوزة "قم" يُكفرّون من لا يقول بعصمة الولي الفقيه.
انعكست الحرب الباردة بين الحوزتين "النجف - قُم" على المشهد السياسي في العراق، حيث تنقسم الأحزاب والكتل والميليشيات إلى قسمين:
_ قسم يوالي الخامنئي أمثال: "هادي العامري" الأمين العام لكتلة الفتح، "نوري المالكي" رئيس الوزراء الأسبق ورئيس ائتلاف دولة القانون.
_ قسم يرفض هيمنته على العراق أمثال: "علي السيستاني" المرجعية الدينية العُليا التي لا تُؤمن بولاية الفقيه حتى وإن لم يُصرّح بذلك علناً، لكن الخامنئي الذي يقود حوزة "قم" انتهزَّ فرصة إصدار المرجعية العراقية فتوى "الجهاد الكفائي" لتسليح ميليشيات موالية له والانقضاض على مفاصل الدولة العراقية؛ فتشّكل الحشد الشعبي الذي يتألف من الفصائل التالية:
1-سرايا السلام: نواة هذه السرايا هي جيش المهدي التابع للسيد مقتدى الصدر والذي كان قد جمده عام 2007- وأعلن عن اسمه الجديد في 11 يونيو 2014 قبل صدور فتوى السيستاني بيومين وتعد سرايا السلام الميليشيا الشيعية الأكبر.
2-منظمة "بدر" الجناح العسكري: هو الفصيل الأكثر شعبية بين العراقيين الشيعة- انفصلت المنظمة بقيادة "هادي العامري" الأمين العام لكتلة الفتح في أوائل عام 2012 عن المجلس الأعلى الإسلامي العرافي بقيادة "عمار الحكيم".
3-كتائب حزب الله "العراق": أُعلنت ولادتها سنة 2007، وهي كتائب سرية للغاية، وقيادتها غير معروفة ولا تُنسق إلا مع الإيرانيين.
-عصائب أهل الحق: ولدت سنة 2007 في رحم جيش المهدي بقيادة الشيخ "قيس الخزعلي" والشيخ "أكرم الكعبي" وذلك بعد قرار السيد مقتدى الصدر بتجميد جيش المهدي.
-حركة حزب الله النجباء: انشقت هذه الحركة عن عصائب أهل الحق سنة 2013 ويقودها الشيخ "أكرم الكعبي".
-كتائب سيد الشهداء: انشقت عن كتائب حزب الله "العراق" بقيادة الأمين العام "الحاج ولاء".
-سرايا الجهاد والبناء: تأسست بالتزامن مع فتوى السيستاني كجناح عسكري للحركة السياسية المعروفة بحركة الجهاد والبناء بقيادة الأمين العام "حسن الساري".
-كتائب التيار الرسالي: تأسست بعد فتوى السيستاني كجناح عسكري للتيار الرسالي العراقي بقيادة الأمين العام الشيخ "عدنان الشمماني".
-سرايا الخراساني: تشكلت سنة 2013 بقيادة السيد "حامد الجزائري"، وهو كجناح عسكري لحزب الطليعة الإسلامي.
سرايا عاشوراء: تشكلت بالتزامن مع فتوى السيستاني كجناح عسكري للمجلس الأعلى الإسلامي العراقي.
سرايا العتبات: تشكلت بعد فتوى السيستاني العراقية وهي تابعة للمقامات الشيعية العراقية.
وبالرغم من وجود كلِ تلك الفصائل إلا أن الحشد الشعبي انقسمت ميليشياته إلى قسمين: ميليشيات موالية لإيران وتؤمن بولاية الفقيه والأخرى موالية للنجف، مما أدى إلى وضع السيستاني في مأزق، فقد تزايد نفوذ اتباع الولي الفقيه في العراق، في حين أبدى اتباع النجف تذمرهم مع تعمق الخلافات بين "النجف - قُم".
جرى الرهان على الشعب في رابع انتخابات نيابية تجري منذ أن سقط نظام البعث، حيث أصدرت المرجعية الدينية العليا السيد "علي السيستاني" بياناً طالب فيه بمنع التدخل الخارجي في الانتخابات، ولكن كان لافتاً أن السيستاني نبّهَ للمرة الأولى أن المواطن ليس ملزم بمشاركة في الانتخابات.
قوىٌ سياسية رأت في كلمات السيستاني محاولة لتعديل المسار، وإعادة رسم الخط بين الانتخابات كشأن سياسي وحياتي، وبين السلطة الروحية وعدم الخضوع لتوجيهاتها دون الاحتكام إلى العقل والكلام، موجهاً هنا لسلطة الولي الفقيه في مقابل انتفاضة السيستاني.
ألقى خامنئي بثقله في المشهد الانتخابي وأرسلت طهران صناديق الأموال وذلك لدعم الموالين لمعسكر الولي الفقيه، ولكن لم يتحمس الكثيرون للذهاب إلى صناديق الاقتراع وأشادت الانتخابات أقل نسبة حضور بين جميع الدورات السابقة، ولكن المفاجأة أن خطاب السيستاني أتى أوكله فقط تذيلت القوائم الإيرانية ترتيب النتائج مثل: كتلة الفتح برئاسة هادي العامري ودولة القانون بزعامة نوري المالكي.
كان الانتصار في الانتخابات فرصة ليلمح اتباع النجف إلى الرغبة في الاستقلال وبدا كأن حوزة النجف قد انتصرت في المعركة لكنها لم تكسب الحرب، فالولي الفقيه كان يُحضَر لخطة بديلة وهي تكثيف الجهود الإيرانية لتثبيت المرجع الإيراني أية الله محمود الهاشمي كأول زعيم لحوزة "النجف" يعتنق ولاية الفقيه ومسعاً ملحاً لمرشد علي الخامنئي لدمج حوزتي "النجف - قم" تحت راية ولاية الفقيه.
تُدرك إيران أن السيطرة على المرجعية الدينية هي بوابتها لإحكام قبضتها على السلطة في العراق، كما أن وجود مرجعية موالية لولي الفقيه على رأس حوزة النجف سينهي أي إمكانية لوجود منافساً لخامنئي في سعيه لزعامة الشيعة في العالم. صراع مُعقد على السلطة والأموال بين زعماء الحوزتين تلعب فيه قوى دولية دوراً كبيراً وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا اللتان تتحركان خلف الكواليس لترجيح حرب الزعامة، لأن فتوى واحدة من زعيم الحوزة قادرة على تحويل هؤلاء من أعداء إلى حلفاء.