من المؤكد أن الزخم الحضاري والتاريخي والثقافي للشرق الأوسط وشعوبها، بالإضافة إلى الأهمية الاستراتيجية التي تتمتع بها المنطقة في المشهد العالمي، وتقاطع الطرق والمصالح والأجندات الإقليمية والدولية، جعلت المنطقة مفتوحة لصراعات الهيمنة والنهب. هذه الصراعات التي تتشابك فيها القضايا السياسية والدينية والمذهبية مع الأطماع الاقتصادية والجيوسياسية، لقوى عديدة تحاول فرض وتعزيز سياقات وأنساق معينة من التفاعل باستخدام مختلف الوسائل التي تمتلكها، دون أي اعتبار آخر.
العديد من التناقضات والصرعات الجارية حالياً في دول الشرق الأوسط تعود إلى تراكمات سلطوية تاريخية، نجمت عن المركزية المدنية الإقصائية الشرق أوسطية. وقد تفاقمت هذه الصراعات بعد تقسيم المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى، بناءً على القومية والدين والمذهب. فمن التناقضات والصراع بين السنية السياسية والشيعية السياسية في عدة دول، إلى التحركات الشعبية في العقد الأخير ضد الأنظمة الدكتاتورية الفردية والعائلية، وتحركات الثورات المضادة الغالبة وصولاً إلى الإبادة الجماعية التي تمارسها تركيا ضد الشعب الكردي منذ حوالي مئة عام والتي تمارسها إسرائيل ضد الشعب العربي والفلسطيني منذ أكثر من سبعين سنة. كما يستمر النفاق وإزدواجية المعايير لما يسمى المجتمع الدولي(نظام الهيمنة العالمي) تجاه المنطقة وقضاياها، مع تدخلات هذا النظام ورعايته وتأجيجه للصراعات والتناقضات وسد طرق الحلول والاتفاقات وفرض استمرارية اللاحل وظروفها وشروطها.
من خلال رصدنا وتتبعنا لمسارات التوتر والفوضى والحروب، والقوى المتدخلة بشؤون المنطقة وشعوبها، ومن خلال قراءة نقدية لسرديات العمل السياسي ومسارات النضال لأجل التغيير وبرؤية مستقبلية ومعمقة للمعطيات العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية الحاضرة، إضافة إلى ملاحظة التطور التقني وعصر الرقمنة، يمكننا القول، أن شعوب المنطقة ومجتمعاتها وثقافاتها ودولها أمامهم تحديات كبيرة ومحوران أو طرقان على الأغلب للدخول إلى المستقبل:
- الإرفاق بنظام الهيمنة العالمي: الطريق الأول وهو التوافق مع النظام القائم وصيغه وترتيباته الجديدة، والخضوع له سواءً بالسلام أو الحرب. هذا الإرفاق بالنظام الرأسمالي العالمي يجعل الجميع في وضع مشابه للدول القومية الوظيفية وسلطاتها المتواطئة. ويبدو أن الصراعات والحروب الحالية تهدف إلى إخضاع من هم خارج هذا النظام، أو إزالة تحدياته. وهنا نعتقد أن الحروب والصراعات الحالية هي لهذا الغرض الإرفاقي لمن هم خارج الخط أو لمن يحاولون الخروج أو افتعال المشاكل. وكذلك إزالة تحديات الإرفاق والعوائق أمام المشاريع الكبرى.
لايخفى على أحد أن إسرائيل في الشرق الأوسط تمثل نواة النظام الرأسمالي المهيمن في المنطقة، والمطلوب من الجميع القبول بشرق أوسط تحت هيمنة إسرائيل ورعاية الولايات المتحدة والناتو.
معظم الدول الدول العربية وتركيا وباكستان تنتمي إلى هذا المحور، فيما يسعى النظام العالمي إلى ترويض إيران وإدخالها في هذا السياق. ويبدو أن هذا الهدف ليس ببعيد، بل أن إيران وفي الصميم لاتختلف عن الدول القومية في المنطقة، ولكنها تحاول الاستفادة من الثقافة الإيرانية النافرة للغرب والتوازن معها والاختفاء تحت لبوس ديني شيعي هي الشيعة السياسية والعمل كقوة إقليمية مهيمنة.
