والغريب أن مخططات التهجير لم تعد تجري في الخفاء بل علناً وبمنتهى التبجج فالنظام التركي الذي احتل مناطق واسعة في شمال وشرق سوريا عمل على تهجير السكان الأصليين لتلك المناطق وغالبيتهم من الكرد، وبالإضافة إلى موجة التتريك لبعضها يعمل حالياً على إقامة مستوطنات في المناطق التي احتلها لاستقدام اللاجئين السوريين من العرب إلى تلك المناطق لإعادة بناء التركيبة الديمغرافية لها بحجة توفير الحياة الكريمة لهم.
بالتوازي مع ذلك، لم يخف الاحتلال الإسرائيلي رغبته في تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى سيناء المصرية وقد ظهرت مطالبات علنية بذلك، وتحت مسميات مختلفة منها توفير مأوى آمن لهم إلى حين الانتهاء من العمليات العسكرية ضد حركة حماس، إلا أن هذه الحجج لم تنطلي على أحد ويبدو بوضوح أنها تستهدف تصفية القضية كما تعمل أنقرة بدورها على تصفية القضية الكردية، بحسب مراقبين.
مخطط الشرق الأوسط الجديد
في هذا السياق، يقول هاني الجمل الأكاديمي والمحلل السياسي، في اتصال هاتفي لوكالة فرات للأنباء (ANF)، إن رغبات الدول المحورية في الشرق الأوسط في تهجير بعض الفئات والعرقيات بعيداً عن حدودها الديمغرافية أمر في صميم مخطط الشرق الأوسط الجديد، ولدينا مثالين على ذلك أولهما والأقدم تحركات إسرائيل ضد الفلسطينيين، التي تسعى للتوسع داخل حدود فلسطين ولهذا ليس لها دستور يحدد حدودها حتى الآن، وحلم التوسع من الفرات حتى النيل لا يزال قائماً لدى الدولة اليهودية.
وأضاف "الجمل" أن العمليات التي تقوم بها إسرائيل منذ السابع من أكتوبر \ تشرين الأول خير دليل على مسألة التهجير، ووصل الأمر إلى تحركات من أجل التهجير الكلي للفلسطينيين وإيجاد وطن بديل لهم، سواء بالضغط عليهم للاتجاه نحو سيناء أو الضغط على أهالي الضفة بالذهاب إلى الأردن، وبالتالي تريد توسيع هذه المنطقة الجغرافية والسيطرة عليها بدعم أمريكي، وهناك في المقابل رفض لها من قبل مصر والدول العربية.
وذكر الباحث والأكاديمي المصري أن المثال الثاني الذي يشبه ما تقوم به إسرائيل هو ما تقوم به تركيا بحق الكرد وبالذات في الشمال السوري، فقد استغل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ظروف سوريا وما عرف بالربيع العربي لاستباحة أراضيها، وتقوم بالتهجير من خلال الطلعات الجوية والصواريخ الموجهة وطمس الهوية ومحاولة إزاحة المواطن الكردي من هذه المناطق التي يمتلك فيها حقوقاً تاريخية، فأنقرة تستغل حالة الحرب الشعواء ضد الكرد بهدف تهجيرهم إلى الداخل السوري، وهو نفس ما تقوم به إسرائيل أي التغيير من ديمغرافية هذه الأماكن.
ويرى أنه إذا استطاعت تركيا تغيير ديمغرافية هذه المناطق ستتقلص مساحات الأراضي التي كان يعيش عليها الكرد، ومن ثم تشتيتهم في الداخل السوري أو العراقي، في إطار التوسع الذي تريده تركيا لإزاحة خطوط التماس بين الأراضي التركية ومناطق الكرد، والهدف الثاني طمس الحضارة الكردية، والهدف الثالث احتلال أجزاء من شمال سوريا تحت غطاء مواجهة المخاطر التي تهدد الأمن القومي التركي.
تصفية قضيتي الكرد وفلسطين
بدوره، يقول محمود الشناوي مدير تحرير وكالة أنباء الشرق الأوسط، في تصريح لوكالة فرات للأنباء (ANF)، إن التهجير القسري هو فعل إجرامي يقوم به مجرمو الحروب في كل مكان ولا يقتصر على عرب أو عجم أو شرق أو غرب، بل هو موضوع ممتد، لذلك كان أحد اهتمامات الأمم المتحدة والجمعيات المهتمة بحقوق الإنسان وكل المنظمات التي تسعى للحفاظ على الإنسان وحقوقه.
وأضاف أن ما يجري في فلسطين يأتي كامتداد لهذا الفعل الإجرامي، ومحاولة تصفية القضية، فالتهجير القسري يحدث لتصفية قضية من خلال تهجير أهلها من المكان الذي هم فيه كما يجري في فلسطين وكما تجري الحالة في مناطق شمال سوريا، وفي مناطق أخرى في العالم وقد يتم ذلك بفعل إجرامي من خلال تجار المخدرات أو الميليشيات المسلحة أو المحتلين الذين يريدون التهجير، وقد جرى ذلك في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ومناطق كثيرة من العالم.
وقال "الشناوي" إن ما يجري للفلسطينيين هو محاولة لتصفية القضية الفلسطينية تماماً وهو نفسه ما يجري بحق الكرد نفس الأمر تقريبا ومحاولة لتصفية قضيتهم وعزلهم عن مناطقهم التاريخية وإجبارهم على التنازل عن حقوقهم، ولكن في رأيي فإنه لا الفلسطينيين سيتنازلون عن حقوقهم ولا الكرد كذلك، وللجميع حقوق غير قابلة للتصرف والإلغاء والإنهاء، وقضاياهم تاريخية، ومناضلوهم أقوياء وأشداء لا يمكن أبداً أن يتنازلوا عن حقوقهم.
ولفت إلى أن عمليات التهجير جرت في عديد من مناطق العالم إما بسبب ظروف طبيعية أو الكوارث، أو ظروف صنعها البشر لكي يقوموا بتهجير سكان المناطق المستهدفة ويتم التصرف فيها وفق هوى من يقوم بالتهجير، وهذا ما يجري الآن في فلسطين وما يجري في المناطق الكردية في شمال شرق سوريا، مشدداً على أن القانون الدولي والإنساني يرفض تماماً التهجير القسري، ولا يمكن لأي دولة أو منظمة أن تقر بهذا الوضع.
وأكد الكاتب الصحفي المصري أن عملية التهجير ترتبط بنوع من التطهير العرقي، وربما لا نريد أن نتحدث عما جرى في العراق في فترة الفتنة الطائفية حيث جرت عمليات تطهير عرقي واسعة في مناطق السنة والشيعة بشكل متبادل، كما تقوم إسرائيل بذلك من أجل دولة يهودية خالصة خالية من العرب والفلسطينيين، ولكن حتى لو تمت التصفية فإن هذه نوع من الحقوق التي لا تسقط بالتقادم، وحتى لو تم تغيير الهوية كعمليات التتريك التي تجري في شمال سوريا، وكعمليات التهويد التي تجري في فلسطين، فأصحاب هذه الحقوق لن يتركوا حقوقهم مهما جرى بحقهم من قتل أو ذبح.