يتجسد جوهر تطور المجتمعات والشعوب في ذهنية وسلوكية وتفاعلات حركات الإصلاح والتغيير والتحول الديمقراطي والبناء، فليس هناك وجود لقوى أو ثورات أو حركات احتجاجية صافية أو نقية على الأغلب، حيث أن كل تحول أو تغيير أو ثورة هي في المجمل اتفاق وتحالف وحالة تكاملية ووحدة طوعية في مراحله الصعبة والحساسة على الأقل، كما أن القوى المضادة هي أيضا تتصرف وفق تجاربها وخبرتها في تشكيل تحالفات لضمان مصالحها وهيمنتها وانتصارها.
وعلينا ملاحظة هذا المبدأ في الرؤية أو المنظومة الفكرية، وكذلك في التفاعل الاجتماعي والأداء السياسي والاقتصادي المرافق، حيث أن التحالفات في بعدها السياسي تغدو واضحة وملموسة أكثر، فخصائص السياسية المرحلية وتطرقها للراهن الموجود، تسدل مزيد من الشفافية والوضوح على التحالفات والاتفاقات والعلاقات والسياقات المشتركة للعمل والنضال والبناء.
نستطيع القول أن التراكم المعرفي والنضالي وموروث ثقافة المقاومة الشعبية والتقاليد الديمقراطية والأخلاقية لمجتمعات وشعوب الشرق الأوسط والعالم، لحماية نفسها وللدفاع عن وجودها وكرامتها ونيلها حريتها والعيش بخصوصيتها واحترامها للأخر المختلف، مهد وساعد وبل مكّن للكثير من الحركات المجتمعية والانطلاقات الديمقراطية من أن تظهر وتقود جهود وكفاحات المجتمعات والشعوب التي تم استهدافها ومحاولات النيل منها لمصالح نظم الهيمنة والنهب والاستبداد. أما خيارات التبني الفكرية والسياسية لكل تيار أو حركة أو حزب أو تحالف وفق الظروف المحلية والوطنية والدولية، وهذا يرجع للقوى الفاعلة والشخصيات القيادية المؤثرة والتأثيرات المختلفة التي خضعت وتخضع لها بالإضافة للثقافة السياسية السائدة، ولكن الإشكالية في أي اتفاق أو تحالف بين مختلف القوى المجتمعية والديمقراطية وغيرها، تكمن في كيفية مأسسته ورسم ملامه على أرض الواقع والتنفيذ وليس في المفهوم النظري للاتفاق أو التحالف، مع ابتعاد الكثيرين عن القيم المجتمعية الأخلاقية والمصالح المتبادلة لشعوب الشرق الأوسط والسياسات التي تجسد ذلك.
تتفاعل المجتمعات والشعوب وتتأثر ببعضها بشكل طبيعي وتلقائي في كافة الظروف والمراحل وضمنها مراحل الاستقرار وكذلك مراحل التوتر ضمنها المراحل المفصلية والصعبة، ومن دواعي الطبيعة الاجتماعية أن تقوم القوى المجتمعية والديمقراطية وقياداتها الواعية الناضجة وحتى جمهورهم العريض بالتحرك المشترك ضمن إطار تحالفات محددة الرؤية والسياسة، وخاصة في المراحل التاريخية المهمة، كالتي نمر بها وبالأخص إذا كنا من الذين يعيشون تحت سقف الدولة المركزية الأحادية التي فرضت عليهم من قبل قوى الهيمنة العالمية.
حتمية العلاقات بين الكرد والعرب والترك والفرس من ضرورات الحياة الديمقراطية والحرة.
إن أهمية وحتمية التضامن والتعاون والتكاتف والعلاقات بين الأحزاب والطبقات والمجموعات الثقافية والسياسية والاقتصادية والمجتمعية العربية والتركية والفارسية من جهة والكرد من الجهة الأخرى أمر لا يقبل الجدل والنقاش فيه فهو من ضرورات الحياة الحرة والديمقراطية والاستقرار، ولكن النقاش والبحث يفضل أن يكون عن الهوة و الانقطاع الحاصل، وكذلك المخاوف الموجودة بين هذه الأمم والقوى المجتمعية، فلقد كان لقوى السلطة والتابعين للخارج وممارساتهم والفاقدين للإرادة الوطنية الحرة من العملاء والخونة المندسون داخل مجتمعات وشعوب المنطقة وكذلك في سياقات النضال والعمل والتحركات المشتركة أثرا سلبياً كبيراً. لأن مصالحهم تتضرر من أية تحالفات ديمقراطية أو اتفاقات جوهرية تأخذ مصالح شعوب ومجتمعات المنطقة بعين الاعتبار.
