علاقة الحرية والسياسة

أكد الإعلامي رستم باشور خلال مقاله له أن الحرية والسياسة تربط بينهما علاقة تشابكية، بحيث لا يمكن تواجد إحدى عناصرها دون الأخرى أي لا وجود للفعل السياسي دون الحرية، ولا يوجد إمكانية لنقل الحرية إلى الممارسة العملية دون ممارسة السياسة.

وجاء في نص المقالة:

فصل الأول

تتناول حنة أرندت في كتابها "في السياسة وعدا" والذي يخوض ما بين الفلسفي والسياسي بشكل مباشر العلاقة المعقدة والاشكالية ما بينهما وتحاجج في التقليد الغربي للفلسفة السياسية منذ عهد أفلاطون بأنه قام باحتقار السياسة وبنى فجوة بين التفكير الذي هو في وجهة نظره النشاط الأساسي والأخير للفيلسوف وبين الفعل والنشاط العملي الذي يتوافق في حقيقته مع وجودنا الجماعي ألا وهو السياسي، حيث سعت الفلسفة إلى التعامل مع مسائل أبدية والبحث عن الحقيقة فيها في حين كانت السياسة تهتم في شؤون أرضية وإنسانية والتي يصعب تصنيفها وهو ما يعني مطاردة راحة البال الذي يطمح لها الفيلسوف المتأمل حسب حنة أرندت، وهو نوع من الترفع لدى الفيلسوف بالعمل بالسياسة، وهذا الاحتقار في وجهة نظر حنة أرندت سببه محاكمة سقراط وادانته على يد المحكمة عندما انخرط في الحياة العامة للمدينة كفيلسوف مع المواطنات والمواطنين وهو ما عنى التدخل في الحياة السياسية ودفع حياته ثمنا لذلك مما جعل أفلاطون تلميذه يشك في قدرة الفيلسوف بالعموم على الاقناع والاقتناع  ما جعله غير مقتنع بالقدرة على منح حرية التعبير والنقاش بها أو جعلها قضية تشغل الفيلسوف وطاق نحو الحقائق المطلقة والثابتة والمخلدة وغير الإنسانية كما تصفه حنة أرندت، وهو ما يناقض في وجهة نظرها ما يقترحه التواجد في الحيز العام لأن الوجود في هذا الحيز لكل من يتعاطى بحياتنا البشرية واليومية والأمور التي تحدث فيها غير مطلقة ولا نهائية وقابلة للأقناع والدحض والشك وإعادة الاعتبار وهو ما تخلى عنه أفلاطون بسبب الصعوبة في المحاججة وخوفا من مصير مشابه لسقراط، تستثني حنة أرندت من هذا التقليد الغربي ماركس بسبب عدم فصله ما بين الفلسفة والسياسة حيث رأى بأن دور الفيلسوف ليس فقط فهم وتفسير العالم بل تغييره، وهو ما تتبناه حنة أرندت في لب نقضها للتقليد الغربي باتخاذه موضع المراقب الذي يشاهد مسرحية بدون أن يكون مشاركا فيها ومحاولة فهم للخيارات التي تتخذها الجهات الفاعلة، ولماذا اتخذتها، حيث تقول بأن النظر من هذه الزاوية تجعل تلك الأفعال تبدو لنا كحتمية ومقدّرة، بينما من يقوم بالفعل نفسه، يبدو أمامه كل شيء ديناميكي أكثر وغامض اكثر ووجهة النظر التي يمكن لها أن تتكون من خلال هذه الفاعلية في الممارسة العملية تختلف كليا عن الموقع النظري، وهو ما يشكل في حقيقة الأمر النقطة المحورية لانطلاقة مفهوم حنة أرندت حول السياسة وماهيتها كمجال عام ما بين البشر قائمة في الدرجة الأولى على تعددنا واختلافنا، إلا أنّها تخرج وبشكل مقصود مجموعة علاقات لا تراها ضمن مجال السياسة كالعائلة والصداقة والحب حيث ترى هذه العلاقات الثلاثة كمهرب من السياسة لأنها مبنية على التشابه والمعرفة وليس على الاختلاف المعروف والغير معروف كما على السياسة أن تكون.

