ممارسات ممنهجة..أبعاد استخدام تركيا ورقة المياه على دول الجوار

صارت الموارد المائية أحد المدخلات الرئيسية التي توظفها تركيا سواء فى تعزيز سياستها التوسيهية في الإقليم أو التأثير على مقاربات خصومها من دول الجوار، وبخاصة سوريا والعراق، من خلال إضعاف البنية التحيتية في هذه الدول، وإحداث تآكل في ركائزها الاستراتيجية،

وبالنظر إلى أن الكثير من المصادر المائية للعراق وسوريا تأتي من تركيا التي تمثل دولة المصب لتهري دجلة والفراتـ فقد سعت تركيا إلى إجراء تغيير في خريطة الجغرافيا السياسية، من خلال الربط المائي الإقليمي، واستخدام المياه كورقة سياسية ضاغطة على كل من سوريا والعراق. وتجدر الإشارة إلى أن  السياسة التركية اعتمدت في إدارتها لملف المياه مع جيرانها على مرتكزين، هما: فرض سياسة الأمر الواقع، وعامل الزمن؛ فتركيا ماضية في إكمال مشاريعها المائية التي تستهدف ضمان السيطرة على نهري دجلة والفرات، من خلال التأكيد على أنهما مجاري مائية خاصة.

مؤشرات الاستغلال

ظهرت العديد من المؤشرات التي تؤكد مساعى أنقرة إلى استغلال المياه كسلاح استراتيجي ضد دول الجوار، وبخاصة سوريا والعراق، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:

الترويج للمغالطات القانونية والتاريخية: سعت أنقرة إلى الترويج لحقائق تاريخية وقانونية مضللة بشأن أحقيتها في إدارة المجاري المائية المشتركة مع دول الجوار، وتجلى ذلك في استناد تركيا إلى نظرية السيادة المطلقة في تفسير طبيعة مجرى نهرى دجلة والفرات، وأن الدولة لها الحق في السيادة المطلقة على على مياه النهر الدولي الواقع ضمن إقليمها دون قيد أو شرط. وطبقاً لذلك، فهى تعطى لنفسها الحق في بإقامة السدود للاستفادة من المياه وإجراء العديد من التحديثات على مجرى النهر. كما أنها وفقاً لهذا المنظور تروج لعدم وجود قاون دولى يلزمها بإعطاء حصوة ثابتة للدول المتشاطئة معها في الأنهار، ولهذا ترى تركيا أن ماتمرره من مياه لسوريا والعراق هو نضحية منها وليس واجباً.

وثمة قناعة تركية مطلقة بأحقيتها بالتصرف في مياه دجلة والفرات، وذلك أسوة بالدول النفطية التي تملك رصيد وافر من مكامن الطاقة، وتتصرف فيها دون منازعة، لاسيما وانها تعتبر نهرى دجلة والفرات  ذات ملكية خاصة لها، وهي أنهار عابرة للحدود، وليسا نهرين دوليين، وبررت ذلك بأن حوضي دجلة والفرات حوض واحد، يقعان ضمن حدودها. وعشية اففتاح سد أتاتورك في العان 1992، قال رئيس الوزراء التركي آنذاك "سليمان ديميري"، في كلمته، إن " ما يعود لتركيا من مجاري مياه الفرات ودجلة وروافدها هو تركي.... نحن لا نقول لسوريا والعراق إننا نشاركهما مواردهما النفطية... ولا يحق لهما القول إنهما يشاركاننا مواردنا المائية".

بيد أن السلوكيات التركية تنافي القوانين الدولية، وعلاقات حسن الجوارـ خاصة أن القوانين الدولية تنص على ضرورة احترام حاجات الدول المطلة على هذه الأنهار وعدم الإضرار بمصالحها الوطنية.  وعلى صعيد متصل، فإن  الاتفاقيات الدولية تعتبر دجلة والفرات أنهار دولية، إذ أنه بعد انهيار الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، تحول النهرين من نهرين داخليين (وطنيين) إلى نهرين دوليين يخضعان لسلطة ثلاث دول، حيث اختصت تركيا بالمنبع والمجرى الأعلى للفرات ودجلة، وسوريا بالمجرى الأوسط للفرات، والعراق بنهر دجلة والمجرى الأدنى للفرات.

