"نموذج حلب" حيلة تركية جديدة للسيطرة على شمال سوريا

تتداولت الصحف التركية أنباءً عن توجيه الرئيس التركي أردوغان، تعليمات بتنفيذ ما أُطْلِقَ عليه "نموذَج حلب"، والذي يهدف لإعادة اللاجئين، وذلك من خلال فتح المجال للأعمال التجارية في مناطق ريف حلب وأجزاء أخرى من شرق سوريا، فيما تعرفه أنقرة بـ "المناطق الآمنة"

وفي هذا الإطار تَشَكَّلَت آليةٌ ثلاثيةٌ تَضُمُّ كُلاً من وزارة الداخلية التركية وحزب العدالة والتنمية وكتلته النيابية، وتتضمن خطة "نموذج حلب" إطلاق سلسلة من المشروعات الاقتصادية من خلال رجال أعمالٍ من المحافظات الحدودية مثل ديلوك (غازي عنتاب) بزعم خَلْق فُرَص عملٍ في هذه المناطق بعد توطين اللاجئين السوريين الموجودين في تركيا منذ اندلاع الحرب في سوريا.

نموذج حلب والمنطقة الآمنة

تأتي خطة نموذج حلب كتطبيقٍ لفكرة المنطقة الآمنة التي تتبناها تركيا منذ بداية الأزمة السورية، حيث عرضها الرئيس التركي للمرة الأولى على الأمم المتحدة في عام 2019، لكنها قوبلت في حينها بموقف أمريكي وروسي وأوروبي خامض، وتمتد هذه المنطقة المزعومة على طول 460 كلم على طول الحدود التركية بعمق 32 كلم، وتضم مُدناً من محافظات حلب والرقة والحسكة، بالإضافة إلى مدينة قامشلو (القامشلي) وبلدات سري كانييه (رأس العين) وتل تمر وعامودا والدرباسية وتل حميس وتربسبيه واليعربية وديرك في الحسكة ومعظمها تقع ضمن مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية.

ولأجل هذه الفكرة، شنَّت تركيا العديد من العمليات العسكرية مثل "درع الفرات" في جرابلس شمال حلب عام 2016، و"غصن الزيتون" في عفرين بريف حلب عام 2018، و"نبع السلام" بين كري سبي (تل أبيض) وسري كانييه (رأس العين) شرق الفرات عام 2019، و"درع السلام" في أدلب في 2020، فضلاً عن سلسلةٍ من الاتفاقات التي وقَّعتها أنقرة مع موسكو وطهران في إطار مسار أستانا، بجانب صمت وتواطؤ أوروبي وأمريكي وروسي أيضاً، ونتيجةً لذلك حَصَلَت أنقرة على السيطرةِ على نحو 10% من الأراضي السورية (185 ألف كلم)، ويقطن هذه المنطقة حوالي نحو 2،5 مليون شخص.

المنطقة الآمنة والعثمانية الجديدة 

ومنذ بداية ظهورها، تحتل هذه الفكرة مكانة محورية في السياسة التركية تجاه الأزمة السورية، حيث يزعم الرئيس التركي أن قيام منطقة آمنة على الحدود التركية السورية إنما بهدف لإعادة توطين اللاجئين السوريين في منطقة آمنة بطول الحدود التركية السورية واخلائها من المدنيين والمقاتلين الكرد الذين تعتبرهم أنقرة إرهاباً. 

غير أن هذا التوجه لا ينفصل عن السياسة العامة التي دأب الرئيس التركي على ترسيخها خلال السنوات الأخيرة عبر سلسلة المفردات ذات الطباع القومي، مثل "الميثاق المِلِّي" و"الوطن الأزرق" فيما يضمن عودة النفوذ التركي إلى ما قبل التوقيع على معاهدة لوزان 1923، ويعيد إلى أذهان الأتراك النموذج العثماني فيما يصطلح عليه حاليا بـ "العثمانية الجديدة"، وهو ما يحتل مكانة مركزية في الخطاب السياسي لأردوغان سواء على مستوى السياقات الانتخابية أو ترسيخ نفوذه في الداخل التركي لاسيما وأننا بصدد الذكرى المئوية لمعاهدة لوزان التي تجمع النخبة السياسية التركية على ضرورة التحرر منها، وفي هذا السياق يتزايد الحديث آخيراً عن فكرة "المنطقة الآمنة" إما للتخلص من إشكالية اللاجئين السوريين في تركيا، أو تحقيقاً لمخطط العودة لما قبل لوزان سالف الذكر.  

