الإفراج عن المناضل التاريخي عبد الله أوجلان.. المدخل الوحيد لحل أزمة الكرد بسلام - د. رائد المصري
طرح المفكر والمناضل الأممي عبدالله أوجلان الكثير من القضايا المهمة التي تتعلق بفك رموز القضية الكردية بسبب حالتها الشائكة والمعقدة الناجمة عن مكانتها العالمية كما يقول في توصيفه، ضمن كتب ومجلدات تحت اسم مانفيستو الحضارة الديمقراطية، بإشارته الى أن الحداثة الرأسمالية استفادت من بنى السلطة، وارتكبت جرائم الصَّهر والإبادة الجماعية، بما سمَّاه الثقافة المعنوية، منجزة ذلك بوساطة آليات الإبادة في الدولة القومية، العربية والتركية والفارسية، التي اعتبرها مؤسسات ووكالات عميلة للحداثة الرأسمالية، استفادت من بُنى السلطة التقليدية لديها، لتطويق الثقافة الكردية كلياً، فشكلت مسيرته النضالية وإيمانه بالكفاح المسلح، الطريق الوحيد لإقامة الدولة الكردية، وكذلك العمل على طريق الحلول الديمقراطية السلمية، وهو بذلك قدم دراسات لطرق الحل، لكن كان الرد الرسمي لحكومة أنقرة، هو بالاستمرار في اعتماد الأسلوب العنقي، وحروب الإبادة ضد الشعوب الكردية لعشرات السنين.
رؤية تحاكي التحولات في الإقليم
فرؤية أوجلان تبدو متكاملة من أجل التحول إلى أمة ديمقراطية، يوضح فيها أن الاعتراف بحق التحول إلى أمة ديمقراطية، كان ولا يزال يشكل الحل الأنسب القابل للتطبيق، دون الحاجة إلى دولة قومية كردية، وهو طرح متقدم في طريق البحث أو الحلول، التي تعتمل بلدان الشرق الاوسط بكاملها، بل ودون الحاجة لتحويل الدولة القومية الحاكمة إلى أشكال من الطراز الفدرالي، وبناء على ذلك فخريطة الطريق التي قدمها على خلفية الحوار مع الدولة التركية، كانت معبرة عن مبادئ الحل والسلام المأمولين، لكن جهاز الدعاية والتحريض في الدولة التركية، وسطوة الخطاب العنصري القومي، المتأثر بمظاهر التطهير العرقي، قد عجز عن طرح قرار السلم والحل الديمقراطي أو السير به قدماً، فرغم محاولات وقف إطلاق النار التي أعلنها حزب العمال الكردستاني مرات عديدة من طرف واحد، فإنه لم يجد الجواب المطلوب.
اليوم، وباستعراض التطورات التي طبعت المنطقة والشرق الأوسط، فقد تميّزت سنة 2024 بزيادة الصراعات والحروب والنزعة نحو التحوّلات الحادّة في الشرق الأوسط، بعد تداعيات السابع من أكتوبر 2023، ومحاولة لرسم مشهد إقليمي جديد، وقد عكست دينامية التصعيد توازن القوى الإستراتيجي، وأظهر الانهيار السريع للنظام السوري، الضعف الهيكليّ لإيران، وتأكّد الغلبة الإسرائيلية، وبروز الدور التركي في اختبار سياسي مفتوح في بلاد الشام، وهذا هو الأهم والأخطر.
لقد مرَّ أكثر من قرن من الزمن على وعد بلفور، وإبرام اتفاقية سايكس – بيكو، التي رسمت حدود كيانات جديدة، منبثقة من وراثة السلطنة العثمانية، وفي خضمّ مخاض التحوّلات العربية أو مسار التفكيك والفوضى التدميرية، الذي بدأ منذ أواخر 2010، تبلورت سيناريوهات الخلاصة المتوقّعة لصراعات الربع الأوّل من هذا القرن، التي أدّت إلى انهيارات في الدول الوطنية المركزية، خاصة أنّ العالم العربي أصبح اليوم هو الرجل المريض في هذه الحقبة، كما كانت تركة السلطنة العثمانية بعد وقبيل الحرب العالمية الأولى.