التوسع فى يناء السدود: دشنت تركيا ضمن مشروع جنوب شرق الأناضول "الكاب" GAPعلى نهري الفرات ودجلة 22 سدا منها 14 سد على نهر الفرات وأكبرها سد أتاتورك و8 سدود على نهر دجلة وأضخمها سد إليسو . و19 محطة كهرومائية. وتسببت السدود التي قامت تركيا ببناؤها على نهري دجلة والفرات، في التأثير على حصص المياه القليلة التي تصل إلى كل من سوريا والعراق. ومن أبرز تلك السدود إليسو الضخم الذي تسبب في انخفاض حصة العراق من مياه النهر، وقد يصل التراجع إلى نسبة 60 في المئة بسبب تشغيل مولدات الكهرباء على هذا السد. كما أدت السدود  التركية على نهر الفرات إلى تراجع حصة السوريين من النهر، إلى أقل من ربع الكمية المتفق عليها دوليا، وهي مستويات غير مسبوقة. وتجدر الأإشارة غلى أنه بحسب تقرير نشرته صحيفة الغارديان في أكتوبر 2021، فقد "أدى إنشاء السدود التركية وتوليد الطاقة الكهرمائيّة على النهرين إلى خفض تدفق المياه إلى العراق بنسبة 80 في المئة وإلى سوريا بنسبة 40 في المئة

خرق الاتفاقيات المائية الدولية والثنائية: لا تقتصر إجراءات الاستغلال التي اعتمدتها أنقرة في إدارة ملف نهرى دجلة والفرات على ما سبق، فقد خرقت تركيا الاتفاقيات والقوانين الدولية المنظمة لمياه نهري دجلة والفرات،  خاصة الاتفاقيتين الدوليتين لعامي 1966 و1997 من القرن الماضي، وأيضاً مع الاتفاقيات الثنائية، ومنها الاتفاقية الموقعة مع سوريا في العام 1987 التي وقعتها مع سوريا، وتعهدت بموجبها  للجانب السوري بحد أدنى من المياه يبلغ 500 متر مكعب في الثانية،

تسليح المياه: اتجهت تركيا منذ العام 2016 إلى تحويل المياة إلى سلاح في مواجهة قوات سوريا الديمقراطية فى الشمال السوري، وفي إطار إصرارها على عسكرة الأزمة مع مناطق الإدارة الذاتية شرق الفرات، وتجلى ذلك في القيام بإغلاق بوابات عبور مياه الفرات إلى سوريا، ما أدى إلى انخفاض منسوب المياه في الشمال السوري، الأمر الذي انعكس سلباً على توليد الكهرباء من سد الفرات وتضرر القطاع الزراعي. ووفقاً لتقديرات محلية سورية، فإن تدفق المياه حالياً لا يتجاوز 200 متر مكعب، وإذا ما واصلت تركيا خرق الاتفاق فإن مدناً مثل حلب والرقة ودير الزور والبوكمال وصولاً إلى العراق ستواجه كارثة إنسانية لا محالة. وبالتوازي، وفي إطار سعيها لتشديد الحصار على المناطق الكردية شمال سوريا، تقوم تركيا في التوقيت الحالى بتوظيف المياه كأسلوباًً تكتيكيّاً  في صراعها العسكري ضد الكرد، خاصةً أنها تنظر إلى إلى الموارد الطبيعية، كالمياه، على أنها أصول استراتيجية خلال المواجهات مع الخصوم في دول الجوار، وظهر ذلك في توظيف ملف المياه للضغط على سكان شمال شرق سوريا، من خلال قطع المياه عن أكثر من مليون مواطن في الحسكة، والتحكم بمياه الضخ من محطة علوك، وهو ما يعر السكان المدنيين لكارثة إنسانية، ترقي لدى قطاع من الخبراء إلى جريمة ضد الإنسانية.