ونستطيع القول أن عدم تحمل بعض من الأطر و القوى والشخصيات التي تدعي أنها تركية وفارسية وعربية وغيرها لحركة التحرر الكردستانية وعلى رأسها الخط النضالي الكردي والديمقراطي بقيادة وريادة القائد عبدالله أوجلان وحزب العمال الكردستاني، واتهامها ونعتها بشكل متعمد وغير صحيح وتجريد ذاتهم منها رغم أن الجميع موجود في الساحة والإقليم والدول والمنطقة نفسها ويواجهون نفس التحديات المشتركة من التدخلات الخارجية وغياب الديمقراطية والمساواة، فبدون شك فأن هذا غير ممكن إلا إذا كان هذه الأطر أو المرء خانعاً وتابعاً ذليلاً لأيدولوجية الأمة النمطية الحاكمة الرسمية الدولتية وللسلطة الأحادية الاحتكارية الاستبدادية والهيمنة الخارجية، ومندساً بين صفوف الحركات والأحزاب والتيارات الثورية الديمقراطية واليسارية والقومية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر أو أن يكون الكيان والتنظيم حالة أداتية لسد الطريق أمام علاقات وتحالفات الشعب الكردي مع بقية شعوب المنطقة.
إن التحالفات بين الشعوب والأمم تكتسب فاعلية وتأثير أكبر في المناطق المختلطة ذات المجتمعات والشعوب المتعددة والمتنوعة، فالقدوم من أمم أو طبقات مختلفة تشكل قوة للتحالفات وليس ضعف، فالالتفاف والتشارك حول الأهداف الأساسية كالحرية والديمقراطية والعدالة في الحد الأدنى يتطلب اتفاقات وتحالف ديمقراطية استراتيجية بين القوى الديمقراطية والمجتمعية. وقد يتم التحالف والاتفاق الديمقراطي بين تنظيمات وتيارات وحركات وأحزاب مختلفة أو حتى ضمن التنظيم أو الحركة نفسها.
وعليه، فإن الفشل أو عدم القدرة على إبرام تحالفات ديمقراطية ومستدامة بين الحركات والتنظيمات والأحزاب والمؤسسات في تركيا وسوريا وإيران والعراق ومعظم دول الشرق الأوسط، له علاقة كبيرة بمساعي وجهود القوى السلطوية والدولتية والقوى المناهضة للديمقراطية والتشارك والأخوة، فالأيدولوجيات الشوفينية كالقوموية الضيقة والإسلاموية المتشددة والمركزية الإحتكارية، تكشف عن ذاتها في هيئة عدم التحول إلى قوة سياسية، أما مواقف العزل والاقصاء المتبعة حيال قضية الشعب الكردي وحلها الديمقراطي، فهي علي علاقة بتداعيات الثورة المضادة وسياسات فرق-تسد السلطوية.
لقد تبين جميع تلك الحقائق الموجودة بوضوح، أثناء انطلاقة سياقات النضال الحر الديمقراطي الكردي بقيادة القائد أوجلان وحزب العمال الكردستاني، حيث كشفت وتوضحت الهوية اللاوطنية واللاإنسانية لكافة العناصر المتسللة والتيارات والميول التي أصبحت بعيدة عن التحالفات والاتفاقات الديمقراطية وبل حاملة لمشاريع التدخل الخارجية التوسعية، فمثلا لا يمكن إيضاح مواقف بعض الأشخاص وقوى التي أدعت المعارضة في سوريا وتركيا وإيران من حقوق الشعب الكردي وكفاحه من أجل الحرية والديمقراطية ومن نظم الاستبداد القومية والإسلامية الموجودة وكذلك من نظام الهيمنة العالمية ومراكزها في الغرب والشرق، بالتدخلات الخارجية والقمع والاستبداد الداخلي فحسب، لأنه كان ومازال بإمكان تلك القوى أن تكون مبدئية وذات فعالية وممثلة لشعوبها وطموحاتهم في الحرية والديمقراطية والعدالة، وذلك فقط إذا كانت طرفا في نضال ومقاومة وكفاح الشعب الكردي في حرب الوجود والهوية الكردية، وذلك إذا امتلكت الشجاعة والإرادة لعقد تحالفات واتفاقات ديمقراطية مع قوى الحرية والديمقراطية للشعب الكردي.
