وجاء في نص المقالة:
الفصل الثاني
تلك العلاقة التشابكية وبالانتقال إلى جورجيو أوغامبين يراها مستلبة وغائبة حيث تغيب الحرية مع بقائها مركزية للنظام السياسي وشرط من شروط وجود هذا النظام من خلال خلقه لمنظومة معسكرات الاعتقال متسائلا عن ماهيته وهيكله السياسي وأين تموضعه ضمن المنظومة السياسية، ليجيب بأن ظهور معسكر الاعتقال عبارة عن حالة استثنائية وكإجراء ناجع ووقائي لاحتجاز الأفراد، إلا أن الحالة الاستثنائية سرعان ما تصبح هي القاعدة، حيث يعلق القانون بشكل مؤقت وليصبح مرتبا زمنيا ومكانيا، وبهذا يحقق النظام السياسي ديمومة الاستثناء، وبذلك يحيل أوغامبين آلية فهم الفضاء السياسي للحداثة عبر البحث والفهم في السجن فهو الضابط ومنظم لضبط الحياة داخل النظام السياسي، فداخل السجن عمليا يتم نزع الوضع السياسي عن المعتقل وتحويل الحياة لأي كان ذات أو موضوع إلى حياة عارية، وهو أمر بنيوي في طبيعة تلك الأنظمة حيث تعبر عن عجزها في ممارسة السياسة وينصب عملها في كيفية التحول إلى أداة موت وابادة وصهر، والأهم أداة لنفي كامل للحرية عبر نفيها للسياسة وحصر فعلها ضمن مسمى السياسة الخاصة بممارساتها واعتبار الحرية حريتها كمنظومة والآخر أي من هم خارج المنظومة في حالة اباحة ضمن حياة عارية فحسب، والذي يحدث في علاقة هذه الحياة العارية مع سؤال الحرية لحيواتنا هو في أن نبدأ بالتساؤل في فطرة الإنسانية بحد ذاتها بهل نحتاج دائما للحرية وهل هي مطلب أبدي للكل باختلاف عمليا شروط هذه الحياة العارية أم يصبح هناك ما يسبق هذا المطلب وهل هناك ما يعطيها معنى أم هي أم المعاني وأهمها؟
رغم استفزازية سؤال أوغامبين المركب حول هذه النقطة إلا أنه سؤال واقعي يتنبه إليه أوغامبين في بنية الحياة للإنسان العاري واجابته تحاول أن تقدم نماذج وأمثلة فيها نفهم الحرية من وجهة نظره وكيف يتم ممارستها بشكل مختلف، وبالذات على الصعيد الجماعي وهو مقصد أوغامبين في سؤاله حول الحرية، فمثلا الذي يتعرض للتعذيب/توقف التعذيب هو الحرية، للجائعة/حصولها على الطعام، هذه الحالات التي تمثل حالات قصوى من الحياة العارية لدى أوغامبين حيث يبحث فيها الانسان عن حياة حقيقية في بادئ الأمر ومن ثم عن الحرية، بعد أن تصبح الحياة مضمونة بشروطها المادية الأساسية من الممكن في وقتها التقدم لطلب الحرية، وهو ما يحدث حقيقة في الحياة العارية بالنسبة لأوغامبين حيث تبدأ الحياة ليس من نقطة الحرية بل من نقطة حفظ الوجود بحد ذاته ضمن معسكر الاعتقال للمنظومة السياسية بعمومها وتشكيلها، حيث تسعى إلى ابعادنا عن السياسة وتحويل الصراع داخل المجموعة لصراع حول الحياة العارية، صراع على البقاء، ولا تتحقق هنا الحرية كشرط بيننا عندما تقابل النفي في السجن أو النفي في الفقر المتقع، حيث هذا النفي بحسب أوغامبين يجب أن نشاهده على أنه نفي للعلاقات الإنسانية وإلغاء لإمكانية تحقق السياسة، وخصوصا عندما تنفى المساواة لسبب فئوي أوعرقي أو اجتماعي أو طبقي والتي هي شرط أساسي وحاجة للحرية لأجل التفاوض بين بشر متعددين ومختلفين ولديهم طرق للحياة مختلفة، ومن أجل أن يكون هناك محاججة وصراعات تحل بالحجة وبالإقناع أو حتى بالتصويت بأشكاله المختلفة، وإن كانت في وجهة نظره هذه الحياة العارية التي تنفي السياسة وتنفي المساواة وتنفي الحرية بأساليب فجة ضمن الأنظمة الاستبدادية التي تسمى العالم الثالث والدول النامية إلا أنها ليست أفضل حالا ضمن المنظومة الرأسمالية في العموم وما يسمى دول العالم المتقدم حيث تصبح الحرية ضرب من ما يطلق عليه الحرية الإيجابية الموجهة لامتلاك المحيط أو العالم، وعمليا وبكلمات أخرى كنوع من الامتياز والسيادة على العالم والسيطرة على البيئة، والسيادة كما يراها أوغامبين هي عكس المساواة، فهناك أيضا لا تتحقق الحرية حيث هي شرط أبعد من الحاجة إلى الحرية، وعليه يرى أوغامبين بأن الحرية هي قطاع أوسط حيث تكتسب معناها بين الحياة العارية حيث تكون الحرية ليست مطلبا وبين الحياة الرأسمالية حيث الحرية لم تعد مطلبا لأنه يتم تجاوز الحالة المادية للتفاوض على ما نحتاجه وما نملكه وما نفكر به.
