"المخلب - القفل" هذه هي اسم أخر عملية عسكرية أطلقتها تركيا لاستهداف الكرد ومقاتلي حزب العمال الكردستاني في شمالي العراق والتوسع واحتلال مزيد من المناطق. وهو ما يتزامن مع قصف تركي متكرر لمناطق عدة في إقليم كردستان العراق، وهذه خطوة من الخطوات التى يُسابق بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الزمن من أجل تنفيذ سياسة بلاده الخارجية بتحويل البوصلة من الغرب نحو الشرق بعد فشل أنقرة بالحصول على مكاسب من وراء سعيها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي ابتداءً من استغلال قضايا العمالة التركية في دول الاتحاد والضغط عليهم بملف الهجرة من اللاجئين السوريين وغيرهم من القوميات المختلفة، فهو لا يدخر جهداً من أجل تنفيذ سياسة التواجد شرقاً وتحقيق أحلامه التوسعية مستغلاً الوضع الحالي وانشغال العالم بأزمة الحرب الروسية الأوكرانية وحالة المخاض العالمي وتصارع القوى الكبرى على تغيرات جيوسياسية عالمية حيث يواصل أردوغان أطماعه في الشرق الأوسط بشكل استفزازي وما العمليات العسكرية في شمال العراق إلا واحدة من مغامراته في المنطقة بزعم استهداف عناصر حزب العمال الكردستاني تحت حجة الأمن القومي التركي.
لماذا تستهدف تركيا احتلال العراق
دائما ما يتخذ أردوغان العديد من الحجج الواهية من أجل إضفاء الشرعية على تدخلاته السافرة في البلدان المجاورة من أجل محاصرة الكرد والقضاء على قضيتهم الإنسانية العادلة، والتدخل التركي في الشأن العراقي بدعوى ملاحقة الكرد وحزب العمال الكردستاني هو صورة واضحة الأبعاد من أجل تحقيق هذا الهدف فالمبررات والمزاعم الأردوغانية حاضرة بدعوى مقاومة الكرد وحماية الأمن القومي التركي.
فعلى مدى الأعوام الماضية لم ينفك الجيش التركي أن يستخدم كل أنواع الأسلحة بما فيها الطائرات الحربية أو المسيرة والمدفعية والقوات البرية والأسلحة المحظورة في مطاردة المدنيين ومقاتلي حزب العمال الكردستاني المنتشرين في الجبال الحدودية بين البلدين، و كذلك استهداف القوات الإيزيدية في منطقة سنجار شمالي غربي الموصل عند الحدود العراقية السورية، إلا أن الاستهدافات الأخيرة فتح باب التساؤلات بشأن ماهية الاتفاقيات الأمنية أو مذكرات التفاهم التي تسمح من خلالها بغداد لأنقرة بالتدخل عسكرياً في عمق الأراضي العراقية من عدمه وخصوصاً بعد عملية مايسمى "قفل المخلب" ..
ما هي الأسانيد القانونية التي تدعيها لتركيا للتواغل في الأراضي العراقية؟
تصاعد الجدل داخل العراق بشأن المسوغ القانوني الذي تتذرع به تركيا للتوغل داخل الأراضي العراقية بحجة استهداف حزب العمال الكردستاني في ظل رفض المسؤولين الأتراك ما يعدونه اتهامات جائرة، ولكن بنظرة بسيطة نجد أن تركيا تتشدق بالعديد من الاتفاقيات التي وقعتها مع الجانب العراقى على مر العصور، فهى تشير إلى أن في عهد الرئيس العراقى "الأسبق صدام حسين" وقع وزير خارجيته آنذاك "طارق عزيز" مع نظيره التركي عام 1984 محضراً رسمياً يسمح للقوات التركية بدخول أراضي العراق مسافة لا تتجاوز خمسة كيلومترات كما أن المحضر الموقع كان محدداً بعام واحد فقط؛ أي ينتهي مفعوله عام 1985 وبحسب القانون العراقي ونص المادة الـ17 منه لا يمكن اعتبار المحاضر اتفاقيات كما يمكن للعراق إبطال مفعولها من خلال رفع مذكرة من جانب وزارة الخارجية العراقية والوزارات الأمنية إلى مجلس الأمن الدولي، ولكن تركيا استغلت هذه المذكرة وأطلقت لقواتها العنان في استباحة الأراضى العراقية مستغلة في ذلك الأوضاع الأمنية المتردية في العراق بعد الغزو الأمريكي لها وتواطؤ بعض الجهات الكردية العراقية معها، وما تبعه من توطين للجماعات الإرهابية الموالية لها، وحتى أن تركيا تستغل هذا الوضع واعتمدت تركيا على المادة الـ51 من ميثاق الأمم المتحدة والتي تنص على أن الدولة التي تتعرض لاعتداء عبر حدود دولة جارة تسمح للدولة المهدد أمنها القومي بالدخول للدولة الأخرى وخصوصا التي لا تستطيع ضبط أمنها إلا أنه كان على تركيا إعلام مجلس الأمن الدولي بالأمر وهو ما لم يحدث لذلك حتى التذرع بالمادة الـ51 فهو غير مقبول.
