منذ الحرب العالمية الأولى ومع ترتيب المشهد الإقليمي وبناء النظام الإقليمي في الشرق الأوسط كأحد أهم أعمدة ومرتكزات نظام الهيمنة والنهب الدولي، تم استحداث قضايا عالقة وبؤر توتر جاهزة للاشتعال وقت الطلب لخدمة أجندات الرأسمالية العالمية وتحكمها بدول الشرق الأوسط ونهبها لخيرات الشعوب ومقدراتهم، ومنها كانت معاهدة لوزان 1923 وكانت القضية الكردية التي تم تقسيم الكرد ووطنهم كردستان بين أربع دول وكذلك وعد بلفور 1917 واستحداث دولة إسرائيل في فلسطين.
ما مارسته تركيا بحق الشعب الكردي بعد عام 1923 وحتى اليوم، في تركيا وسوريا والعراق، وكذلك ما مارسته إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني بعد عام 1917 يشكلان حالتي إبادة جماعية مكتملة الأركان والوصف والتفاصيل، ولكن لكون وجود القضيتين يجب أن تبقيان دون حل وهما ملزمتان لاستراتيجية الهيمنة للدول المركزية في النظام العالمي، فتم التغاضي عن الجرائم وحالة الإبادة الجماعية المرتكبة.
نعم لا يمكن السيطرة على الدول الأربعة (تركيا وإيران والعراق وسوريا) وعبرهم بالشرق الأوسط والتحكم بقرارهم ووضعهم الإقليمي وأدوارهم دون وجود القضية الكردية، وكذلك لا يمكن التحكم بالشعوب والدول العربية والإسلامية دون وجود القضية الفلسطينية، وعليه لا تريد المنظومة المركزية الدولية حل هاتين القضيتين، بل تريد إبقاء القضيتين ساخنتين وعجلة الإبادة فيها مستمرة دون الدنو من الحل الحقيقي، ولو عرضنا المقترحات الدولية ومقاربتهم لحل القضيتين أو الأصح لو عرضنا ورصدنا ما يطرحونه لعدم الحل، سنجد نفاق وازدواجية طروحاتهم فكيف يمكن تحل القضية الفلسطينية بمنطق الدولة القومية الأحادي وما يتم طرحه حتى الآن منذ حوالي سبعين سنة، والأمر نفسه بالنسبة للقضية الكردية فكيف يمكن أن تحل القضية بما يتم طرحه وفق المنطق الليبرالية الفرداني الأوربية وحقوق الإنسان الفردي، مع العلم أنه لا يمكن أن يكون هناك حقوق فردية دون حقوق جماعية وضمان الخصوصية في الدستور والاعتراف بها.
إن القضية الفلسطينية جزء من القضية العربية وهي التي بدأت مع تقسيم العرب لـ 22 دولة عربية، وهذه الدول ونظمها القوموية والدينية علاقات تصل حد التبعية بشكل كبير للنظام العالمي، وبالتالي فوجود هذه الخريطة الدولتية أو الإطار العربي الرسمي بحد ذاته تعتبر الإشكالية الأكبر للشعوب العربية ومنها الشعب الفلسطيني. والذي أنشأ إسرائيل في المنطقة هو نفسه الذي أوجد المنظومة العربية الدولتية، رغم معاناة الشعوب العربية من هذا الترتيب والمشهد السلطوي وتداعيات هذه الخريطة على الإرادة الوطنية والاستقلالية العربية.
وفي الجانب الكردي، فإن وجود تركيا ضمن حلف الناتو وارتباطها الاستراتيجي الاقتصادي والعسكري بالمنظومة الغربية وإعطاء النظام الدولي المجال والدعم لقوى كردية تابعية أداتية معينة كالحزب الديمقراطي الكردستاني ومحاولة جعلهم المخاطب باسم الكرد في الدول الأربعة، رغم علاقة وعمالة هذا الحزب بالدول التي تحتل كردستان وأولهم تركيا، يعد إشكالية كبيرة للشعب الكردي وعائق كبير أمام نضاله من أجل الحرية والديمقراطية، حتى أصبح وخاصة بيت مسعود البرزاني ومن حواليه ومرتزقته يشكلون ستاراً للإبادة الجماعية لتركيا وعملياتها العسكرية ضد الشعب الكردي، وبل أصبحوا المبررين لكل الممارسات التركية ضد قوى حرية كردستان ومشاركين في العمليات التركية ضد قوى الدفاع الشعبي.
