تعاودنا الذكرى الخامسة والعشرون على المؤامرة الدولية التي حيكت بشكل محكم ضد القائد والمفكر السياسي الأممي "عبد الله أوجلان" ، مؤسس مشروع "الأمة الديمقراطية"، وأحد أهم أيقونات النضال الكردي، وقد اجتمعت قوى الشر في العالم لتنفيذ مؤامرة دولية لخطف القائد "أوجلان" من كينيا عام 1999 بتنسيق بين كل من المخابرات الأمريكية والإسرائيلية والتركية وعدة دول أخرى، واقتياده إلى تركيا ليتم اعتقاله في جزيرة "إمرالي" النائية، وكان "أوجلان" أول نزيل في هذا السجن، وهو المعتقل الوحيد فيه، ويحتوي هذا السجن على زنزانة واحدة لنزيل واحد فقط، على أساس مبدأ "العزلة داخل العزلة"، بشكل مشدد لا هوادة فيه، تضمن منع ذويه ومحاميه من مقابلته أو الاتصال به، حتى أن اللجنة الأوروبية لمناهضة التعذيب في أغسطس 2020 وصفت وضع "أوجلان" بأنه شكل من أشكال الاحتجاز بمعزل عن العالم الخارجي، وحثت السلطات التركية على إنهاء هذا الوضع في أقرب وقت ممكن، ولكن اللافت في هذه المؤامرة أن عددا من الدول ذات الأيديولوجيات المتباينة، اجتمعت وتصالحت فيما يخص حياكة هذه المؤامرة وتنفيذها للإيقاع بالسيد "أوجلان" وحصاره واختطافه.
عوامل حفزت المؤامرة الدولية ضد "أوجلان"
- الأفكار التي نادى بها "أوجلان"، والتي تدعو للتعايش السلمي وإدارة الشعوب لذاتها وتحارب الطائفية وتتصدى لها، والتي تتعارض مع رؤى القوى الدولية والإقليمية الداعمة للإمبريالية، فلطالما لعبت ومازالت تلعب هذه الدول على هذا الوتر الذي أدى إلى زعزعت أمن كثير من دول الإقليم وهدد وجودها، هذا بالإضافة إلى أن هذه الأفكار حال تطبيقها تؤدي إلى الازدهار والتقدم لاجتماعي والسياسي والاقتصادي وهو ما ترفضه هذه الدول.
- تميز "أوجلان" بأنه القائد الطليعي للطبقات الكادحة وجد حلاً للتناقضات الاجتماعية وإحقاق الحرية والعدالة الاجتماعية وتمثيل جميع الشرائح والقطاعات المضطهدة، ناهيك عن قدرته على التأثير على الصعيد العالمي، مما شكل تهديداً للنظام الرأسمالي الإمبريالي السائد عالميا.
- تعد هذه المؤامرة بمثابة إرهاصات وبادئة لبناء تحالف استراتيجي بين الولايات المتحدة وتركيا في المنطقة، وفتح لباب التطبيع بين تركيا وإسرائيل من جانب آخر في ظل موائمة الظروف العالمية سواءً مع وهن روسيا وقتها وانشغالها بأوضاعها الداخلية المتردية أو أحادية قطبية النظام الدولي الذي تديره واشنطن، لاسيما وأن موسكو ثمنت مشاركتها في هذه المؤامرة الدولية بحصولها على مشروع “التيار الأزرق” وهو خط أنابيب الغاز الرئيسي عبر البحر الأسود الذي يحمل الغاز الطبيعي من روسيا إلى تركيا والذي أنشئ بواسطة شركة خط أنابيب "التيار الأزرق"، ومقرها هولندا وهي شركة محاصصة بين “غازبروم” الروسية و”إني” الإيطالية، كما حصلت على قرض من صندوق النقد الدولي بلغت قيمته 10 مليار دولار.