تداعيات كارثية

على الرغم من أن تركيا تستهدف من وراء الإنساك بنفاصل نهرى جلة والفرات إلىى تحقيق مكاسي سياسية وأمنية واقتصادية إلا أن الممارسات التركية الأحادية في إدارة ملف الموارد المائية لنهرى دجلة والفرات، حمل ارتدادات سلبية على دول الجوار، وصلت إلى حد الكارثة الإنسانية، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:

تضرر القطاع الزراعي في سوريا والعراق: تسببت الممارسات المائية التركية حيال إدارة موارد نهرى دجلة والفرات، في تدهور القطاع الزراعي في سوريا والعراق، على نحو أدى إلى اتخاذ إجراءات مثل حظر  الزراعات كثيقة الرى، ومنها الأرز، والقمح، والذرة، وقصب السكر، وهي المحاصيل كثيقة الاستهلاك في تلك المناطق.. كما تسببت السدود التي بنتها تركيا على طول نهرى دجلة والفرات في تبوير قطاع واسع من الأراضي الزراعية، ومن ثم انخفاض الإنتاجية في دولتى الجوار، وهو ما دفع مزارعين إلى هجر أراضيهم. وهنا تجدر الإشارة إلى أن مياه نهري دجلة والفرات تستخدم في ري الحقول على. طول ضفتيهما.

إحداث فجوة غئذائية: الواقع أن انحسار التدفقات المائية لنهري دجلة والفرات لم ينسبب فقط في انهيار القطاع الزراعي، بل ساهمت في إحداث فجوة غذائية كبيرة في هذه المناطق، وزادت وطأتها مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، ثم انسحاب روسيا من اتفاق الحبوب في يوليو الجاري، وهو ما أدى إلى اضطراب سلاسل الغذاء، وارتفاع أسعارها. ويشار إلى أن الغالبية العظمى من الناس في شمال شرقي سوريا، والعراق تعتمد  على الزراعة لكسب لقمة العيش، وقد تسبب تراجع حصص المياه إلى التأثير على المساحات المزروعة، ومن زيادة نسب البطالة بالإضافة إلى تدهور الأوضاع المعيشية للمواطنين في هذه المناطق.

ويشار إلى أن مناطق الشمال السوري خسرت جانب واسع من المساحات الزروعة بسبب نقص المياه، وكشفت دراسة صادرة عن مركزAtlantic Council"، وصدرت في 25 فبراير 2022 تحت عنوان " بعنوان "سوريا تعاني كارثة مائية، وستستمر"، أنه في مايو 2021، انخفض تدفق نهر الفرات في شمال شرقي سوريا إلى أدنى مستوى له على الإطلاق، مما تسبب في أسوأ موجة جفاف منذ عام 1953، وانعكس هذا الانخفاض سريعاً على مخزون المياه في سدود الطبقة وتشرين والبعث على نهر الفرات، وهي السدود التي تروى  أكثر من 475 ألف فدان (200 ألف هكتار) من الأراضي الزراعية.كما أنه وفقاً للدراسة فقد المزارعون المحليون 80 في المئة من محصولهم. وفي محافظة الحسكة، أكثر من 90 في المئة من سلة الخبز في البلاد.

في المقابل، فإن بناء سد اليسو على نهر دجلة، ساهم في تقليص رقعة الأراضي الزراعية في العراق، حيث تسبب في جفاف ما يقرب من ثلث مساحة الأراضي الزراعية، والتي تقدر بأكثر من أربعة ملايين دونم خلال السنوات الخمس والعشرين المقبلة، ممما يعني هذا حرمان مئات الآلاف من المزارعين من مزاولة أعمالهم ومهنهم الزراعية.

تفاقم أزمات الكهرباء: تصاعدت أزمة نقص الكهرباء بالعراق وسوريا بصورة لافتة خلال السنوات الماضية، وزادت حدتها في الآونة الأخيرة،  ويعود ذلك إلى قيام  تركيا بإغلاق بوابات عبور مياه دجلة والفرات إلى سوريا والعراق بالأغضافة إلى التوسع فى بناء السدود، ما أدى إلى انخفاض منسوب المياه، الأمر الذي انعكس سلباً على توليد الكهرباء في سوريا والعراق. كما ساهمت السياسات المائية الأحادية لتركيا في  تدمير البنية التحتية في دول الجوارعلى مدار العقود الماضية، وزيادة التسرب الكهربائي. كما أدت العمليات العسكرية التركية التي تشنها تركيا على شمال سوريا منذ العام 2016 إل تدمير المحطات الكهربائية المتهالكة بطبيعتها، وهو ما تسبب قي إخفاقها فى تلبية احتياجات الأفراد من الكهرباء في تلك المناطق. ويشار إلى أن نهر الفرات بغد العمود الفقرى لمشروعات سوريا الكهربائية وخططها التنموية، كما أن أكثر من ثلث مناطق سوريا تعتمد على نهر الفرات لتوليد الطاقة الكهربائية وعلى رأس هذه المناطق حلب، وجانب واسع من مناطق شمال شرقي سوريا.