فالمواجهات في شرق المتوسّط والخليج العربي، لم تحدث بسبب العوامل الجيوسياسية وموارد الطاقة فحسب، فهي توسَّعت لتشمل الصراعات القومية والمذهبية، وصراعات النفوذ في الشرق الأوسط، ولذلك اصطدمت بمصالح الدول الكبرى والإقليمية، فيبدو أن الساعة من أجل تأسيس نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط قد حانت، وبدأ حجز الأمكنة فيه، أو استمرار الصراع لتحسين المواقع أو دخول أطراف جديدة، حيث يتبيَّن من الخلاصات الأوّلية، ترسيخ وضع إسرائيل، وتقوية موقع تركيا، وانخراط المملكة العربية السعودية في إعادة تركيب النظام الإقليمي، وأخيراً خسارة إيران للعديد من أوراقها، وبقاؤها قطباً من أقطاب الإقليم سيتوقّف على قرارات ترامب في ولاياته 2025 والتي تبدو إجراءات راديكالية، حيث أنه من الإشارات المعبّرة عن هذا التحوّل الإقليمي، انعقاد اجتماع عربي إقليمي دولي كبير في الرياض في 12 كانون الثاني، لمواكبة المرحلة المقبلة في سوريا، فكان اللافت المشاركة التركية والغياب الإيراني.
إذن يمرّ الشرق الأوسط بإعادة تشكيل، فهناك صورة إستراتيجية جديدة آخذة في الظهور، وخريطة القوّة تتغيّر، مع الفائزين والخاسرين، والعديد من الأشياء المجهولة وقليل من الاستمرارية، وتغيّر الترتيب في الثلاثي الإقليمي، فحلّت تركيا محلّ روسيا وإيران في سوريا، وأسفرت مواجهات السنتين الأخيرتين، عن غلبة إسرائيلية على إيران ومحورها، وبينما يستمرّ التراجع السياسي للقوى العربية القديمة، مصر، العراق وسوريا، يبرز مجلس التعاون الخليجي بقيادة المملكة العربية السعودية، كنواة لنظام عربي متجدّد، متمتّعاً بعناصر قوّة الثروة والعصرنة والتطور والنفوذ، وهكذا تتّضح خريطة القوّة من خلال علاقات أو تجاذبات الثلاثي الإسرائيلي – التركي – الإيراني، بالإضافة إلى الدور السعودي، الذي سيتصاعد على الأرجح خلال عهد ترامب الحالي.
استمرار الجرح النازف
نورد هذه المطالعة في سياق التحول الإقليمي والدولي، لتتوضح الصورة التي بنى وعمل عليها وأطلقها حركتها الانتفاضية منذ بداية سبعينيات القرن العشرين المفكر والقائد السياسي "عبد الله أوجلان" ورفاقه، ضدَّ القمع التركي المستمر للهوية الكردية، لمنع الغلوٌّ في ممارسة العنصرية التركية بشكل متزايد على كل المناطق التركية، فاعتبرها الأكراد بمثابة دفنٍ لكلِّ محاولاتهم ونضالاتهم التاريخية، بعد إعدام الشيخ سعيد بيران، وقمع كافة المحاولات التي وُلدت بعده، لاستعادة حقوق الكرد، أو على الأقل رفع القمع والظلم التاريخي عنهم، إذ تأسس في العام 1978 حزب العمال الكردستاني الــ" PKK " بطريقة سرية، على أيدي مجموعة من الطلاب برئاسة "عبدالله أوجلان".
