يجسد استمرار احتجاز القائد أوجلان انعكاساً صارخاً لسياسات دولة ترفض مواجهة الحقيقة التاريخية، وتسعى إلى إسكات الصوت الذي يحمل مشروعاً فكرياً قادراً على تغيير معادلة الصراع، ليس في تركيا فقط، بل في الشرق الأوسط بأسره، فكيف يمكن لدولة أن تخشى قلمًا داخل زنزانة أكثر من خوضها معارك على الحدود؟ وكيف يقاوم فكر أوجلان، رغم العزلة، قوى تحاول محوه من الذاكرة الجمعية؟ هذه ليست مجرد أسئلة سياسية، بل هي تساؤلات وجودية حول حق الشعوب في تقرير مصيرها، وحق القادة في أن يحملوا شعلة الأمل في وجه الظلام.
الخوف السلطوي وإضعاف رمزية القائد
إلهام المليجي الكاتب الصحفي قال في اتصال لوكالة فرات للأنباء (ANF)، إنّ إصرار تركيا على سجن القائد عبد الله أوجلان وفرض عقوبات قاسية بحقه يعكس خوف النظام التركي من فكره وتأثيره، أكثر من أي تهديد مادي.
عبد الله أوجلان ليس مجرد قائد سياسي أو مؤسس لحزب العمال الكردستاني؛ بل هو رمز نضالي وفكري للكرد، وحامل مشروع الأمة الديمقراطية، الذي يقدم رؤية عميقة لحل القضية الكردية دون المساس بوحدة الدول القومية، بما فيها تركيا التي تخشى من تحرير المفكر عبد الله أوجلان لأن فكره قادر على إعادة صياغة العلاقة بين الكرد والدولة، وتحقيق السلام من منظور تكاملي يحفظ حقوق الجميع، ومن ثم فإن وجوده في السجن، مقروناً بالعقوبات الانضباطية المتكررة، ليس إلا محاولة لإضعاف رمزيته أمام شعبه والعالم.
إنّ القضية الكردية في تركيا متجذرة في أزمة هوية قومية للدولة التركية، التي بُنيت على إنكار التعددية الثقافية والعرقية. إصرار الدولة التركية على هذه السياسات القمعية ينبع من عدة أسباب نوردها أبرزها الهروب من الحلول السياسية حيث تتجنب تركيا مواجهة حقيقة أن الكرد يشكلون جزءاً أصيلاً من نسيجها التاريخي والثقافي، وتلجأ إلى القمع كبديل عن الحوار، فضلا عن ترسيخ النزعة القومية المتطرفة عبر استغلال القضية الكردية من قبل القوى السياسية في تركيا لتعزيز الشعور القومي ومحاولة كسب التأييد الشعبي، كما تسعى انقرة أيضا إلى إضعاف الهوية الكردية من خلال قمع اللغة، وحظر الأحزاب السياسية، والتضييق على النشطاء، تحاول تركيا محو الهوية الكردية، وتحويل الكرد إلى أقلية صامتة في الدولة.
حقوق الإنسان.. تعامل انتقائي
ورغم الجهود التي تبذلها بعض المنظمات الأممية والحقوقية، مثل لجنة مناهضة التعذيب التابعة للأمم المتحدة ومنظمات مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية، إلا أن هذه الضغوط غالبًا ما تكون رمزية أو غير مؤثرة لأسباب عدة من بينها المصالح السياسية الدولية حيث تحتل تركيا موقعًا جيوسياسيًا استراتيجيًا، وتتمتع بعلاقات قوية مع القوى الكبرى، مما يجعل بعض الدول والمنظمات تتردد في ممارسة ضغوط فعلية عليها، إلى جانب التعامل الانتقائي مع قضايا حقوق الإنسان من قبل المجتمع الدولي بناءً على مصالحه، فضلا عن إصرار تركيا على مبدأ السيادة الوطنية مبررة ممارساتها تجاه أوجلان والكرد بأنها جزء من شؤونها الداخلية، مما يجعل المجتمع الدولي عاجزاً عن التدخل بفعالية.