"نموذج حلب" والانقلاب على سياسة أردوغان ضد النظام السوري

تمثل خطة "نموذج حلب"، مثالاً صارخاً على الطابع البراجماتي للشخصية السياسية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فرغم العداوة المفرطة التي تميز بها الموقف التركي من النظام السوري منذ بداية الأزمة السورية في 2011، إلا أن خطة "نموذج حلب" تقوم على التنسيق بين الحكومتين السورية والتركية، الأمر الذي يؤكد على الانقلاب السياسي الذي تجريه أنقرة منذ شهور في إطار تقاربها مع النظام السوري.

كما أنه وبالنظر إلى العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة في إطار ما يُعرَف بـ "قانون قيصر" ضد الدول والكيانات التي تدعم النظام السوري أو تتعامل معه، فإن "نموذج حلب" ربما يعتبر التفافاً على العقوبات الأمريكية بما يُعَزِّز وضع النظام السوري وكذلك النفوذ الروسي والإيراني.

ومما لا شك فيه أن البرجماتية التي تتجلَّى في تحولات الموقف التركي إنما تنبع من أهمية مدينة حلب (التاريخية)، العاصمة الاقتصادية لسوريا، بالنسبة للاستراتيجية التركية على الجبهة السورية، فبجانب البعد الجغرافي للمدينة التي تبلغ مساحتها نحو 20 كيلو متر مربع، وتقع بالقرب من الحدودي السورية، وبعدد سكانها الكبير (نحو 4،6 مليون نسمة)، ففي حلب يوجد عددٌ كبيرٌ من السوريين المعارضين للنظام السوري، فضلاً عن مكانة المدينة في استراتيجيات المواجهات التركية مع قوات سوريا الديمقراطية، وهو ما تجلَّى في سلسلة العمليات العسكرية التركية التي استهدفت حلب منذ عام 2016.

حِيلةٌ لترسيخ النفوذ التركي في الشمال السوري

يسعى الأتراك للتأكيد على أن حَلَّ مُشكلةِ الشمال السوري تكمن في حلب التي يتعين وضعها تحت السيطرة التركية عبر خطوات متكاملة من بوابة اللاجئين، حيث تعمل أنقرة على تحفيز اللاجئين السوريين على العودة عَبْر إقامة مشاريع اقتصادية وتجارية استيطانية بما يُعَزِّز النفوذ التركي في شمال سوريا من خلال زيادة سيطرتها على حلب، وكان مستشار الرئيس التركي، ياسين أقطاي، قد طالب بذلك بإخضاع حلب إلى جانب حمص وحماة لسيطرة أممية حتى تتمكن تركيا من إدارتها في شهر كانون الأول الماضي، وعلى ذلك فإن التوجه المُعلن من جانب الأتراك بشأن خلق حزام بشري موالٍ لها من اللاجئين لـ "المناطق الآمنة"، ينطوي على قدرٍ كبير من العبث بالوضع الديمغرافي في الشمال السوري، حيث تَحُولُ هذه الفكرة دون تبلور أي كيان كردي سوري أو ديمقراطي وإجهاض تجربة الإدارة الذاتية القائمة في شمال شرق سوريا منذ عام  2013، كما يسعى أردوغان من خلال هذا الحزام البشري إلى استنزاف الكرد في مواجهات مستقبلية قد تنشأ بينهم وبين اللاجئين العرب الذين يسعى أردوغان لنقلهم قسرياً من تركيا إلى هذه المناطق الآمنية، وهو ما يعني أن تركيا لن تنسحب من الأراضي السورية الموجودة فيها.

نموذج حلب واتفاقية أضنة 1998

ترتبط الحكومتان التركية والسورية بـ "اتفاق أضنة" الذي تم التوقيع عليه في 20 تشرين الأول 1998 بشأن تطبيع العلاقات بين الجانبين بعد توتر العلاقات بينهما بشأن قضايا مشتركة مثل الحدود والمياه والكرد والعلاقات الإقليمية والدولية، ورغم عدم اكتراث الحكومة التركية بالقانون الدولي في سياساتها الإقليمية بالشرق الأوسط وشرق المتوسط، إلا أن اتفاق أضنة يوفر للأتراك ذريعة للتوغل في الأراضي السورية، ببجانب تأكيد الاتفاق، بين بنوده، على اتخاذ كافة الخطوات اللازمة لحصار عناصر حزب العمال الكردستاني وتطويقه على المناطق الحدودية السورية التركية، فقد مَنَحَ هذه الاتفاق الحق للأتراك بالتوغل في الأراض السورية حتى عُمْق 5 كلم لملاحقة الكرد، لكن الأتراك يزعمون أن تطور القدرات القتالية للمقاتلين الأتراك يضاعف التهديدات الأمنية بالنسبة لهم، ولهذا فإنهم يتجاوزن المساحات التي نص الاتفاق (5 كلم)، بما يحقق يخدم مخططات العثمانية الجديدة ومساعي القضاء على أية كيانات كردية في المنطقة، ولعل الأتراك وجدوا ضوءً أخضر لذلك في عدم معارضة النظام السوري الذي لم ينسحب من اتفاق أضنة رغم تجاوز الأتراك لبنوده؟