لو تم التحرك مع حركة حرية كردستان ضمن سياق الحرب الشعبية الثورية لكان التحول الديمقراطي والإرادة الوطنية الحرة في مستويات أرقي في المنطقة
عملت حركة الحرية والديمقراطية للشعب الكردستاني منذ انطلاقتها في السبعينات وحتى اليوم، لإعادة تنظيم وتأهيل نفسها وقوى الشعوب والمجتمعات في الشرق الأوسط لتحقيق انعطافة كبيرة وثورة حقيقية في الشرق الأوسط لبناء كونفدرالية ديمقراطية لشعوب الشرق الأوسط، ولقد بذل الكثير من الجهود وعقد الكثير من اللقاءات والنقاشات والمؤتمرات، ولكن عندما يأتي الدور على الفعل والخطوات العملية، فإن الكثير من القوى في سوريا وتركيا وإيران والعراق والمنطقة عامة تدير وجهها لأوروبا والغرب عامة ولمنتوجاتها الفكرية والسياسية الاستشراقية، وهناك يتقاتلون على إفناء وتصفية بعضهم وذواتهم وبل محاولة مد تأثيراتهم السلبية على شعبنا وحركة حرية كردستان، ومن المعلوم أن تلك القوى التي أدعت أنها تريد التغيير والحرية والإصلاح، لو قبلت استراتيجية أخوة الشعوب والتحالفات الديمقراطية واستراتيجية الحرب الشعبية الثورية وعملت على تفعيل العلاقات والامكانيات ولو تم التحرك بخطوات تكتيكية مشتركة مع حركة حرية كردستان، لكان التحول الديمقراطي والتشارك ومساحة الحرية والإرادة الوطنية الحرة في تركيا وسوريا وإيران ودول المنطقة سيرتقي لمستويات أعلى بكثير.
ولو تموقعت تلك القوى التي أدارت وجهها للغرب وللدول الإقليمية المهيمنة في مكانها وموقها الصحيح وقبلت بالتحالفات الديمقراطية واستقرت في الأماكن الصحيحة لكانت ذات قوة وتأثير وفعالية كبيرة على الساحة السورية والإيرانية والتركية والشرق أوسطية عامة. وعلاوة على ذلك لو تحالفت مع قوى الحرية والديمقراطية للشعب الكردي، لأصبحت قوة كبيرة وريادية في حل القضية الوطنية الكردية وفي إنجاز التحول الديمقراطي في دولهم ودول المنطقة، وما كنا اليوم أمام الانفتاحات الزائفة والاحتلالات ومحاولات الضم والتقسيم ومشاريع العثمنة والشيعة القومية وتوسيع هيمنة إسرائيل. لكن التيار التصفوي والمندسين في التيارات العربية والتركية والفارسية والكردية أضاعوا هذه الفرص بشكل متعمد. من هنا يجب على القوى الديمقراطية والثورية والمجتمعية والتشاركية أن تراجع نفسها وأن يبحثوا في التاريخ وهذه الفرص الضائعة ومحاولة أخذ الدروس والعبر منها وتجاوزها الى التحالفات الديمقراطية الاستراتيجية.
ولكن من المهم أن نشير أن الكثير من الشخصيات والمجموعات وحتي التيارات والأحزاب الشجاعة والمنحدرة من التقاليد الديمقراطية والأصيلة للشعوب العربية والتركية والفارسية، والتي تعرف نفسها باليسارية والتقدمية والديمقراطية، قد أخذت الموقف الصحيح إلي جانب وداخل النضال الكردي والديمقراطي بقيادة القائد عبدالله أوجلان وحزب العمال الكردستاني على درب الهوية والحرية والديمقراطية وذلك بالاتفاق والاتحاد الديمقراطي، ويأتي كمال بير وحقي قرار وعزيز عرب، والكثير من المناضلين الأميين من شعوب العالم في مقدمة من نالوا مرتبة الشهادة ضمن صفوف النضال في كردستان، ملبيين متطلبات الصداقة والاتفاق والتحالف الديمقراطي لإيمانهم أن ثورة كردستان وحريتها وانتصارها هي ثورة وحرية وانتصار لشعوب الشرق الأوسط وطريق وصولها للحرية والديمقراطية والاستقرار الاستراتيجي والتنمية المستدامة.
لكنّ الغالبية الساحقة من القوى اليسارية والنخبوية، إما أنه كتم صوتها تحت ظلّ الهيمنة الأيديولوجية والعسكرية للفاشية التركية البيضاء أو البعثية القمعية أو الشيعة القومية، أو أنها صيّرت داعمة لتلك الهيمنة وأداة من أدواتها بوعي أو من دونه.