ويجسد إطلاق سراح القائد عبد الله أوجلان بارقة أمل لملايين الكرد إلا أن تحقيقه يتطلب تغييرات جذرية على المستويات المحلية والدولية وخاصة إذا حدث تغيير في النظام السياسي التركي نحو الديمقراطية الحقيقية، أو إذا تشكلت حكومة مستعدة للحوار مع الكرد، فإن القائد عبد الله أوجلان مفتاح الحل السياسي، تزامنا مع تصاعد الضغوط الدولية، وتنامي الحركات التضامنية العالمية مع القضية الكردية، بما يجبر تركيا على مراجعة سياساتها، هذا على جانب استمرار النضال السلمي والمدني الكردي، وتوحيد القوى الكردية، بما يعزز من احتمالية تحقيق انفراجة.
سياسة الإنكار والإقصاء
الانتهاكات بحق عبد الله أوجلان ليست إلا قمة جبل الجليد، فهي تمثل سياسة متكاملة من القمع الممنهج بحق الكرد في تركيا وخارجها، فعلى الأراضي التركية تم اعتقال عشرات الآلاف من النشطاء والسياسيين الكرد، وحظر الأحزاب الكردية وفرض القيود على ممارسة الحقوق الثقافية، وتدمير القرى والمدن الكردية في جنوب شرق تركيا تحت ذريعة العمليات العسكرية، فضلا عن تنفيذ عمليات عسكرية داخل سوريا والعراق تستهدف الوجود الكردي بحجة محاربة الإرهاب، والضغط على الحكومات الإقليمية والدولية للتضييق على الحركة الكردية في الشتات.
الدكتور علي ثابت الكاتب الصحفي ومنسق المبادرة العربية قال في اتصال لوكالة فرات للأنباء (ANF)، إن سياسة الإدارة التركية لم تتغير تجاه الملف الكردي منذ انهيار الدولة العثمانية، وعليه فالسياسات القمعية تجاه الكرد جزء لا يتجزأ من الإبادة الممنهجة، التي رسمتها القومية التركية لقيام الجمهورية على حساب الكرد، أما الآن فإن استمرارية عمليات القمع والمحو والإحلال الديمواجرفي، تجاه الشعب الكردي تعني بقاء القومية التركية، وبدلا من أن تتجاوز الدولة التركية أزماتها الداخلية، وتتصالح مع تاريخها وتقبل الحل الديمقراطي للقضية الكردية، تمارس سياسة الإبادة تجاه الشعب الكردي، لافتا إلى أن هناك بعض الأدوار والإشارات من المنظمات الأممية والحقوقية، إضافة إلى المبادرة الدولية لحرية القائد عبدالله أوجلان، قد حركت طوبة فى المياه الراكدة، وتمت زيارة القائد مؤخراً من قبل ابن أخيه، التي أطلق القائد عبرها رسائل السلام والتعايش السلمي جنبا إلى جنب مع الشعب التركي، وطرح الحلول الديمقراطية لحل القضية الكردية، وعلى النقيض تماماً قامت الإدارة بمنع الزيارة مجددا ولمدة ستة أشهر، كذلك فإن الانتهاكات التركية تجاه القائد اوجلان لا تنفصل عن الانتهاكات التركية بحق الشعب الكردي، ومن الممكن حدوث انفراجة نسبية إذا تزايدت الضغوط المحلية والاقليمية والدولية، وأصبحت ضغوط حقيقية لفك أسر القائد عبدالله أوجلان.
ويرجع إصرار تركيا على سجن وعزل القائد اوجلان، نظرا لأن أفكاره ورؤيته الاصلاحية لإقرار التعايش السلمي لا تساير الطموحات التركية الساعية لإبادة الشعب الكردي وطمس هويته وثقافته وحضارته، وكلما ظهر القائد زاد إصرار الشعب الكردي صلابة للحصول على حقوقه المشروعة المبنية على وعي الحقيقة، ونجحت افكار أوجلان في تعزيزها وترسيخها، لذا تفرض تركيا مزيد من العزلة ومزيد من الانتهاكات تجاه القائد أوجلان نظرا لأن القضية الكردية في تركيا تمثل تحديًا رئيسيًا لسياسة دولة تقوم على الإنكار والإقصاء، خاصةً وأن القائد عبد الله أوجلان، بفكره ومشروعه، يُعد مفتاحًا للحل، ليس فقط للقضية الكردية، ولكن أيضًا لاستقرار المنطقة، ومن ثم فإن النضال من أجل حريته هو نضال من أجل حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، ومن أجل تحقيق العدالة والمساواة في مواجهة دولة تُصر على القمع والتهميش.