نموذج حلب والتقارب التركي السوري

يُعَوِّل الأتراك بِشِدَّةٍ على نجاح مسار التقارب مع النظام السوري الجاري منذ شهور، حيث قال وزير الخارجية التركي السابق مولود جاويش أوغلو، في 16 آب 2022، أن "إجراء مُصالحةٍ بين المعارضة السورية والرئيس الأسد ضرورة"، وهو التصريح الذي أعقبه انطلاق المحادثات السورية التركية على مستوى وزراء الدفاع بموسكو في كانون الأول 2022، ثم الاجتماع الرباعي الذي شارك فيه وزيرا خارجية سوريا وتركيا بجانب نظيريهم الروسي والإيراني لمناقشة تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق.

وفي حين يُصِرُّ الرئيسُ السوري على جعل لقاءه بأردوغان مَشروطاً بانسحاب القوات التركية من الأراض السورية، فقمن غير المستبعد أن يتم هذا اللقاء وهو ما أشار إليه مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى سوريا ألكسندر لافرينتيف، حيث قال في 9 تموز الماضي، "إن العمل جارٍ بشكل مكثف على تبطيع العلاقات بين سوريا وتركيا، وكان المسؤول الروسي قد قال في وقت سابق (2 كانون الأول 2022)، أن "ما يحول دون تحقيق ذلك أمران رئيسان: أولا موضوع الحدود والتواجد التركي في الأراضي السورية، والثاني هو الدعم الشامل الذي تقدمه تركيا للمعارضة السورية. بجانب ذلك، خطةَ "نموذج حلب"، التي تتجاوز مراجعة وضع القوات التركية في الأراضي السورية، ربما تصطدم مع كلٍ من سوريا وإيران والصين أيضا، وإذا توافق الجانبان التركي والسوري، من منطلق البراجماتية السياسية، على الخطة التركية في حال الجانب السوري على ضمانات بتنفيذها تحت إشراف إدارةٍ مدنيةٍ شِبْه مستقلة تابعة لدمشق بما يؤكد سيطرة الأسد على حلب، الأمر الذي يثير التساؤل حول إمكانية إجراء صفقة روسية أمريكية حول تلك الخطة لاسيما وأن مدينة حلب لا تقع ضمن النفوذ التركي في الداخل السوري، لكن الرد على ذلك التساؤل يكمن في مدى تحفظ واشنطن على فكرة المنطقة الآمنة التي تتم برعاية روسية بما يُكَرِّس تحالفاً واعداً يلقي بظلاله على الشرق الأوسط، بين روسيا والصين والعراق وإيران ومن ثم سوريا وهو ما يرفضه الأمريكان.

غاية القول، فإن خطة "نموذج حلب" التي تتبناها أنقرة أخيراً تمثل حيلةً تركية جديدةً للتأكيد على نفوذها بمعادلة الصراع في سوريا، كما توفر لها سبيلاً لحل مشكلة اللاجئين السوريين في تركيا، فضلاً عن المُضي في تنفيذ المخططات القومية التركية بشأن العودية إلى ما قبل "معاهدة لوزان" 1923م، الأمر الذي يعني استبعاد أية احتمالات لخروج القوات التركية من الأراضي السورية في المدى المنظور.

وبناءً عليه، ففي ضوءِ التحديات التي تواجهها المنطقة، والتي تَتَّصِل في غالبيتها بفاعلين خارجيين (إقليميين ودوليين)، فإن مواجهة هذه الأزمة المُحْكَمة يَقَع على عاتق الفاعلين المحليين في المقام الأول، كالعربِ والكُرد وغيرهم، حيث أضحى التقارب فيما بينهم أشد ضرورة في اللحظة الراهنة، ويمكن أن يتخذ هذا التقارب المأمول صَيَغاً تحالفية بين الجميع، بما يضمن تجاوز الخلافات الداخلية لتحقيقِ غاية أسمى وهي الحفاظ على ووحدة الأراضي السورية وسيادتها المُهَدَّدة من قِبَل الأتراك، كونها تقع في قلب المُخَطَّط الإقليمي التركي الرامي لاستعادة النفوذ العثماني، والذي بات يُشَكِّل أحدَ المُفردات الرئيسية للخطاب السياسي، القومي المُتَشَدِّد، للرئيس التركي. 

بجانب ذلك، تتعاظم أهمية التفاعل العربي المُؤثِّر بُغية الحفاظ على وحدةِ وسيادةِ الأراضي السورية كَجُزْءٍ مِحْوَريٍ في منظومةِ الأمن القومي العربي.

 

 دكتور/ طه علي أحمد

باحث في سياسات الشرق الأوسط وسياسات الهوية