إلا إنّ هذا الموقف المساند للهيمنة والاستبداد لا يدلّ في جوهرة سوى على أنّ عناصر المجتمع التركيّ والعربي والفارسي المعاصر قد نسيت –أو تعاند في عدم إدراك– تلك العلاقة الاستراتيجية ذات الطابع التقليديّ. حيث سادت تلك العلاقة منذ زمن طويل في الكثير من المواقف التاريخية المشتركة والتي غيرت وجه المنطقة ومستقبلها كإحراز النصر التركيّ–الكرديّ المشترك في معركة ملازكرد التي دارت رحاها في سنة 1071 ضد الإمبراطورية البيزنطية وكذلك إحراز النصر العربي-الكردي في معركة حطين وتحرير بيت المقدس . إضافة إلى أنّ هذه الوقفات تدلّ على إنكار تلك العناصر بأنّ أحجار الزاوية الأساسية التاريخية في حياة الاقتدار المشترك وفي الحياة الاجتماعية المشتركة مرصوفةٌ على العلاقات القائمة بين الأناضول وميزوبوتاميا وبين الشعب الكردي وشعوب المنطقة من العرب والفرس ومنختلف القوميات والتكوينات الأخرى الدينية والأثنية.
التركياتية والبعثية القوموية والشيعة القومية لا علاقة لهم بثقافة المجتمعات التركية والعربية والفارسية
إن ابتداء التاريخ بالمجازر وبالإبادة الكردية الحاصلة في عام 1925 من قبل العقلية الدولتية والسلطوية والنهبية لعناصر الحداثة التركية البيضاء، وكذلك بدئها بالدولة القومية العربية وسياساتها الاقصائية والانكارية في سوريا والعراق والمنطقة وبولاية الفقيه والشيعة القومية ومنع الكرد وشعوب إيران من إدارة وحماية مناطقهم في إيران واعدامهم بشكل عشوائي، يتأتى من إنشاء تلك العناصر وعياً تاريخياً ومجتمعياً مشحوناً بالزيف والرياء والإنكار والكذب. وبنفس السياق، فلجوء أصحاب أطروحة الإسلام السياسي التركيّ والعربي والفارسي خلال العهود القديمة والحديثة إلى إقصاء الكردايتية ومحاولة تصفيتها و صهرها وذوبانها، إنما ينبع من جنون عظمة الأمة والأخوّة الإسلامية الزائفة المتأثرة بمفهوم الإبادة عينه والبعيدة عن جوهر الإسلام وقيمه الأخلاقية التشاركية. في حين إنّ الوعي المجتمعيّ والتاريخيّ الصحيح يبين أنّه ثمة شراكةٌ عميقةٌ وعلاقاتٌ تنضح بالحرية والمساواة بين ثقافات الأناضول وميزوبوتاميا بوجه عام وبين كردستان وبلاد العرب ومصر القديمة ضمن الحضارة الإسلامية وقبلها في اتفاقية قادش التاريخية الدبلوماسية بين الكرد والمصريين، وبين الثقافات الاجتماعية التركية والكردية والعربية؛ وأنّ تلك العلاقات مفعمةٌ بالمعاني الحياتيّة والاستراتيجيّة النبيلة.
تتشاطر أيديولوجية التركياتية والبعثية القوموية وولاية الفقيه وعياً تاريخياً ومجتمعياً مشتركاً مماثلا مع جميع العناصر اليمينية واليسارية والمحورية المركزية. حيث تؤمن جميعها بالتجانس القسري وبنمطية التركياتية والعروبة المصطنعة والشيعة القومية والوعي التاريخيّ والمجتمعيّ كرأي مقدس لا يحتمل التغيير. كما أنشأت أيديولوجية يطغى عليها الرياء والإنكار، بتحويلها المفهوم التقليديّ للأمة إلى مفهوم القوموية العلمانية وتركيبة الإسلام السياسي السلطوي التركيّ والفارسي والعربي الجديدة نسبيّا، وبإحلالها إياهما محلّه.
وتشكّل التركياتية والعروبة القوموية والشيعة القومية أمم نمطية وإقليمية منذ البداية ضمن الأيدلوجية الدولتية الرسمية العصرية. وانجرّت دوماً وراء الاستفراد بالسلطة وبالسيطرة على المجتمعات والشعوب، دون الاعتماد على أيّ تحالف ديمقراطي أو اتفاق مشترك. وطالما حكمته لعهود وعقود مديدة. أما نتيجتها فهو الفشل وبنيتها الاجتماعية، فهي كلٌّ كاملٌ لا يتجزأ. وهو المجتمع النقيّ عرقياً. أما في واقع الأمر، فإنّ هذه الأيديولوجية التي شكّلها المنظّرون الغربيون وبالأخصّ الصهاينة اليهود منهم– تحت اسم تركيا الفتاة والحركات القوموية العربية الضيقة والشيعة القومية لا علاقة لها بثقافات المجتمعات التركيّة والعربية والايرانية، أو أنها لم تتّخذ أساساً فيها من حيث كونها واقعاً تاريخياً واجتماعياً. أي إنها نمطٌ تعبيريٌّ ميثولوجيّ مصطنع.