لم تكتف تركيا بذلك فقد ذهبت إلى أبعد من ذلك عندما زعمت أن عملياتها العسكرية الدائمة شمالي العراق يُعزى إلى "اتفاقية أنقرة" التي وقعتها مع بريطانيا والمملكة العراقية عام 1926 لتسوية نزاعها معهما بشأن السيادة على ولاية الموصل شمالي العراق إذ قضت بتبعية الموصل للعراق على أن تحصل تركيا على امتيازات بينها نسبة من عائدات "نفطها مدة ربع قرن " ورسمت الحدود بين البلدين، لكن أنقرة تدعى أن هذه المعاهدة تتضمن بنداً أساسياً لمكافحة تهديدات أمنها القومي القادمة من شمالي العراق وهو ما دفع الساسة الأتراك الترويج له إعلامياً بصورة متكررة حتى يرسخ في الأذهان شرعية التدخل العسكري في شمالي العراق من أجل منع أي تهديدات لأمن بلادهم القومي القادمة من هناك وفق تعبيرهم، و في هذه الحالة يُعد التقصير ناتجاً من الحكومات العراقية المتعاقبة، إذ لو أرادت لكان في إمكانها اللجوء إلى محكمة العدل الدولية من أجل منع دخول تركيا أراضي العراق والقيام بمزيد من الإجراءات الدولية القانونية والدبلوماسية وكذلك المحلية على أرض الواقع.
من جهتها طالبت "الرئاسة العراقية" و "مجلس النواب العراقي" مرات عديدة تركيا بتقديم اعتذار رسمي وسحب قواتها العسكرية من جميع الأراضي العراقية بينما حاول وزير الدفاع التركي" خلوصي آكار" السابق حينها والوزير الحالي والمسؤلين الاتراك باتهام قوى داخلية عراقية بأنها تدعم حزب العمال الكردستاني في عملياته ضد تركيا واستخدام الساحة العراقية من أجل إرسال رسائل إلى تركيا وأن عملياتهم ستستمر.
ماهي ملامح خريطة القواعد التركية في الأراضي العراقية؟
من أجل تطويق تركيا للكرد في العراق وسوريا وتركيا وإيران وثم التمدد والتوسع والضم، تحتفظ تركيا بحوالي ٤٠ قاعدة وفق لما نشرته الرئاسة التركية قبل حوالي سنة ونصف والتي حذفتها بعد ساعة من موقعها الرسمي، ولكن هناك حوالي مئة قاعدة عسكرية وموقع موجودة بالفعل في شمالي العراق وفقاً لكثير من البيانات والتصريحات العراقية الرسمية والمحلية والكردية، فيما تسعى أنقرة لإقامة المزيد منها بمبرر حربها ضد المقاتلين الكرد، وتمتد مناطق انتشار القواعد التركية في إقليم كردستان العراق على طول الحدود وذلك بدءاً من معبر "خابور" وصولاً إلى منطقة "صوران" وغالبيتها في مناطق سيطرة حزب الديمقراطي الكردستاني، ولأن أردوغان رجل برجماتى والسلطة التركية لها علاقتها القوية في الموصل وفق الكثيرين، فقد استغل أردوغان ظهور تنظيم داعش الإرهابى في هذه المنطقة عام 2014 حتى شرع في إنشأ قواعد في "بعشيقة وصوران وقلعة جولان" إلى جانب قواعدها في أربيل ودهوك، بما يشمل ذلك المقرات العسكرية القريبة من الجبال والمناطق الوعرة، أما قاعدة "زيليكان " في بعشيقة والموجودة في مناطق سيطرة حكومة بغداد، فكانت نتاج اتفاق الحكومة التركية مع حكومة رئيس الوزراء العراقي الأسبق "حيدر العبادي" إلا أنه عندما طلبت وزارة الخارجية العراقية انسحاب تركيا تعنّتت ورفضت و تهدف الخطة التركية وفق الاستراتيجية التركية إلى إقامة قواعد في المنطقة "لمنع استخدام المناطق المطهرة للغرض نفسه مرة أخرى" ولكن حقيقتها تتجاوز ذلك إلى احتلال وقضم مزيد من المناطق العراقية.