- استمرار مسلسل محاربة أي نواة للتواجد السياسي الكردي ووأد حركة النضال الكردي في المنطقة لاسيما بعد فشل الدولة التركية في القضاء على حزب العمال الكردستاني الذي تأسس 1978، والمحاولات الحثيثة السابقة لإخماد الحركات الثورية والانتفاضات الكردية بالقضاء على قياداتها بدءا بانتفاضة محمود البرزنجي الأولى في جنوب كردستان (1919-1922)، وانتفاضة سمكو آغا شكاكي في روجهلات (1918- 1922)، وصولاً إلى انتفاضة كوجكري في باكور كردستان (1921)، مروراً بانتفاضة الشيخ سعيد (1925)، وانتفاضة ديرسم (1937- 1938).
- رغبة الدول الغربية الرأسمالية باستمرار المظلومية والصراعات الممتدة لدى شعوب الشرق الأوسط لإلهاء شعوب المنطقة بعيدًا عن النهوض ببلادهم وعن أي محاولة للاقتراب من العملية الديمقراطية لتأجيج الخلافات بينهم، واتهامهم الدائم بالإرهاب والتخلف لاستنزافهم ونهب ثرواتهم واحتلال أراضيهم، ويتضح ذلك جليًا في سلوك الدولة التركية تجاه الكرد في شمال وشرق سوريا وشمال العراق في ضرب المدنيين وتشريدهم وملاحقتهم وسط صمت دولي وعربي وإقليمي تام، إلى جانب ما ترتكبه تركيا من توسع على حساب الكرد في شمال سوريا واحتلال مناطق بعينها كعفرين ومحاولة انتزاعها من الوطن الأم وتجريفها ونهب خيراتها وثرواتها وطمس ثقافتها وسرقة آثارها وممارسة العنف والتهجير القسري والتغيير الديموغرافي ضد أهلها الكرد.
أوجلان "مانديلا الشرق الأوسط"
يرى البعض أن المبادرات السلمية التي اقترحها السيد "أوجلان" لتسوية الخلافات مع الجانب التركي فيما يتعلق بالقضية الكردية، والتي تقوم على إلقاء السلاح وترك المناطق في جنوب شرق الأناضول، وذلك بالرغم مما يتعرض له "أوجلان" على يد السلطات التركية في معتقله، وهي تجعل منه منديلا آخر، حيث أضحى يلقبه البعض بـ"مانديلا الشرق"،
فمنذ 1993 بذل "أوجلان" جهدا لحل المسألة الكردية من خلال الوسائل الديمقراطية، وعلى مدى 25 عامًا في إمرالي أكد على الحل القائم على القانون الدولي، ودائما ما يدعو الجمهور للحل الديمقراطي السلمي، كما أنه اختار الحوار والتفاوض لحل القضية الكردية والمشاكل الاجتماعية المرتبطة بها، لكن تواصلت سياسات الجمود التي تنتهجها الحكومة التركية، بل وأصبحت أكثر وضوحا، ورغم وجود بعض الاختلافات بين الشخصيتين، فـ"منديلا" كان يسعى لحل قضية قومية خاصة ببلاده، وهو القضاء على نظام الفصل العنصري والحرية لبلاده، أما "أوجلان" فهو قائد ومفكر أممي سعى لتنفيذ مشروع لا يقتصر فقط على حل مشاكل الكرد، وإنما له القدرة على حل كثير من المشكلات السياسية والاقتصادية والمجتمعية للوطن العربي، ودول الشرق الأوسط بشكل عام، وهو مشروع "الأمة الديمقراطية".