كما تعتبر فترة ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، من أكثر فترات الصراع الدموي بين تركيا والمقاتلين الأكراد، بعد أن مرَّت تركيا بتقلُّبات عديدة، منها تزايد القمع الذي أدَّى إلى لجوء الكثير من المقاتلين الكرد إلى دول الجوار، وتنقُّل الأغلبية منهم ما بين سوريا والعراق، ومنهم من لجأ إلى الإتحاد الأوروبي، واستمر بالعمل على نشر التوعية، والإيمان بضرورة إعادة إحياء وتثبيت النضال القومي القضية الكردية، وإظهار حقائق اضطهاد الكرد في تركيا، فاستقر المفكر السياسي "أوجلان" زعيم الحزب آنذاك بين لبنان وسوريا، ومناطق مخيمات الحركات الفلسطينية، وبدأ بإدارة الحزب، بعد أن تعاظمت قوة الحزب في بداية التسعينات، واتخذ قراراً بزيادة العلاقات الخارجية، بإصدار بعض الصحف، منها صحيفة الشعوب الحرة، وصحيفة البلاد، وديلان، كما تمَّ تأسيس حزب العمل الشعبي للمشاركة في الانتخابات البرلمانية التركية، والانخراط في الساحة السياسية، وهذه قمة الرقي في العمل السياسي والتغيير وحفظ الحقوق للشعوب المقهورة.
والى اليوم، لا يزال جرح القضية الكردية نازفاً، إذ أنَّ حلَّها أمرٌ يتطلب جهداً كبيراً من أجل تحقيقه، نظراً لتضارب المصالح الدولية والإقليمية، وتشعُّب التدخلات الخارجية الداخلة على خط الأزمة لحل هذا الصراع، كذلك في ظلِّ الرفض المطلق لنظام أنقرة، لكافة المطالب الكردية، وتزايد الصراعات المسلحة بين الطرفين، حيث شكَّل التوغُّل التركي مؤخراً بالتعدِّي على شمال العراق، والقصف المستمر لطائرات تركية لمقاتلي حزب العمال الكردستاني، حتى خلال العام 2024، خير دليل على ذلك، بالإضافة لقيام أنقرة بتدمير البنية التحتية لمناطق سيطرة الكرد في سوريا، فقد أقدمت تركيا على محاربة الكرد في سوريا والعراق، وليس فقط قمعهم داخل الأراضي التركية، متخذةً من قضيتهم ذريعة، لاحتلال مناطق واسعة من أراضي الدول العربية المجاورة، وفي توسيع واضح لنفوذها الإقليمي، وذلك لعدة اعتبارات تتعلَّق بالمخاوف الأمنية، إذ تعتبر تركيا أن حصول الكرد على حقوق سياسية في أي من دول الجوار، يشكِل مصدر تهديدٍ أمني لها، وهي صنَّفت الكرد بأنهم مجموعات إرهابية، وعملت على قمع الهوية الكردية على مدار عقود بل وقرون، فما زالت السياسة التركية في التعامل مع الملف الكردي، نابعة من رؤية أمنية بحتة، ترتبط بهواجس وتخوُّف من الهوية الكردية، خاصة لجهة تنامي رغبات الإدارة الذاتية، ومطالبها لدى الكرد في الداخل التركي.
المناضل "أوجلان" وفي مرافعته المقدمة لمحكمة حقوق الإنسان الأوروبية تحت عنوان: "دفاعاً عن الشعب"، والمكتوبة في عام 2004، قال فيها:" قد يكون فتح بلاد البلقان أو إسطنبول ذا معنى، أما البرهنة على أن ديار بكر لم تفتح إطلاقا، وأنه تمَّ التحرك فيها بسياسات مشتركة منذ عهد السلاجقة، وأن التاريخ الأصلي هو هكذا، فيُعَد اعتداءً على حق الفتح وإيديولوجيته، بيد أننا أوضحنا كيف أنَّ الكرد القاطنين في أراضيهم منذ ما يناهز الخمسة عشر ألف عاما، وأسسوا ثقافتهم فيها، وصاروا أصحاب وطن عليها، إنما هم أصحاب حق دارج يضاهي حق الفتح بآلاف المرات، كيف يصبح وطن الكرد بضربة واحدة ملكا للعربي أو التركي أو العجمي، بينما هو على الأقل مصدر الحق الأول للكردي، الذي زرع أراضيه صيفا وشتاء، وحولها إلى حقول خضراء يانعة، وأسس القرى والمدن عليها، واجتر آلامها وهمومها آلافاً من السنين، وقاوم لأجلها، ومات على ثراها، وسكب نور عينيه على كل شبر فيها، وعاش فوق أراضيها، وكوّن وجوده الاجتماعي عليها بكل أشكال الكدح، تماما كمن يقوم بتطريز نسيج ما، بمقدور الكردي الزعم أمام هؤلاء قائلا: لربما فتحت أنت هذه الأراضي عن باطل لمرة واحدة، ولكنني أفتحها كل يوم بإمدادي إياها بمئات الأجيال".