نعتقد أن هناك ترابطا كبيراً بين القضية الكردية والفلسطينية، لكون تركيا وإسرائيل يشكلان مخفرين متقدمين لنظام الهيمنة العالمي في الشرق الأوسط ولهما علاقات قوية ومتينة رغم بعض الإشكاليات الإعلامية المضللة وعلاوة على أن الشعوب العربية والكردية من أكثر الشعوب المتضررة من تقسيم المنطقة وفق منطق وهدف بريطانيا (فرق –تسد) عندما كانت القوة المركزية الأقوى في النظام العالمي، وثم تابعتها أمريكا على نفس الخط والأجندات. رغم أن هناك بعض التباينات في القضيتين من ناحية تداولها وتناولها على الساحة الدولية والإقليمية فقضية فلسطين لديها حضور وزخم أكبر بسبب عوامل عديدة.
لقد قال كمال بير وهو أحد القادة الشهداء لحزب العمال الكردستاني عندما كان يتدرب في معسكرات الحركات الفلسطينية في لبنان، أن تحرر الشرق الأوسط غير ممكن إلا بتحرر الشعب الكردي، وهذه حقيقة تاريخية يؤكدها السياق التاريخي للمنطقة وللشعب الكردي وتفاعله مع أحداث الشرق الأوسط من أيام الكوتيين والميتانيين والميديين وصولاً للخلافة العباسية وللدولة الأيوبية والسلجوقية والعثمانية، وذلك لأسباب عديدة منها يتعلق بالبعد الجغرافي لكردستان ومناطق تواجد الكرد التاريخية، ومنها لجبال زاغروس الممتد من الخليج العربي وبشكل قوس وصولاً للبحر الأبيض المتوسط، إضافة لطبيعة الشخصية الكردية وثقافتها الأصلية وما يحمله الكرد من مشاريع مجتمعية وشعبية لا تميز بين القوميات والأديان كما هو مشروع الأمة الديمقراطية والكونفدرالية الديمقراطية لشعوب الشرق الأوسط الذي يطرحه المفكر والقائد عبدالله أوجلان لحل القضية الكردية وقضايا المنطقة ومنها القضية الفلسطينية.
إننا نحترم إرادة واختيار الشعب الفلسطيني والعربي إن هو اختار حل الدولتين مع إسرائيل ورضي به كحل وضمانة لمستقبل أبنائه وبناء حياته المستقرة والآمنة، ولكن كحل أمثل وأفضل وأنسب للقضية الفلسطينية وكذلك للشعب الكردي وفق إيماننا واعتقادنا هو الأمة الديمقراطية التي تتجاوز الميل والهوية العرقية والدينية إلى هوية ديمقراطية عليا، وهو البحث عن الحلول الديمقراطية في المضمار المجتمعي والأخلاقي والأخوي وليس في مزيد من السلطوية والدولتية والأحادية التي بالأساس هي المسؤولة عن حالات الإبادة وتأزم الأمور والتي تبعد الحلول وتعقد القضايا وتباعد بين الأشقاء والشعوب والجيران، وتفتح الطريق للتدخلات الخارجية، لأن منطق السلطة والدولة لا يوجد فيها التشارك والتعاون وأخوة الشعوب، ولا تثق السلطات والدولة في المجتمعات والشعوب، ولكن ما اقترحه القائد عبدالله أوجلان كحل ديمقراطي لأزمات وقضايا المنطقة يركز على المجتمع الديمقراطي وحرية المرأة والمجتمعي البيئي، بما يحقق أخوة الشعوب والتعايش المشترك وحرية المرأة كضمانة وأسس سليمة لبناء حياة ديمقراطية حرة.
وكما أنه من الصحيح القول أن حل أي قضية منهما ستكون دافعاً وقوةً لحل القضية الأخرى، وهنا لا بد للشعبين وقواها الرئيسية والفاعلة من قراءة المشهد الإقليمي والعالمي جيداً والابتعاد عن خدمة أجندات أعداء الطرفين تركيا الطورانية الفاشية وإسرائيل الصهيونية، فلا يمكن أن تكون تركيا صديقة للشعب الفلسطيني وهي تبيد الشعب الكردي، وكما أن لا يمكن لإسرائيل أن تكون صديقة للشعب الكردي وهي تبيد الشعب الفلسطيني، وهذه حقيقية من لا يؤمن بها نعتقد أنه لا يمكن أن يكون مناضلاً حقيقاً ومقاوماً ضد الاحتلال والإبادة الجماعية، لأن الحقيقة واحدة لا يمكن تجزئتها، فلا يمكن أن تكون مع تركيا أو إسرائيل وهما دولتين تمارسان الإبادة وتكون في الوقت نفسه مناضلاً حراً أو مثقفاً عضويا أو إعلامياً وناقلاً للحقيقة وأوضاع الشعبين، فمن يرى إسرائيل دولة احتلال وإبادة لا بد أن يرى تركيا كذلك، ومن يرى تركيا دولة احتلال وإبادة لابد أن يرى إسرائيل كذلك، حتى يتحرر الشعبين الكردي والفلسطيني ويحقق حريته بالطريقة التي يختارها.