مشروع "الأمة الديمقراطية"
- يعد السيد "أوجلان" هو مهندس المشروع الأممي "الأمة الديمقراطية" التي تقوم على المساواة والمواطنة وذوبان الفوارق الدينية والعرقية والأطياف الطائفية، وهو ما لم يرق للغرب والقوى الرأسمالية التي تحاول بأقصى ما لديها الحفاظ على تبعية دول الشرق الأوسط لها لاستنزاف مواردها وتسخير ثرواتها لخدمة هذه الدول، ويهدف بدوره هذا المشروع لتحقيق التعايش السلمي والتشاركية والتحرر من التبعية للغرب، وتمكين النساء وتحريرهن من الاضطهاد، والعبودية التي تفرضها عليهن الرأسمالية الانتهازية، وقد طرح "أوجلان" في مشروعه الحلول الملائمة لمجابهة استباحة الغرب لدول الشرق الأوسط، واقتسام ثرواتنا، وتنفيذهم المخططات الاستعمارية لإضعافها، واستعباد شعوبها، ويظهر التعارض الفج بين مشروعه البناء، وبين ما توازى وتنافس معه من مشاريع هدامة تهدف لشرذمة البلاد وإحداث الفوضى كمشروع "الشرق الأوسط الكبير"، وغيره الذي تبنته الولايات المتحدة الأمريكية لإحكام قبضتها على المنطقة.
مخالفات قانونية ترتكبها السلطات التركية في حق "أوجلان" بأمرالي
بالرغم من الانتقادات والمطالبات التي وجهت من بعض المنظمات الدولية الحقوقية مثل "لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان" للسلطات التركية تجاه الوضع اللا إنساني والعزلة المحكمة التي تفرضها السلطات التركية على السيد "أوجلان" حتى أنه لا يوجد أي دليل على كونه على قيد الحياة أو على سلامته، فحقه في رؤية محاميه تقتصر على ساعة واحدة في يوم واحد في الأسبوع، ودائما ما كانت السلطات التركية تقدم ذرائع مثل سوء الأحوال الجوية ووجود عطل فني في السفينة الساحلية، وذلك لحرمانه من هذا الحق المحدود، كما منع من التواصل مع ذويه عبر الهاتف.
سجن "أمرالي" يقع خارج النظام القانوني، وبالتالي فإن ظروف العزلة والحبس الانفرادي لا تنشأ عن لوائح قانونية ودستورية، حيث أن الحبس الانفرادي فيه يمارس ضمن انتهاكات للتشريعات المحلية، كما أنه لا تنص أيا من الاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها تركيا، أو حتى في التشريعات الوطنية لوائح تبرر العزلة الجبرية، فنظام السجن المؤبد "المشدد" الذي تم فرضه خصيصا للسيد "أوجلان" تنظمه المادتان 25 و107 من القانون رقم 5275 ، وعليه تستمر عقوبة السجن طوال حياة المحكوم عليه ولا تنقطع بأي حال، وفي حكم "المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان" رقم 2 بشأن "أوجلان" 18 مارس 2014 ، قضت بأن هذه اللوائح القانونية تنتهك حظر التعذيب، كما نبهت على ضرورة الالتزام بالمبادئ القانونية، ومن ثم قدمت طلبات لتنفيذ هذا الحكم، وتطالب بضرورة تعديل التشريع والتقدم إلى المحكمة الدستورية بإلغاء المادة 107/16 من القانون رقم 5275 ، والمادة 17/4 من القانون رقم 3713 ،اللتين تمنعان الإفراج المشروط بسبب عدم دستوريتهم، وقد قررت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في حكمها أن: "احتجاز السيد "أوجلان" يتم في ظروف تتعارض مع حظر التعذيب لمدة 25 عامًا"، وقد تمت مراسلة وزارة العدل التركية بهذا الشأن 14/3/2023 من قبل محامي السيد "أوجلان"، ولم تحرك الوزارة ساكنا، وفي سياق متصل أعلنت "اللجنة الأوروبية لمناهضة التعذيب CPT" أنها أعدت تقريرها عن زيارتها لسجن جزيرة أمرالي 22/9/2022 وقدمته إلى الحكومة التركية في 20 /3/ 2023، ولكن لم يكن هناك استجابة تذكر من قبل الحكومة، كما قدم محامي السيد "أوجلان" أربع رسائل إلى "اللجنة الأوروبية لمناهضة التعذيب" حول الانتهاكات وسوء المعاملة، وتردي الأوضاع داخل سجن الجزيرة بدلاً من تحسنها، وكذا ضرورة فحص مباني السجن والتأكد من سلامتها، لاسيما بعد الزلزال في 2023، وقد طالبت اللجنة باستدعاء المادة 10/2 من "الاتفاقية الأوروبية لمنع التعذيب"، وتم إصدار بيان بهذا الشأن، ولكن بلا جدوى، فالتحيز واضح للجانب التركي ضد السيد "أوجلان".