أن ما أنشئ تحت قناع التركياتية والعروبة المصطنعة والشيعة القومية كان ديكتاتورية طبقية صارمة، أو بالأحرى احتكاراً حداثويّاً علي الشعوب التي يدعون تمثليها وعلى الشعوب الأخرى التي يستهدفونها. فقد خطّطت وأنشئت كنموذج بدئيّ مصغّر لإسرائيل أو مساهم كبير لها وتعزيز لها. وعليه، لعبت دورا مهيمنا على الثقافات والأثنيات المجتمعية الأخرى المتكونة في الظروف المعاصرة والمتعرضة للإقصاء تحت ظلّها. أي أنّ موضوع الحديث هنا هو تكامل كيان إنكاريّ ومشوّه ومصهور قابع تحت الهيمنة الأيديولوجية والعسكرية على السواء. بالتالي، وبدلا من سيادة حقيقة وعي التاريخ والمجتمع، فإنّ كافة الأفكار اليمينية واليسارية والمحورية المركزية، التي نالت نصيبها من أيديولوجية الإنكار والصهر والإبادة تلك، لا تتلكأ أو تتردد في لعب أو مشاطرة نفس الدور الشوفينيّ الأحاديّ النظرة، والمغرور بنفسه، والمقصي للآخرين. والأنكى من كلّ ذلك، أنه من بالغ العسر البقاء خارج دائرة نفوذه، نظراً لارتقائه إلى مستوى الأيديولوجيا الرسمية، ولفرض تلقينه على الجميع قسرا، بدءا من دور الحضانة وحتى المستوى الأكاديميّ. زد على ذلك مدى مشقة عدم تشاطره بعد تصييره شرطا أوليا للتحول إلى موظف دولة، أو للعثور على فرصة عمل، أو لاستلام قرض ماليّ؛ وباختصار، للقبول به كعنصر نافع في أروقة الدولة وضمن قطب الطبقة الحاكمة. ويتسبب ذاك الواقع المشاد في بقاء القوى المعارضة للنظام القائم وحيدة معزولة، وفي عجزها عن إبرام علاقات الصداقة والاتفاقيات اللازمة.
الوعي التاريخي ضروري لأجل عقد التحالفات وبناء العلاقات
إنّ الوعي التاريخيّ والاجتماعيّ الصحيح هو ما يلزم أولا لأجل تطوير صداقات قيّمة وعقد اتفاقات ذات اعتبار؛ ليس بين قوى الحرية والديمقراطية الكردية والتركية والعربية والفارسية فحسب، بل وبين القوى الشعبية والمجتمعية الاجتماعية قاطبة. ومن دون صياغة تعريف سليم للعلاقات المتبادلة بين الثقافات على مرّ التاريخ، فمن الصعوبة تطوير علاقات وتحالفات عادلة ومتساوية وحرة في راهننا، أو سنّ دستور ديمقراطيّ كتعبير ملموس عن تلك العلاقات والتحالفات. وما هو ضروريٌّ لأجل ذلك هو أن تتخلى الحداثة التركية والعروبة القومية والشيعة القومية عن الذهنية الفاشية أحادية الطابع، والتي تنكر التاريخ التركيّ والعربي والفارسي قبل الكردي بقدر إنكارها لوجود القيم الثقافية الأخرى؛ وأن تقبل ببنية المجتمع ذات التعددية الثقافية، وبتاريخه الغنيّ. أما القوى الاجتماعية التي تتقاطع مصالحها في العيش المشترك بصداقة وودّ وتآخ ضمن نفس الحدود السياسية بأقلّ تقدير، فإنّ احترامها المتبادل لوقائعها التاريخية والاجتماعية، واعترافها ببعضها بعضا على أساس المساواة والحرية؛ سيغدو أرضية متينة للصداقة والتحالفات طويلة الأمد والحصينة، بقدر ما يعدّ أساسا لاتحاد قواها وممارساتها المرحلية، ويشكّل صلب تشييدها يدا بيد صرح نظام دستوريّ ديمقراطيّ.