تدهور إنساني متزايد بدول الجوار: بينما يُعاني مواطنو العراق وسوريا من أزمات إنسانية  مركبة ومعقدة بسبب حالة الاحتراب الداخلي، واستمرار المعارك ضد الكيانات الإرهابية التي نجحت في استغلال حالة التوتر الداخلى في سوريا والعراق لايجاد موطئ قدم لها في هذه الدول، أضافت الإجراءات المائية التي تبنتها تركيا، وتضمنت تقليص تدفقات نهرى دجلة والفرات إلى سوريا والعراق مزيداً من التحديات الإنسانية على سكان البلدين، وفي الصدارة منها تفاقم الأزمات الصحية في سوريا على سيبل المثال جراء انخفاض منسوب نهر الفرات الذي يعتمد عليه أكثر من 5 ملايين شخص في سوريا بشكل مباشر كمصدر للمياه وبحسب تقرير لمنظمة هيومان رايتس ووتش، صادر في نوفمبر 2022، فإن السلطات التركية تسببت في تفاقم  أزمة المياه الحادة في سوريا والبلدان المجاورة، نتيجة التحكم في مياه نهر الفرات، وهو ما أدى إلى انتشار وباء الكوليرا في جميع أنحاء سوريا. وتشير تقديرات الأمم المتحدة الصادرة في العام 2021 إلى أن ثلثَي محطات معالجة المياه في سوريا، ونصف محطات الضخ، وثلث أبراج المياه في سوريا تضررت منذ العام 2011.

تصاعد المخاطر على الآثار السورية والعراقية: أشارت العديد من الدراسات إلى الأثار التدميرية التي أحدثتها عملية سد أولسيو على نهر الفرات، حيث كشفت عن تعرض بعض المواقع الأثرية، وبخاصة الأثار الكردية على طول القرى والطرق التي تم نزعها لصالح عملية بناء السد  للخطر أو للمحو بسبب عمليات الإزالة. كذلك غمرت مياه سد اليسو العديد من القرى والبلدات الكردية التي كانت تعد موطناً لإرث ثقافي وتاريخي غنى يعود بعضها إلى الآف السنين، وكانت مصدراً للسياحة العالمية، ومنها مدينة "حسن كيف" الأثرية .

في المقابل، حمل سد اليسو ارتدات كارثية على الآثار العراقية، وفي الصدارة منها تعرض منطقة الأهوار العراقية للجفاف لتصبح صحراء نتيجة لحرمانها من تدفق المياه إليها، وهي المنطقة المدرجة في قائمة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو كونها تتمتع بتنوع بيولوجي وتاريخ متعدد للثقافات.

ختاماً، يمكن القول أن إصرار تركيا على التحكم في مياه دجلة والفرات، وفرض سياسة الأمر الواقع على دولتي الجوار سوريا والعراق، والمضي قدماً في تنفيذ المشاريع التوسعية على النهرين دون الالتفات للمصالح الوطنية لدول الجوار، يكشف عن خطة أنقرة للاستمرار فى تسليح المياه، وتوظيفها مةرقة ضاغطة على مقاربات خصومها، وهي سياسة قد تزيد من أعباء دول الجوار التركي، وتيدها انغمااساص في همها الداخلى. كما تحمل في جانب أخر الهديد من المخاطر على تركيا ودول المنطقة حال انهيار مفاجئ للسدود التركية على نهري دجلة والفرات.

كرم سعيد- خبير الشئون الإقليمية- مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية