وربما يعزو هذا التوجه – الذي يأتي بعد نحو عقد من التوتر الذي وصل إلى حد التلاسن – إلى قناعات وزير المالية التركي الجديد محمد شيمشك الذي يرى أنه لا مفر من إنقاذ الاقتصاد التركي إلا من خلال علاقات قوية مع دول الخليج للاستفادة من استثمارات تلك الدول، في ظل أيضاً تراجع ثقة المستثمرين الغربيين في بيئة الاستثمار التركية، نتيجة سياسات "أردوغان" نفسه.
رجل التراجع عن المواقف
وتعليقا على مجريات الجولة الخليجية، يقول الكاتب والباحث السياسي في بلجيكا حسين عمر، لوكالة فرات للأنباء، إن أردوغان هو الشخصية الأولى بين كل حكام المنطقة – إذا لم نقل العالم – في التراجع عن مواقفه ولم يبقى على أي موقف تصعيدي اتخذه، بل تراجع، لا بل اعتذر في بعض الأحيان.
وأضاف: "ولهذا يمكن تقيم زيارته للسعودية والإمارات على انها تراجع مذل، كلنا يتذكر تهديداته لولي العهد السعودي وللإمارات، ولكنه تراجع في لحظة ما وبدأ يستجدي السعودية والإمارات بعد أن تأكد أن قطر لا تستطيع إنقاذ اقتصاد تركيا المتدهور وولي العهد السعودي أول من أراد ذلك الاستجداء لإنهاء قضية جمال خاشقجي والتي وعد حينها أردوغان بأنه لن يقبل إلا أن يسلم ولي العهد السعودي نفسه للمحكمة التركية لمقاضاته بجريمة قتل الصحفي السعودي".
ولفت حسين عمر إلى أن السعودية وضعت وديعة بقيمة 5 مليار دولار في الخزانة التركية، كما أن الإمارات أودعت 3.5 مليار قبيل الانتخابات الرئاسية، وتم عقد عدة اتفاقيات اقتصادية واستثمارية وخاصة في البنية التحتية، وهذا هو السبب الرئيسي للزيارة، تفعيل تلك الاتفاقيات والتوصل الى اتفاقيات جديدة.
لا أمل
وحول ما إذ كانت هذه الأمور من شانها إنقاذ الاقتصاد التركي، يقول الكاتب والباحث السياسي إنه لا يعتقد انها ستنقذ الاقتصاد المنهار، مضيفا: "علينا أن نعرف أن فورة تطور الاقتصاد التركي حصلت في فترة وقف إطلاق النار من قبل حزب العمال الكردستاني، ذلك ما سمح للمستثمرين الأجانب الاستثمار في تركيا، الآن تعاني تركيا من نزيف مستمر هناك حرب دائرة داخل وخارج حدودها وتكلفها الملايين من الدولارات يومياً ان لم نقل مليارات".
وتابع: "ولهذا فإن الاستثمارات السعودية والاماراتية سترتد إليهما بالفائدة من الناحية السياسة والاقتصادية، السياسية كبح جماح أردوغان في دعم جماعة الإخوان، وكذلك التقليل من نفوذها في سوريا والعراق، ومن الناحية الاقتصادية هناك عجز ضخم في الميزانية التركية لا يمكن ان تحل بالاستثمارات فقط، بل يلزمها خطط اقتصادية على مستوى البلاد ووقف الحروب الداخلية والخارجية، بغير ذلك سيبقى الاقتصاد التركي يعاني لسنوات عديدة حتى بعد أردوغان".
أزمة اقتصادية تعصف بتركيا
بدوره، يقول عماد المديفر الكاتب والباحث السعودي في الدبلوماسية العامة، لوكالة فرات للأنباء، إن التحركات التركية الأخيرة تجاه دول مجلس التعاون لدول الخليج العربي وتجاه أوروبا والغرب أيضاً يهيمن عليها الطابع المصالح الاقتصادية، خصوصاً أن الهدف الأساس من جولة الرئيس التركي في منطقتنا الغنية، هي إيجاد حلول للأزمة الاقتصادية التي تعصف بتركيا، وذلك من خلال استقطاب استثمارات من الدول الثلاث للبلاد.
وأوضح أن جولة أردوغان تأتي في خضم أزمة اقتصادية طاحنة تشهدها تركيا دفعت كثير من الاستثمارات بالخروج من البلاد البالغ تعداد سكانها 85 مليون نسمة، كما أنها تأتي بعد 5 أشهر على كارثة الزلزال التي أودت بحياة أكثر من 50 ألف شخ، وتسببت بدمار كبير في جنوب البلاد.