فمن خلال هذه المقاربة يتضح أنه لا يمكن بل هناك صعوبة واستحالة في تعريف المجتمع الكردي من دون وطن، وصعب أيضاً على مجتمع بلا وطن أن يستمر بوجوده، أو يتخلَّص من التعرض للتصفية والزوال والتشرذم دائماً في هذه الحالة، فمن المستحيل إنكار وجود كردستان، حتى لو كان واقع وطن يعاني من صلف الاستعمار والإبادة، فهي وطن مشترك يتشاركه أيضا الأرمن السريان والتركمان والعرب، ضمن أجواء من الوئام والتفاهم قائمة على الديمقراطية والمساواة، وكذلك كل فرد أو ثقافة تطمح في العيش بحرية، إذن الدفاع عن الكرد، هو في نفس الوقت، دفاع عن كل شعوب ومكونات المنطقة.
سياسات أنقرة الناقصة
فالأساس الذي تقوم عليه سياسات تركيا تجاه الأكراد، هو إتِّباع التشدد وانتهاج الحلول الأمنية، وهذا العنف التركي المتصاعد في التعامل معهم حتى في سوريا والعراق، له موروث واستحضار تاريخي لديهم، في نبذ ومناهضة التنوُّع العرقي أو الديني للشعوب الموجودة ضمن الجمهورية التركية، وهذا يدلُّ على أن الهوية القومية التركية، شكَّلت على الدوام عنصر تفريق، وليس مصدر الوحدة والجمع، وقد تأثر وانعكس ذلك كله على حزب العدالة والتنمية عبر حالات الانشقاق في المجتمع التركي، فهذا واضح من خلال هزيمته في الانتخابات الأخيرة بأكبر المدن التركية لا سيما إسطنبول.
ولأن القضية الكردية تميَّزت بصراعات سياسية وثقافية عبر تاريخ ساحق في الزمن، فهي تُعد واحدةً من أكثر القضايا تعقيدًا في تاريخ تركيا، وما زالت تمثِّل تحديًا سياسيًا وأمنيًا مستمرًا، له انعكاساته وتأثيراته على استقرار البلاد وأمنها، كونها تشكّل جزءًا أساسياً من الحوار حول الديمقراطية وحقوق الإنسان في تركيا، ولذلك طرحت مبادرةٌ جديدةٌ من الحكومة التركية بهدف معالجتها بشكلٍ شامل، من خلال إعطاء المناضل عبد الله أوجلان، بعض الأمل في تحقيق بعض الإصلاحات والمطالب، مقابل حل حزب العمال الكردستاني وتسليم السلاح، وهي رغبة لها مسبِّباتها من عدة محاور، منها حاجة أنقرة الى تعزيز الوحدة الوطنية التي تشرذمت، وكذلك الى الاستقرار الداخلي، وتقليل التوترات في مناطق جنوب شرق البلاد، وتعزيز الاقتصاد بدمج الأكراد في العملية السياسية والاجتماعية، كذلك سعي تركيا إلى تحسين صورتها الدولية، وفَتْحِ آفاقٍ جديدةٍ للتعاون مع المجتمع الدولي، ولذلك كان طرح مبادرة دولت بهجلي الأخيرة لحل القضية الكردية بشكل شامل، كما كان سبقها مبادرات لحزب العدالة والتنمية، تصبُّ في هذا الشأن، لكنها لم تصل بعد الى خواتيم حميدة.