ومن المفيد أن نذكر أنه أحيانا، حتى هذه الدول الخاضعة، تكون من المفيد والمطلوب فيها تدوير بعض الزوايا والتخلص من بعض السلطات والأدواة والشخصيات. هذا الطريق والخط الإرفاقي لا يحل القضايا العالقة، بل يعمقها ويزيدها تعقيدًا، لأنه مبني على أجندات طبقية فوقية لا تراعي إرادة الشعوب أو تمثيل مصالحها. وهو الذي ساد خلال القرن الأخير وأوصلنا لكل هذه الإشكاليات، ويراد الآن الدخول في فصل جديد منه عبر إجراء بعض التغيرات في مشهد المنطقة وخارطة النفوذ الإقليمي.
وهذا الطريق يكرس التبعية في المنطقة ويخلق الفوضى الخلاقة أو الاستقرار المؤقت أو الهدن المؤقتة في افضل الحالات في ساحات الصراع والحرب، سرعان ما ستتجدد العنف والصراع لحظة ماتتطلبه مصالح السلطة والدولة ونظام الهيمنة.
نعتقد أن أولوية هذه الإرفاق هو استخدام شعوب ودول وجغرافية الشرق الأوسط كطرق ومضائق ومنابع للطاقة والغاز في ظل توفر أدواة تقنية متطورة ونظم سيبرانية كثيرة للمراقبة والتحكم والسيطرة والحرب، من دون حل القضايا العالقة التي تبقيها أدوات وأوراق ضغط سياسية.
- محور الحل: الطريق الأخر وهو طريق البناء المجتمعي الديمقراطي وتحقيق حرية المرأة والإيكولوجية، والدفاع الذاتي، والدبلوماسية المجتمعية والثقافية، وريادة الشباب. هذا المحور يهدف إلى حياة حرة متوازنة، وحق الشعوب في حماية وإدارة نفسها وهو المحور الذي يتجاوز فيه الشعوب والدول نظام الهيمنة العالمي الرأسمالي وسياقاتها المتأزمة، وتخرج من سياق نظام الهيمنة العالمي إلى حلول مستدامة للمشاكل والقضايا العالقة على المستوى الوطني والإقليمي عبر التحول الوطني الديمقراطي.
وهنا نصبح أمام تحديات يكمن في كيفية التفاعل مع المنظومة الرأسمالية العالمية وأدواتها المحلية والإقليمية والأبعاد الفكرية والإيدولوجية لسياق الإرفاق وأدواته وذهنيته، وكذلك تحدي التخلص من الذهنية والسلوكية التابعة لقوى ومؤسسات العمالة للمحور الأول الإرفاقي.
يحتاج البناء والتكوين الإجتماعي والسياسي والثقافي الجديد إلى توضيح العلاقة والمقاربة من القائم القديم، وعلى الأقل عبر تجاوز المعادلات الصفرية الإلغائية إلى تحقيق معادلة الاعتراف والوجود المتبادل عبر معادلة(المجتمع والدولة) أو (الديمقراطية والدولة)، وكذلك يحتاج الجديد إلى إنشاء وبناء وعي جديد يمتاز بمقادر متزايد من وعي الحقيقة وهو الوعي التنويري التشاركي الإنساني الحر، بعيداً عن القومية والدين والمذهب والمناطقية وقيود السلطة، وصولاً لبناء ذهنية مشتركة وإرادة حرة وبالتالي مجتمع قوي يستطيع أن يقول كلمته ويفرض شروطه ويبني تحالفاته الديمقراطية، لتجبر حينها حتى القوى الدولية المهيمنة من مراعاته وأخذه بعين الاعتبار.
ونستطيع القول أن هذه الخط والمسار، الذي طرحة المفكر والقائد أوجلان باسم العصرانية الديمقراطية، لحل قضايا المنطقة المختلفة، يمكن أن يكون مساراً صحيحاً وحلاً للصراعات والأزمات التي تعاني منها شعوبنا ومجتمعاتنا، مثل القضية الكردية والقضية التركية والقضية العربية والقضية اليهودية والقضية الإيرانية ومختلف قضايا شعوب المنطقة ودولها. ولذلك هناك حاجة لمزيد من البحث والدراسة لفهم المقترح البديل للرأسمالية العالمية وتسليط الضوء عليه.
أما الاستمرار في مسارات السلطوية والدولتية والإرفاق مع نظام الرأسمالي وأدواته، والبحث عن حل القضايا عبر مزيد من العنف وتكريس ظلم الدول قومية وممارساتها كالإبادة الجماعية، أو اللهث وراء الوصول للسلطة أو البقاء فيها في بعض الدول أو الإقاليم أو تقسيم الدول الموجودة أو الاستمرار في الثنائيات المتحاربة للتكوينات بدل الحوار والتوافق والخروج من كنف النظام الراسمالي إلى ساحة العمل التشاركي والاجتهاد المجتمعي، فلن يخدم سوى قوى الهيمنة والنهب الرأسمالية والقوموية. في الوقت الذي نرى أمامنا تحديات تشكل شرق أوسط جديد وتداعياته وخاصة على الدول الموجودة، فلا يمكن أن تستمر تركيا بشكلها الحالي وهي تخوض حرب إبادة ضد الشعب الكردي، بل نعتقد أن تركيا هي في رأس سلم الدول التي يجب إعادة ترتيبها بشكل كلي ضمن الترتيب الجديد، وربما إعادة النقاش حول معاهدة بريست ليتوفسك لعام 1918 ومعاهدة سيفر عام 1920. فأهمية تركيا ليست كالسابقة، وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وبعد الاتفاقيات الإبراهيمية بين العرب وإسرائيل، و استبعادها من خط الطاقة من الهند لأوربا عبر الخليج وإسرائيل و كذلك من منتدى غاز شرق المتوسط.
كذلك إيران وعدد من الدول العربية التي نعتقد أنها ستكون في وضع مغاير في المستقبل في ظل مشاهد سياسية وعسكرية ودولتية جديدة لأن أدوارها الجديدة ليست كالسابقة. ويبقى الحل لمواجعة معظم هذه التحديات في اعتقادنا هي العصرانية الديمقراطية والأمة الديمقراطية التي تبني الإنسان والمجتمع الديمقراطي الحاضن لكل الاختلافات والقادر على بناء الحياة الحرة ومواجهة كل الإشكاليات والتحديات.
الخلاصة
نحن أمام تحيات وظروف صعبة في المعادلة الإقليمية والدولية. كل من يرفض الإرفاق والخضوع لنظام الهيمنة العالمي يتم تحجيمه وسد الطرق أمامه على الأقل أو إزالته في بعض الأحيان، وغالبية القراءات السياسية والثقافية والاجتماعية في الشرق الأوسط هي واقعة بين براثن الإرفاق، إما طواعية واستسلاماً أو استشراقاً في ظل الهيمنة الفكرية لمسار الإرفاق، كالقومية الضيقة والدينية بانواعها المرنة المعتدلة والرديكالية واليسار المشيد، رغم الادعاءات الكاذبة بالاستقلالية والوطنية.
وعليه من يريد أن يبحث عن الحلول الصحيحة ويعمل لتحقيق الأمن والاستقرار القائم على الحرية والديمقراطية والعدالة، يجب أن يسلك طريقاً مختلفاً، نعتقد أن طريق العصرانية الديمقراطية والأمة الديمقراطية قد يكون من أهم طرق الحل وانقاذ شعوب الشرق الاوسط ومجتمعاتها في ظل الحرب العالمية الثالثة، التي سترسم خرائط جديدة وتفرض نظاماً إقليمياً بأولويات وأدواة مختلفة عن القرن الأخير.