النظام الاشتراكيّ عمل أساسا بالسياسات المنفعية والانتفاعية للدول القومية الرأسمالية ولكن حركة حرية كردستان لم تنزلق نحو القوموية
عملت حركة حرية كردستان بقيادة القائد عبدالله أوجلان وحزب العمال الكردستاني، لإخراج القضية الكردية من كونها ورقة ضغط ومشكلة مقتصرة على دائرة الهيمنة العالمية الرأسماليّة، ولتحويلها إلى جزء من النظام الاشتراكي والتشاركي ومسار التحول الديمقراطي في دول المنطقة. ونشر موقفه الأيديولوجيّ هذا في الساحة الدولية بعد عام 1980. وعقد علاقاته مع مختلف القوى اليسارية ومنها الاتحاد السوفييتيّ الذي كان ممثل النظام الاشتراكيّ آنذاك. وطوّر علاقات مماثلة مع الأحزاب الاشتراكية في أوروبا. لكنّ هذه العلاقات لم ترتق إلى المستوى المأمول، ولم تذهب أبعد من تلبية الأهداف التكتيكية والمنفعية؛ بسبب التحريفات والتضليل الذي وجد فيها. كما ساد العجز عن تخطي المقاربات المصلحية للدولتية القومية. أي أنّ النظام الاشتراكيّ حينها عمل أساسا بالسياسات المنفعية والانتفاعية للدول القومية الرأسمالية. وقد تسبب هذا المفهوم، الذي طغى منذ البداية على النظام القائم، بالقضاء على المكاسب الاشتراكية. كما أعاق أيضا التطور البديل المتمثل في العلاقات الأممية، فصيّرها أداة لخدمة المصالح المهيمنة.
مع ذلك، يتميز تحرك حركة حرية كردستان كحزب وسياق نضالي شرق أوسطي وأمميّ حقيقيّ بعظيم الأهمية. إذ تتجسد ثمار التزامه بالشرق الأوسطية وبالأممية في شحنه الحركة الكردية بالمحتوى الديمقراطيّ والتشاركي، وربطها باستراتيجية الحرب الشعبية طويلة الأمد، وجعلها شهيرة على الصعيد العالميّ، وتهيئتها للعيش المشترك المفعم بالمساواة والحرية مع الشعوب المجاورة وفي مقدمتها الشعب التركيّ والعربي والفارسي. أما نجاحه في الثبات صامدا خلال فترة انهيار النظام الاشتراكيّ، فهو دليلٌ على ارتباطه بالتشاركية الصحيحة وبصلب الاشتراكية العلمية وتطويره لذاته بشكلاً دائم.
حيث لم تنزلق حركة حرية كردستان نحو القوموية الضيقة مثلما حصل لحركات التحرر الوطنيّ الأخرى. بل عرف كيف يتخطى الغموض الأيديولوجيّ الذي كان يحيط به في البداية. وخاض كفاحا موفّقا ضد عنصري الدولتية القومية والصناعوية الكائنين في الحداثة الرأسمالية. وبتحقيق تحوّله الذاتيّ، لعب حركة حرية كردستان دورا مهما في تطوير براديغما العصرانية الديمقراطية كبديل للحداثة الرأسمالية، وفي خطّ الحدود الفاصلة بينه وبين مناهج الحداثة الأخرى. وعليه أصبح من أحد أهم الفاعليين في الشرق الأوسط وصاحب مشروع الأمة الديمقراطية بديل للدولة القومية التي أنتجتها الرأسمالية العالمية.
الشرق الأوسط يتحلى بدور استراتيجي وأوروبا بدور تكتيكي
تتسم تحالفات وعلاقات حركة حرية كردستان في الشرق الأوسط وأوروبا و أفريقيا وأمريكا اللاتينية وروسيا والمناطق الأخرى بالأهمية، باعتباره قوة سياسية. ويعزى تفضيله التخندق في أشدّ مناطق الشرق الأوسط غليانا بعد عام 1980 وحتى الأن إلى خصائصه الثورية والديمقراطية والتشاركية واستقلالية ارادته. فالشرق الأوسط كانت ومازالت تتحلى بدور استراتيجيّ مهمّ من ناحية عدم انقطاعه عن النضال الثوريّ والمجتمعي لأجل الحرية والديمقراطية ومركزية الشرق الأوسط وشعوبها في الحضارة الإنسانية والمدنية. في حين ظلّ دور أوروبا ومازال منحصراً في المستوى التكتيكيّ.