هل هناك استراتيجية تركية في التوغل على الأراضي العراقية؟
بحسب المصادر المطلعة هناك أكثر من ٣٥ آلاف جندي وضابط تركي يتغلغلون بعمق يزيد عن 100 كم داخل الأراضي العراقية ولديهم حوالي ١٠٠ قاعدة عسكرية وموقع ومعسكر في العراق، وتصب إقامة مزيد من القواعد العسكرية وزيادة في عدد الجنود والقوات في الشمال العراقي في اتجاه واحد هو تأمين ما تزعم تركيا أنها مصالحها الاستراتيجية ويأتي على رأسها مواجهة النفوذ الكردي في العراق وسوريا وتعد هزيمة حزب العمال الكردستاني هدف طويل الأمد تقول تركيا إنها تسعى لتحقيقه منذ زمن بعيد ولكنه لم يتحقق حتى الآن، وهناك ما هو أبعد من إضعاف المقاتلين الكرد ومحاربتهم، وهو تكريس الوجود التركي في العراق، وكان خيار ما يسميه البعض "المنطقة الآمنة" شمالي العراق برز إلى واجهة النقاش والتطبيق داخل الدوائر التركية والداعمين لتركيا، كأحد الحلول المطروحة أمام تركيا لمواجهة الكرد ومقاتلي حزب العمال الكردستاني المطالبين بحقوق الشعب الكردي، لإعطاء شرعية للاحتلال التركي في العراق.
تأخرت تصريحات الساسة الأتراك المبررة أهمية العلاقة ببغداد بعد أن نقل العراق المشكلة إلى الجامعة العربية ومجلس الأمن الدولي اللذين دانوا الاعتداءات التركية وتجاوزها للسيادة العراقية ووحدة أراضيها.
لكن السؤال الأبرز في جُل هذه التحركات التركية على الأراضى العراقية هل فعلاً تسعى تركيا لإنشاء مناطق آمنة في شمالي العراق لمنع الكرد وحزب العمال الكردستاني من القيام بعمليات في أراضيها؟ وإن كانت تركيا تخطط من أجل إقامة منطقة آمنة فالأمر سيكون استحالة بالنسبة إلى العراق وإيران معاً كل لأسبابه الخاصة حتى جزء من إقليم كردستان العراق الحليف الأبرز لتركيا بدا قلِقاً من هذا المسار باعتبار أن ميدان تلك المنطقة الآمنة سيكون قرى ومناطق في الإقليم إذا ما تم تنفيذ على أرض الواقع وهنا تتضارب المصالح السياسية وتتشابك مما ينذر بصدامات من الممكن حدوثها قريباً وفي أية لحظة، وتتجاوز ذلك إلى مشروع الميثاق المليّ التي تريد تركيا إنجازه بعد مئوية اتفاقية لوزان وضم شمالي سوريا وشمالي العراق لتركيا إن سمحت الظروف والشروط.
موقف الحكومة العراقية من هذه التوغلات التركية
من الملاحظ أن هناك حالة غريبة في تعامل الحكومات العراقية المتعاقبة تجاه التغولات التركية على أراضيها فعلى الرغم من أن الدبلوماسية العراقية لم تكن ناجعة في الوقوف أمام هذه التغولات، لأن المشكلة تكمن في عدم وضع محاذير في مؤتمر مكافحة الإرهاب الأممي المنعقد عام 2015 لأجل عدم تدخل جيش أي دولة مجاورة في الأراضي العراقية إلّا أن حجة تركيا هي أنه في أثناء زيارة رئيس الوزراء العراقي الأسبق "نوري المالكي" لتركيا تم توقيع مذكرة تفاهم أمني بين الطرفين وسمحت المذكرة للجانب التركي بالتوغل حتى عمق 35 كلم داخل الأراضي العراقية لملاحقة الكرد وحزب العمال الكردستاني، وكذلك أعطى رئيس الوزراء السابق " مصطفى الكاظمي" ضوءاً أخضر في أثناء زيارته تركيا لتنفيذ عمليات قصف وتحليق للطائرات المسيرة بعمق 50 كلم من أجل ملاحقة حزب العمال الكردستاني وهو ما يسير عليه في نفس النهج رئيس الوزراء العراقى الحالي "شياع السودانى" وهو ما اتسق مع تصريحاته عقب إعلان الرئيس التركي في مؤتمر صحفي مشترك بين الطرفين "زيادة كمية المياه المتدفقة في نهر دجلة لمدة شهر وبقدر الإمكان للتخفيف من محنة العراق" ويبدو أن انقرة تحاول استبدال «شهر المياه» بإعلان بغداد حزب العمال الكردستانيPKK منظمة إرهابية, وهو ما أعلنه اردوغان في المؤتمر نفسه بأنه يتوقع من أشقائنا العراقيين تصنيف حزب العمال الكردستاني منظمة إرهابية وتخليص أراضيهم من هذه المنظمة الإرهابية الدموية، فهل تراجع حصة العراق من المياه نحو 70% بسبب سياسات دول الجوار من بينها تركيا يفسح الطريق أمام زيادة معدل العمليات البرية التركية والقصف على قرى كردستان والمدنيين الكرد تحت ذريعة ملاحقة المقاتلين الكرد ؟
هل دق الاتفاق الأمني بين طهران وبغداد ناقوس الخطر للأحزاب الكردية الإيرانية؟
والسؤال الأبرز في هذه الحالة المتشابكة هو موقف إيران من هذه التحركات التركية، فهى الصديق اللدود للأتراك رغم بعض التناقضات الظاهرة، ومن يراقب الموقف الإيراني من التدخلات التركية ضد الكرد ومحاولة استهدافهم يجد أن الموقف الإيراني متناقض وله وجهان في تعامله مع هذا الوضع المتأزم فإيران تريد الاستفادة من صراع الدولة التركية مع الكرد بقدر الإمكان، ليكون ورقة ضغط ضد تركيا وبنفس الوقت تحاول عقد الاتفاقات مع بغداد وأربيل لاستهداف كرد إيران وأحزابهم المعارضة لإيران، ووصفهم بـ "الجماعات الإرهابية والانفصالية" على النقيض تعمل طهران لتعزيز علاقاتها بالديمقراطي الكردستاني و الاتحاد الوطني الكردستاني، وهو ما تمثل في توقيع اتفاق بين ممثل المرشد الإيراني الأعلى في المجلس الأعلى للأمن القومي وسكرتير هذا المجلس "الأميرال على شمخاني" مع مستشار الأمن القومي للحكومة العراقية "قاسم الأعرجي " وبموافقة حكومة أربيل والتي قيل إنها خضعت للمناقشة منذ عدة أشهر و بالرغم من أن نص الاتفاق الأمني بين طهران وبغداد وأربيل لم ينشر حتى الآن لكن بحسب الأدلة ووفقا للتصريحات خاصة من الجانب الإيراني فإن جزءا مهما منه يتعلق بأوضاع تنظيمات المعارضة الكردية الإيرانية في إقليم كردستان العراق، وهو مارأيناه قبل يومين ينفذ بإبعاد الأحزاب الكردية الإيرانية وتجميعهم في مخيمات ومعسكرات بعيدة عن الحدود العراقية الإيرانية.
فهل الأيام والأشهر والسنوات القادمة سوف تشهد تغييراً في سياسات القوى الإقليمية والعالمية تجاه الكرد وكيف ستكون علاقات الكرد فيما بينهم، وما مصير القواعد العسكرية التركية في العراق وفي بعض البلدان العربية الأخرى؟
بقلم هاني الجمل، الباحث في الشؤون الإقليمية والدولية