وبالتالي فقيمة تعدد البشر واختلافهم لدى حنة أرندت ليست قيمة وصفية، وإنما قيمة معيارية بدونها لا يوجد معنى للسياسة، حيث أن التشابه والتجانس يقتل المجال السياسي، ويعدمه قدرته لأن يكون مجالا للحرية، وهي غير ممكنة بعلاقة الانسان مع ذاته كشيء داخلي وإنما خارجه، حيث أن الإنسان الذي يعيش مع ذاته يبحث في أغلب الأوقات عن حقائق مطلقة، لا يوجد لديه تلك الصراعات المختلفة عن اراداته التي بحاجة إلى ان يحاكيها ويقنعها هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالسياسة دائما خارج الفرد وتبتعد بشكل مقصود عن الخوض في طبيعة الإنسان كفرد حيث أن قضايا الافتراض بطبيعة الانسان الخير أو الشرير أو المليء بالريبة والهواجس وغيره من الافتراضات لا تعده سؤالا سياسيا، بل هو سؤال لا سياسي، ففي النهاية السياسة لديها هو ما يحدث بين البشر، ليس داخل العائلة أو الأطر القريبة، وليس ضمن ما نفكره بيننا وبين أنفسنا عن الآخرين، بل كيف نمارس هذه العلاقة مع الآخرين، وفي مسعاها إلى إبقاء السياسة على قيد الحياة دون التخلص منها لأنه سيودي إلى التخلص من حياتنا المشتركة تحاجج بأن في قلب تلك السياسة هنالك العالم وليس الإنسان بمعنى أن مركز تلك السياسة ليس الإنسان بل العالم الذي يجب علينا أن نحافظ عليه من خلال المحافظة على وجودنا المشترك، وهو السؤال الذي ينغص حياة حنة أرندت أي كيفية الإبقاء على السياسة حيّة باتجاه الفعل؟ وكيف نتيح مكان للفعل؟ عبر إتاحة مكان للاحتمالات مع كل فعل ما دمنا لا نستطيع أن نسد أيا منها بحيث كل فعل لديها بإمكانه أن يفجر طرق جديدة.

وتميز حنة أرندت ما بين الحكم وما تسميه التعصب أو الانحياز، حيث تعتقد بأن البشر لا بد لهم أن يكون لديهم بعض من التعصب أو الانحياز وهو ما يحتاج إلى قدرات فوق بشرية أو خارقة لتحقيق الانفلات منه، إلا أنها تحذر بذات الوقت في تحول تلك الانحيازات إلى أحكام وتحديداً التي مصدرها الماضي وليس الحاضر أو التجربة.

كما تشير إلى أن الحكم في الأمور السياسية لا يبنى على المعرفة ولا على أخلاق خارجية، وإنما على تفكير وانخراط في الحيز العام، وبما يقتضيه هذا الانخراط في الحفاظ على تعدد البشر.

وترى بأن أهمية الحرية تتمركز في المجال العام والسياسة فيما هو مشترك في العيش بيننا كبشر متساويين لا يَخضع أحدهم لأحد ولا يُخضع أحدهم الآخر، وهي حرية الفعل والقول، وكيفية القدرة في التعبير عن الرأي والمبادرة من خلال المساواة التي لا بدّ منها، وهذه المساواة والحرية هي في جدلية مستمرة مع فكرة السياسة وتشكل جوهرها الذي يقوم على الإقناع.

إذن تستخلص حنة أرندت نتيجة تشابكية لا يمكن تواجد إحدى عناصرها دون الأخرى أي لا وجود للفعل السياسي دون الحرية، ولا يوجد إمكانية لنقل الحرية من مجالها الاصطلاحي المجرد إلى الممارسة العملية والقولية دون ممارسة السياسة.  

 

يتبع في جزء الثاني..