لقد كانت هذه مقاربة سليمة تشكّل جوهر التحالف مع حركات التحرر الوطنيّ والتنظيمات السياسية، التي كانت تعدّ في نفس الوقت ديناميكية مهمة في عصرها. فتطوير العلاقات التحررية الوطنية على خطّ سوريا ولبنان وفلسطين وإسرائيل ومصر ودول الخليج كان يعني عقد العلاقة مع أكثر الحقائق السياسية غليانا وحيوية واتساعا في العالم. أما التطورات المنجزة خلال حوالي العقود الثلاثة من الزمن بالتأسيس على هذه العلاقة، فلم تقتصر على التعريف بحركة الهوية والحرية الكردية إقليميا فحسب، بل وعرّفت العالم أيضا بها، وارتقت بها إلى منزلة استراتيجية. علما أنّ هذه العلاقات لا تزال تصون مضمونها حتى اليوم وبل تطورت في شمال وشرق سوريا لمشروع الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية كأحد نماذج الحماية والادارة والحل الديمقراطي لقضايا الشعوب والمجتمعات في الشرق الأوسط والعالم.
تنسج العلاقات بين الدول وقوى السلطة وفق ديناميكية حركة حرية كردستان
أدت التطورات التي تمخض عنها نضال حركة حرية كردستان وعلاقاتها، الذي ناهضته إسرائيل في البداية، إلى توجّها نحو اتّباع سياسات ودية مع القطب المناوئ لحليفتها الاستراتيجيّة تركيا. إلا إنّ العلاقات الراهنة بين روسيا وإيران وتركيا وسوريا والعراق ولبنان وفلسطين و كأحد الأمثلة مسار آستانا إضافة إلى العلاقات التي تتطور بين السعودية والدول العربية مع إيران برعاية الصين، قد يمهد السبيل أمام نتائج أشدّ وطأة مما عليه خطر حركة حرية كردستان بالنسبة إلى إسرائيل. وهذا ما يبرهن مدى كون حركة حرية كردستان قوة ديناميكية مهمة. وعليه مهما كانت جميع تلك القوى في وضع معاد لبعضها بعضا، إلا إنّ العلاقات فيما بينها توجّه في نهاية المطاف من قبل ديناميكية حركة حرية كردستان والشعب الكردي وتحالفاته وعلاقاته مع شعوب المنطقة. هذا وتسري الدينامية عينها ضمن إطار العلاقات الثلاثية (بين تركيا والعراق وأمريكا)، ويمكننا التأكيد أنه ما كان لهذه العلاقات أن تتطور بهذا الشكل، لولا دينامية حركة حرية كردستان وعلاقاتها التكتيكية مع الدول والاستراتيجية مع المجتمعات والشعوب والقوى الديمقراطية.
بمعنى آخر، فتلك العلاقات تدين بوجودها إلى الحراك الدبلوماسيّ الذي يعمل على نسجه حول حركة حرية كردستان وتفاعلاتها. فالمضمون الثوريّ والديمقراطيّ والتشاركي والحر المتواجد في حركة حرية كردستان هو الذي يدفع بقوى السلطة تلك إلى هكذا نوع من الاستقطابات أي أن مشروع القائد أوجلان وفكره وأرائه تجعل الكثير من القوى السلطوية والدولتية في حالة استقطاب لسد الطريق أمام الانطلاقات الديمقراطية والمجتمعية الحرة.
الأمر كذلك بالنسبة لعلاقات تركيا مع أوروبا والناتو وأمريكا أيضا. فما آل بتركيا اليوم إلى المفاوضات والتناقضات معاً مع الاتحاد الأوروبيّ والناتو وأمريكا والغرب عموماً، هو المستجدات الحاصلة على خلفية القضية الكردية ونضال حركة حرية كردستان ومكتسبات النضال الديمقراطي الكردي وتوسيع الناتو شرقاً وضم السويد وفنلندا. وإذ كانت مقاربة البلدان الأوروبية –وعلى رأسها ألمانيا– مع حركة حرية كردستان إيجابية في البداية. وذلك بغية احتوائه وصهره في بوتقتها بأساليب القوة الناعمة، وقد استمرّ شكل العلاقة هذا مدة طويلة. إلا إنّ إصرار حركة حرية كردستان على استقلاليتها والبقاء أحرار في الشرق الأوسط قد أسفر عن تغيير تلك البلدان لأساليبها. حيث لجأت حكوماتها الواحدة تلو الأخرى إلى إقصاء حركة حرية كردستان وإعلانه "إرهابيا"، ثم تلاها إعلان وتطبيق ذلك باسم الاتحاد الأوروبيّ.
كان الهدف هنا هو عرقلة الحلّ الديمقراطي للقضية الكردية. ففرضت عوضا عنه "الحقوق والحريات الفردية" المؤطّرة بحقوق الإنسان. وهكذا سلكت موقفا ازدواجياً، وكأنّ الحقوق الفردية المنفصلة عن الحقوق الاجتماعية العامة أمرٌ ممكن. لقد كانت ترمي بهذا الأسلوب إلى ربط كلا الطرفين حركة حرية كردستان وتركيا، بذاتها في سياق عقد الصفقات مع هذه الأخيرة.