هنا يجب أن نوضح أمراً بغاية الضرورة، حيث تتعدد الأسباب التي تجعل من أنقرة ساعية الى طرح مبادرات الحل للقضية الكردية، وسط معاناة لجملة من التحديات التي تفرضها القضية الكردية منذ سنوات طويلة، كأكثر القضايا تعقيداً في الشرق الأوسط، التي تتداخل فيها العواملُ السياسية والاجتماعية والثقافية، وأنه وفي ظل تصاعد التوترات الإقليمية، أصبح من الضروري إيجادُ حلولٍ سلميةٍ مستدامة للقضية الكردية، بسعْي تركي واضح، نظراً لما سينعكس إيجاباً على الداخل التركي، فحل هذه القضية يُمكن أن يساهم في تعزيز الاستقرار الاجتماعي، خاصة عند شعور الأكراد بأن حقوقهم مشروعة ومحمية، وسوف يقلِّل من حدة التوتر وفرص اندلاع الصراعات المسلحة، مما يؤدي إلى بيئة أكثر أمانًا لجميع المواطنين داخل الدولة، كما ويساهم في تعزيز الهوية الوطنية التركية، من خلال إدماج الأكراد بشكلٍ فعّال في المجتمع والسياسة، وبالتالي يتولّد شعورٌ أكبر بالانتماء والتعاون بين مختلف مكونات الشعب التركي.
هذا الحل للقضية الكردية في تركيا ربما، بل وبالتأكيد، سيعزز من تحقيق تنمية اقتصادية، فالمشاكل الاقتصادية تزداد في المناطق التي يعيش فيها الأكراد بكثافة، ومعالجة القضية يمكن أن تفتح آفاقًا جديدة للاستثمار، وتؤدي إلى تحسين البنية التحتية وخلْقِ فرص عملٍ، وبالتالي رفع مستوى المعيشة في تلك المناطق، كما ستوفر النفقات التي تضعها الحكومة التركية في مواجهة الهجمات التي ينفِّذها حزب العمال الكردستاني.
ومن ناحية ثانية، يرى بعض من المراقبين أن استخدام العنف المسلح في جبال كردستان لم يعُد يُجدي اليوم، بل يعتقد هؤلاء أن السلاح والعمل الكفاحي المسلَّح، صار عبئاً على القضية الكردية ومساراتها الكفاحية، لأنه يخلق مناخات صدامية وانقسامات عامودية، تضعف موقف الكرد في تركيا والجوار، طالما أن العملية السياسية ناجحة لديهم في تركيا وتمثيلهم البرلماني وصل الى أعلى مستوى، ويمكن أن يساعد القضية الكردية من خلال الحكومة والدخول إليها، لكن الخيار العسكري الذي تعتمده تركيا عادة للتعامل مع القضية الكردية لم يترك للأكراد سوى الدفاع عن أنفسهم وفق الكثير من مناضليهم ونخبهم، ويبدو أن هناك عوامل أخرى، تريد أن تطبع أو تدمغ نضالات الكرد اليوم بصبغة الإرهاب دوما، وهو ما يتنبه لها "أوجلان" بالتأكيد، لكن عملية خروجه من السجن حتماً، ستؤسس لمسارات سلمية، من أجل تحقيق المكاسب التاريخية للكرد والتي راكموها لمئات السنين، كما تُعدُ القضيةُ الكردية عاملاً مؤثراً في مسار عملية التطبيع التركي السوري أكثر اليوم بعد سقوط نظام البعث وآل الأسد، ويُسهم ذلك في استقرار المناطق الحدودية، بالإضافة الى حاجة أنقرة لتوحيد الجبهة الداخلية في مواجهة التهديدات الإقليمية، إذ أن خطاب الانفتاح تجاه الحالة السياسية الكردية في الداخل، يُعدُّ جزءاً من أدوات التكييف للحد من المخاطر المتزايدة، التي ترتبط بالتوترات الإقليمية، وتحصين الجبهة الداخلية، وهو الأمر الذي تحدث عنه الرئيس أردوغان خلال مشاركته باجتماع موسّعٍ لحزب "العدالة والتنمية"، وتأكيده على ضرورة تعزيز الجبهة التركية الداخلية، في ظل اقتراب النار التي أشعلتها إسرائيل في غزة ولبنان.