في مقابل هذين الطرحين يفند المفكر عبد الله أوجلان العلاقة بين الحرية والسياسة حين تناوله لها من نظرة أكثر شمولية تقترب إلى الكونية، وتتجاوز الواقع المادي والوضعي لدى أوغامبين من جهة والمركزية الأوروبية التي تحكم مقدمات أرندت من جهة أخرى، حيث يرى بأن السياسة كظاهرة اجتماعية تمثل حالة إشكالية عويصة على الإدراك، ليس بسبب طبيعتها في وجهة نظره بل بسبب التحريف الناشئ حولها وعليها بتمثلها بمصطلح إدارة المدينة والسلطة الملاصقين لها ضمن الفهم الإغريقي وهي المقدمة التي تنطلق منها أرندت في المحاججة القائمة لديها منذ عهد أفلاطون، مع العلم بأن الابتعاد عن السياسة وحصره بفئة نخبوية معينة وابعاد المجتمع عنها هي مشكلة بنيوية تتجاوز العهد الإغريقي الذي يشكل حلقة من حلقات تاريخ السلطة وعلاقتها بالسياسة والمجتمع، وهو ما ينطلق منه المفكر عبد الله أوجلان من خلال إعادة تاريخ الفعل السياسي لفترة ما قبل قيام المدنية حيث يراها مرافقة لفطرة الانسان ومجتمعيته الأولى وتشكل الحقبة الأطول من حقبات التاريخ ضمن اطارها الطبيعي وعليه يعتبر بأن الحديث عنها عندما يجري خارج اطار السلطة والذهنية القائمة عليها فبالإمكان الوصول إليها على أنها تحقيق تطور المجتمع من خلال إدارة شؤونه بحرية، وتأمين رقي الفردانية فيه ولا يمكن حصرها فقط بظاهرة الإدارة فحسب رغم احتوائها أياها، فالنظر إلى السياسة على أنها مساحة حرية المجتمع ومساحة الخلق التي يزداد فيها التطور معنى وإرادة هو أدنى إلى حقيقتها الجوهرية، ويحدث ذلك من خلال المطابقة بين السياسة والحرية بإدراك المجتمع لذاته وهويته فكرا وممارسة، وتطويره أياهما ودفاعه عنهما، وهو هنا عندما يتحدث عن العلاقة بين الحرية والسياسة والمجتمع لا يضع شأنا لتقسيم المجتمع إلى حيز عام وخاص كما تفعل أرندت بل يرى المجتمع وحدة متكاملة بدأت السياسة فيه منذ لحظة التنظيم الأول لمجتمعية الأفراد ضمنه مشمولا بما تسميه أرندت العائلة والصداقة التي تعتبرهما ضمن الشأن الخاص وخارج السياسة يراهما المفكر عبد الله أوجلان في صلب العمل السياسي حيث النظر إلى العائلة من اطارها البطريركي والتي تتبناه أرندت ضمنيا في تحليلها يراها عبد الله أوجلان على أنها عائلة لمجتمع كلاني متكامل وليس أحادي وضيق وبهذا لا يوجد لديه هذا الفصل اللاطبيعي التي تراه أرندت طبيعيا، وبينما ترى أرندت بأن السياسة خارج الفرد وخارج الخوض في طبيعة الانسان من ناحية الخير والشر وغيرها من المفاهيم، يرى عبدالله أوجلان بأنها تكمن في صلب تلك المصالح الحياتية للفرد والمجتمع باحثة بسلامته ورقيه بنية ومعنى ولا يمكن فصلها عن مفاهيمه المتشكلة واعتبارها بنية فوقية دون المعنى التي تحتويه، تلك الفكرة التي يربط فيها المفكر عبد الله أوجلان ما بين البنيوي والمعنوي تبدو ناقصة لدى أوغامبين الذي يهم إلى الفصل بين المنحيين محددا فضاء الحرية وممارسة السياسة بشرط تأمين شروط الحياة ما فوق العارية للبحث فيها ومحاججا بأن لا مجال لممارسة الفعل السياسي والحرية دون تلك الحياة ما فوق العارية، يراها عبد الله أوجلان قضية معرفية متراكمة إلا أنها لا تجاوب عن الفعل الحقيقي للحرية والسياسة دون ربطهما ديالكتيكيا أي لا يمكن أن نصل إلى حياة أوغامبين دون نضال السياسة لأجل الحرية ولا يمكن للحرية أن تصبح بنية ومعنى دون فعل سياسي نضالي، وبذلك يخرج عبدا الله أوجلان الإطاريين النظريين المفصولين عن بعضهما " الحرية – السياسة " والمتداخلين مع الحياة المشروطة لدى أوغامبين من المعتقل الذي يوصف فيه جورجيو الحداثة، إلى الفعل الجدلي وليس ضمن اطارهما القانوني الذي يستاء من انعدامه في ظل الحالة الاستثنائية التي يصفها أوغامبين ويرى فيها حلا ولو جزئيا، لأن القانون بحد ذاته هو أداة معنوية هامة للسلطة كما يراها المفكر عبدالله أوجلان وهو فخ يتجنب الخوض فيه كآلية للحل، بل عبر إعادة السياسة للمجتمع الطبيعي الصامد في وجه جميع المؤسسات السلطوية ومنها القانونية كالإدارة القبلية والقوى الديمقراطية المناهضة للهيمنة المركزية والمستمرة في وجودها منذ بدء انطلاقتها ضد نظام المدنية " السلطة " وقواها المهيمنة وناقلة عالم الحضارة الديمقراطية إلى يومنا الراهن، وبذلك يرى عبد الله أوجلان إمكانية للتشبيك بين سؤال الحرية والسياسة، تحديدا عندما تكتسب السياسة هوية السياسة الديمقراطية ببلوغها القدرة على الإدارة الذاتية بخروجها نهائيا عن عباءة السلطة وجميع مؤسساتها التي تنكر السياسة والحرية على حد سواء.