إن مخطط تصفية الكرد وحركة حرية كردستان هذا، والذي أعدّه الاتحاد الأوروبيّ ونفّذه بمهارة عليا، ونفّذ بسرية تامة وعمق أكبر. كما عقدت، ولا تزال تعقد صفقاتٌ مهمةٌ مع تركيا والسطات الحالية وحزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية التركية. لذا، فهو بالنسبة للعلاقات الكردية–التركية يعادل في أهميته ما كانت عليه معاهدة سايكس بيكو ولوزان.
ومن ثمار تلك اللقاءات الخفية الماكرة والخبيثة هي محاولات تركيا في البحث عن حلول لا حضور فيها للكرد أو لـحركة حرية كردستان، بل تقتصر على الإرغامات أحادية الجانب التي تسمى بحقوق الإنسان والديمقراطية. لكن، ونظرا لعدم التمكن من تصفية حركة حرية كردستان فإنّ تلك اللقاءات تحوّلت إلى لقاءات روتينية ورتيبة جوفاء. وجرّبت ألاعيبٌ شبيهةٌ بتلك التي مورست إبان الحرب العالمية الأولى بحقّ الكرد وبحقّ الاشتراكيين الأتراك والإسلاميين القومويين. وبعد أن ضمنت مصالحها، لم تقتصر على غضّ النظر عن الإبادة الجماعية المرتكبة بحقّ الكرد، بل وقدّمت دعمها اللامحدود إلى الفاشية التركية البيضاء تحت اسم الحداثوية العلمانية. وقد مورست نفس تلك الألاعيب على الروم والأرمن والسّريان أيضا، فأدّت إلى تصفيتهم والقضاء عليهم.
لقد أدت الولايات المتحدة الأمريكية، كقوة أولى بامتياز في حركة غلاديو الناتو، دورا فعالا منذ البداية؛ سواء في دعم ومساندة انقلاب 12 أيلول الفاشيّ وتصفية جميع القوى الديمقراطية والاشتراكية والمجتمعية، أم في القضاء على حركة حرية كردستان، كما دعمت كلّ العمليات العسكرية الحاصلة بعد عام 1984 بهدف الإبادة. وطبّقت العزلة الدبلوماسيّة والسياسية ومازالت على القائد أوجلان ونضال الحرية والديمقراطي الكردي. وسخّرت كلّ الناتو ونظام الاشتراكية المنهار للقضاء على القائد عبد الله أوجلان كأوسع عمليات الغلاديو نطاقا. ودفعت بتركيا إلى الهجوم على سوريا. أما إسرائيل، فكانت بالأصل القوة التي أعدّت هذه السياسة وزاولتها بكلّ براعة.
لقد قاومت سوريا مدة تجاه حركات التصفية المندرجة في هذا الإطار. لكنها لم تتخلّف، هي وروسيا، في آخر المطاف عن الوفاق مع النظام السائد حصيلة بعض الاتفاقيات السرّية وفق مصالح الدولة القومية. لكنّ ما ثبت صحته بكلّ علانية ضمن سياق التصفية ذاك، هو أنّ الهيمنة المعيّنة هنا هي نظام الحداثة الرأسمالية بالزعامة الأمريكية والبريطانية.
أفكار وأراء القائد أوجلان تحقق التحالفات الديمقراطية بين الشعوب لمواجهة التحديات
بالرغم من كلّ التحديات والهجمات وحتى الأسلحة الكيميائية و التصفيات الشاملة التي تعرض لها حركة حرية كردستان داخليا وخارجيا ومازالت، إلا إنها عرفت وبفضل مقاومة ومقترحات وأراء المفكر والقائد عبدالله أوجلان، كيف تتكيّف نفسها مع الشروط والظروف، وتحقّق التحولات اللازمة بكلّ إبداع وذكاء وحرفية في الذهن والسلوك والوقفة والسياسة وتذهب لتجديد وبناء علاقاتها وبناء التحالفات الديمقراطية مع شعوب ومجتمعات المنطقة وقواها الديمقراطية والمجتمعية، كسبيل لمواجهة التحديات وعن طريق بديلها في العصرانية الديمقراطية أوالكونفدرالية الديمقراطية والأمة الديمقراطية والإدارة الذاتية، تمكّنت من عرض وقفتها في وجه الحداثة الرأسمالية كنظام عالمي مهيمن وأداتها الدولة القومية، كما واظبت على أداء دورها كفاعل متقدم مؤثر في تحقيق التحول لديمقراطي في الشرق الأوسط.