وقال المديفر: "اليوم نجد أن الرئيس التركي حريص على تحقيق مكاسب اقتصادية من هذه الجولة بعد فوزه في الانتخابات، لا سيما وأنه يعتقد أنه باستطاعت المملكة العربية السعودية تقديم الكثير لأنقرة لا سيما في مجالات الاستثمار والبنى التحتية والتبادل التجاري، ضمن إطار تعزيز المصالح الاقتصادية المشتركة والبينية".
عقد من التوتر
ولفت الكاتب السعودي إلى أنه لنحو عقد طبع التوتر علاقات تركيا مع جيرانها العرب وحتى ايضا غير العرب، واتسمت تلك العلاقة بالتقلب الشديد، لا سيما وأن تركيا تحتضن قيادات في جماعة الإخوا، التي تصنفها السعودية والإمارات تنظيماً إرهابياً، كما كانت تركيا والسعودية والإمارات على طرفي نقيض في عدد من النزاعات الإقليمية كسوريا وليبيا وغيرها من ملفات المنطقة.
وأعرب "المديفر" عن اعتقاده بأن الاقتصاد ليس هو الدافع الوحيد، بل إن المخاوف الأمنية الإقليمية ومناخ التطبيع الدبلوماسي أيضاً يدفعان أنقرة إلى إقامة علاقات أعمق مع دول الخليج في الفترة المقبلة، كما يبدو أن جولة أردوغان في المنطقة تأتي استكمالا للنهج الجديد في تبني سياسة تصفير المشاكل وهي السياسة التي تتبعها السعودية أيضاً والتركيز على الجانب الاقتصادي الداخلي.
وقال إنه ما من شك بأن هناك جدل دائر بين المحللين حول السياسة التركية وما حلّ بها بعد الربيع العربي، لأن مواقف تركيا وسياساتها تعارضت بجلاء مع رؤية الدول العربية، حيث لا يزال يتشكك البعض في نواياه وأنه لربما لا تزال لها أطماع توسعية تطمح من خلالها لإعادة ما يسمى بمشروع العثمانيين البائد تحت مسمى "العثمانية الجديدة"، وهي التي سعت خلال العقد الماضي على توظيف جماعة الاخوان ومريديهم والإسلام السياسي والمتاجرة بالقضية الفلسطينية ونحو ذلك بالمجمل واستخدامها كحصان طرواده.
الحاجة إلى الدعم المالي الإماراتي
بدوره يقول كمال أمين الوصال المستشار والخبير الاقتصادي بالإمارات إن زيارة الرئيس التركي إلى الإمارات تأتي فى إطار مرحلة جديدة من العلاقات الاقتصادية بين البلدين تستند إلى تعزيز المصالح الاقتصادية المشتركة، فالاقتصاد التركى فى حاجة إلى الدعم المالى الإماراتى متمثلا فى صورة استثمارات مباشرة واستثمارات غير مباشرة وتعزيزاً لمكانة تركيا السياحية فى الخليج.
وأضاف، في تصريحات لوكالة فرات للأنباء، أن الاقتصاد الإماراتى من جهته فى حاجة إلى الامكانات التكنولوجية التركية فى العديد من المجالات مثل الطاقة المتجددة وغيرها وخاصة فى ظل توجه الاقتصاد الإماراتى إلى تعزيز عملية التنويع الاقتصادي وتقليل الاعتماد على القطاع النفطي.
سوريا حاضرة
من جهته، يرى المحلل السياسي العراقي حازم العبيدي أن الرئيس التركي لديه كثير من الأهداف السياسية جراء التقارب مع دول الخليج، موضحاً، في تصريحات لوكالة فرات للأنباء، أن النظام التركي يخشى أن يكون التقارب الخليجي الإيراني على حساب موقع تركيا في خريطة التفاعلات التي تتشكل في الشرق الأوسط والتي أفرزتها تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، ولا يمانع كذلك تقديم أية تنازلات للخليج مقابل الدعم الاقتصادي.
وأضاف أن الأمر يرتبط كذلك بأن "أردوغان" ربما يريد تحييد الموقف الخليجي الذي كان – باستثناء قطر – رافضاً للاحتلال التركي لشمال سوريا والتدخلات الأخرى في الشان السوري، وبالتالي يكون لديه قدر من الحرية في تنفيذ مخططاته خصوصاً تلك التي تستهدف المكون الكردي، ليس في سوريا فقط بل في العراق كذلك.
وفي ختام تصريحاته، قال "العبيدي" إن الرئيس التركي يعرف جيداً أن دول الخليج تريد تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة والبحث عن بدائل مثل روسيا والصين، وأردوغان يقدم نفسه لهم على أنه يستطيع الوقوف معهم في نفس الخانة والابتعاد عن الحظيرة الأمريكية.