من هنا يتوجَّب تلقُّف اللَّحظة أو "المومنتوم" الإقليمي والدولي، كون هذا الوضع لن يستمر طويلا، فإما أن يتم العمل لولوج سياق السِّلم والحل الديمقراطي المستدام والمشرف، والذى يتفق فيه الأطراف على ثوابته ومبادئه الأساسية، وهو سلام تاريخي ونمط حل سياسي ديمقراطي، سيكون مثالا تَقتدي به شعوب المنطقة والإنسانية قاطبة، بحل عادل للشعب الكردي وقضيته التاريخية، أو سنعود إلى حرب جديدة حاسمة، من هنا قدم المناضل "عبدالله أوجلان" الحل السلمي أو خريطة طريق، لواحدة من أهم المعضلات التي تواجه الشرق الأوسط، في حين لا زالت المؤامرة الدولية مستمرة بعد أن أمضى المناضل "أوجلان" عامه الرابع والعشرين في سجن إمرالي، وتدخل في صُلب استهداف الشعب الكردي من خلال شخص هذا القائد، الذي لا يزال كشف أبعاد توقيفه والأطراف المشاركة فيه مجهولين، كما لا يزال الشعب الكردي يشعر بالظلم والتعسُّف والإجحاف، جراء ما لحق بالمناضل "أوجلان" في الأسر، من تعذيب بدني ونفسي، ومحاولات القضاء عليه في سجن انفرادي معزول في جزيرة غير مسكونة، محروم من لقاء أو حتى التواصل مع محاميه وأسرته لسنوات عديدة، بينما القوى التي أسرته تتجاهل كل المعايير القانونية والأخلاقية، وهو يقاوم ما يجري بإرادة فولاذية.
وعليه فإن هذه المؤامرة الواضحة، جاءت في إطار إعادة ترتيب الشرق الأوسط الجديد، الذي يتناسب مع مصالح قوى الهيمنة العالمية الكبرى، أو قوى الحداثة الرأسمالية كما أحبَّ أن يوردها القائد "أوجلان"، إذ أن تلك القوى، لم تعترف أو تعطِ للشعب الكردي مكاناً لوجوده، ووجود قائد بهذه الإمكانيات، وما يمتلك من أسباب القوة والرؤية الثاقبة، وبالرغم من كل تلك الممارسات البعيدة عن الإنسانية، استطاع القائد أوجلان تطوير أفكاره وفلسفته التي أضاءت الطريق أمام شعوب المنطقة، للتعرف على أسباب شقائها، وكيفية حل قضاياها من خلال مشروع الأمة الديموقراطية، في حين أن القوى الإقليمية وجدت في هذه المؤامرة فرصة سانحة للقضاء على الشعب الكردي، وتطلعاته للحرية والديموقراطية، فحاولت تمرير مخططاتها بشتى الوسائل.
إن عملية مقاومة شعوب المنطقة والشعب الكردي على وجه الخصوص، ومواجهة المؤامرة وأدواتها العنصرية والقومية، قد نقلت القضية الكردية من النطاق الإقليمي إلى قضية عالمية، باتت تتطلب الحل، وباتت القوى الديموقراطية والرأي العام العالمي، يعمل بجد إلى جانب نضال الشعب الكردي، الذي يرى فيه شريكاً مدافعاً عن القيم الإنسانية والحرية والديموقراطية، وإن عملية القضاء على هذه المؤامرة لن تتحقق إلاَّ بفك أسر القائد عبد الله أوجلان، وعودته للقيام بدوره التاريخي، في قيادة الشعوب نحو الحرية، ليكون طليعة لهذه لحرية والديموقراطية، وفي حماية القيم الإنسانية، وتحقيق أخوة الشعوب والحياة المشتركة، لصياغة مشروع الأمة الديموقراطية. لكن النظام التركي الذي أمْعن في جرائم التطهير العرقي لا يرغب في السلام، رغم أن "أوجلان" الآن يقدم نموذجا سلمياً في النضال شبيها بالمناضل الإفريقي الكبير نيلسون مانديلا، الذي اعتقل وظل 27 عاما في السجن، مدافعا عن حقوق شعبه، فقد آن الأوان من أجل تنظيم حملة دولية مكثفة للإفراج عنه، لا تقتصر المشاركة فيها على الكرد الموجودين في أماكن مختلفة فقط، ولكن تضم كل المؤمنين بقيم الحرية والديمقراطية والتحرُّر الوطني في مختلف دول العالم.
د. رائد المصري/أستاذ محاضر في الفكر السياسي والعلاقات الدولية.
صحافي لبناني وكاتب سياسي عربي ودولي.