ونذكر هنا بأن "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 "، و"العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية 1966" أكدا على عدم جواز انتزاع حقوق المعتقل تحت أية ذريعة، وطبقًا لمقررات مؤتمر الامم المتحدة في جنيف، حيث تم إقرار القواعد النموذجية لمعاملة السجناء، وهي عبارة عن مجموعة المبادئ المتعلقة بحماية جميع الأشخاص، الذين يتعرضون لأي شكل من أشكال الاحتجاز أو السجن ومعاملتهم معاملة إنسانية، والحفاظ على كرامتهم الإنسانية الأصيلة، وتمتعهم بالحقوق المتعارف عليها في المواثيق الدولية: كحق المعتقل في التظلّم مما يتعرض له في السجن من ممارسة غير قانونية من قبل السلطة، حيث ينبغي أن يعرف أسباب اعتقاله، وحق الإدلاء بالأقوال في أقرب وقت، وحق الدفاع عن نفسه والاستعانة بمحاميه، والحق في الحصول على المعلومات عن حقوقه، والحق في تبليغ الأسرة بالمكان الذي تم نقله إليه، والحق في الاتصال وتوفير زيارة أسرته، والحق في أن يكون قريبا من الأسرة وفق القواعد النموذجية لمعاملة المسجونين، واحترام حقوقه دون تمييز، كما يجب أن تتوافر للمعتقل جميع المتطلبات الصحية والطبية، ووجبات طعام ذات قيمة غذائية كافية، مع الحرص على مراعاة الظروف المناخية، وخصوصا من حيث حجم الهواء والمساحة الدنيا المخصصة للسجناء لتمكين كل سجين من تلبية احتياجاته الطبيعية وبصورة نظيفة ولائقة.
ومن المعروف أن كثير من الحكومات حول العالم، ومنها تركيا تتلاعب بصياغة القوانين لتبرير الحبس السياسي ودوافعه، وعلى مجتمع حقوق الإنسان في هذه الحالة تفنيد هذه الادعاءات والمحاولات من خلال تعميم المعلومات المستقلة والأدلة المحايدة لنزع المشروعية عن الحرمان المتعسف من الحرية.
وإجمالاً، فإنه بعد انقضاء ربع قرن على الاعتقال والحبس المشدد والعزلة المحكمة للسيد "عبد الله أوجلان" دون أسانيد أو مسوغات قانونية، ولأسباب سياسية بحتة، بل ومع وجود الانتهاكات المتعددة التي يشهدها اعتقال السيد "أوجلان" في أمرالي، التي لا تخترق فقط القانون والتشريع المحلي بل تصل إلى حد انتهاك كافة القوانين الدولية، وقواعد حقوق الإنسان المتعارف عليها والمعمول بها دوليًا ينبغي على المجتمع الدولي ومؤسساته أن تقف وقفة حاسمة ضد هذا الوضع وتنادي بضرورة وفورية إنهاء العزلة على السيد "أوجلان" والإفراج النهائي عنه، وضرورة تحمل السلطات التركية المسئولية القانونية الناجمة عن هذه الانتهاكات، لأن هذا النموذج الغير منصف بات عار في حق المجتمع الدولي وأضاف فشلا جديدا إلى قائمة إخفاقاته في حق الشعوب الشرق أوسطية وحق الإنسانية.