الشاعرة العراقية سارة السهيل في حوار إنساني: المرأة نسمة الحياة في صيف قائظ الحرارة

الشاعرة والكاتبة سارة طالب السهيل هي حالة متميزة وفريدة للمرأة الأديبة بمنطقة الشرق الأوسط، بما تملك من خبرات عديدة نتاج بيئات مختلفة عاشت فيها أثرت وتأثرت بها.

وكالة فرات للأنباء (ANF) أجرت حواراً يمكن وصفه بـ "الإنساني" مع الشاعرة سارة طالب السهيل التي فتحت قلبها وتحدثت في موضوعات عديدة، لا سيما نشأتها متعددة المراحل والتجارب والخبرات، والتي انعكست على كتاباتها التي كانت موضع اهتمام لدى الكثيرين في الشرق الأوسط، وتكتب بأحرف من نور في مسيرة المرأة بمنطقتنا.

ولأن المرأة احتلت موقعاً مهماً في كتاباتها الأدبية، فقد تحدثت سارة السهيل عن واقع المرأة في الشرق الأوسط والتحديات التي تواجهها، ودورها المحوري في كثير من المواقف، ونضالها الذي يتواصل من أجل نيل حقوقها المشروعة، وفق ما يلي سردها في هذا الجزء الأول من الحوار معها.

وإلى نص الحوار:

*أنت واحدة من أميز عنقود المبدعات العرب، بلا شك، لكننا بحاجة إلى أن تحدثينا عن نفسك أكثر، خاصة بدايتك المبكرة في المجال الأدبي؟

- اسمي سارة، إنسانة بسيطة تحب كل الناس دون مبالغة، أنا بشكل سيدة وقلب طفلة، إنسانة حساسة تحب الحياة الزاهية بألوان الطفولة، مرتبطة بالأرض وتحب الجمال بكل أشكاله تكره الظلم والقهر والحروب والافتراء، وتكره الكذب بكل أشكاله، فالكذب جبن مثله مثل البخل صفات مذمومة، جذوري الأصيلة الضاربة في التاريخ علمتني العطاء والكرامة، وكوني من بين أمارة بني تميم أضاف لي التشبث بالقيم العريقة، صحيح ليس هناك شخصاُ بلا عيوب ولكن يجب أن تكون العيوب لا تؤذي الآخرين ولا تضر أحداً. ولدت في الأردن ودرست في مدرسة راهبات الوردية وأكملت دراستي في بريطانيا ومن ثم القاهرة، وقد تنوعت دراساتي وتشعبت ولكنني بدأت الكتابة وأنا صغيرة جداً ونشأت في أسرة سياسية لأبي المناضل الشيخ طالب السهيل، ووالدتي ابنة الطبيب والنائب والسياسي الدكتور علي بدرالدين. وأسرتي واصلت العمل العام والسياسي بعد استشهاد والدي، لكني هويت الأدب والفنون منذ نعومة أظافري ربما بسبب نشأتي في منزل كان صالوناً ثقافياً يفد إليه كبار المثقفين والمبدعين، ومكتبتنا الزاخرة بكنوز المعارف والآداب. وقد حرصت والدتي على تسليحي بالثقافة وتنمية ذائقتي بالإبداعات الأدبية والفنية المختلفة، فاتجهت في مرحلة التعليم الأساسي لكتابة الشعر الوطني والحماسي، ثم تطورت التجربة إلى ديوان شعري في الآخر، وكنت أظن أن الشعر قد تملكني دون غيره من الفنون الأدبية لكن سرعان ما اكتشفت عشقي لأدب الطفل، وبحثت عن طفولتي بداخلي فوجدتني أكتب قصصاً للأطفال مع الوقت اتجهت لكتابة القصة والمقال النقدي وغيرها.

*أنت عراقية وولدت في الأردن ودرست في مدرسة الراهبات الوردية ودرست في بريطانيا، كيف انعكست هذه التجارب البيئة المختلفة عليك؟

- بالطبع كل تجربة ولها انعكاساتها على عقل الإنسان وقلبه وروحه، فجذوري العراقية تنبش في حضارة أعظم حضارة في العالم حضارة بلاد الرافدين التي شيدت أول إمبراطورية وأول كتابة أو نظام قانوني، وأول ظهور للمدينة، لقد كان العراق الأول في كل شيء بل وحكم العالم مرتين لا مرة، وكيف تسري بداخلي جينات هذه الحضارة متمثلة في قيم أخلاقية متوارثة من عزة نفس ونبل ومروءة وشجاعة ومساعدة المحتاج وغيرها، ومن قيم التزود الدائم بالعلم ومخالفة الثوابت الراكدة كالموروثات التي تحط من شأن المرأة وتقهر إنسانياتها، بينما حضارة العراق انتصرت للمرأة الربة والكاهنة والشاعرة وأعلت من شأنها. وميلادي بالأردن وطني أيضاً حيث موطن عربي أخر لتعاقب الحضارات القديمة والثقافات وأتاح مولدي بالأردن ونشأتي فيه فرصة الانتماء للعروبة ككل وللإنسانية أيضاً، فالأردن وطن احتضن العديد من الجنسيات الفارة من الحروب بجانب السوريين والفلسطينيين وغيرهما، وهو ما شكل فكري ووجداني نحو معطى الإنسانية الواحدة التي لا تميز بين شرقي أو غربي رغم انتمائي لوطني الأردني. وكان لدراستي بمدرسة الراهبات الوردية بالأردن أثراً عميقاً في انصرافي المبكر عن أي تعصب مذهبي أو طائفي ديني أو سياسي، ففي هذه المدرسة تعلمت من الراهبات الكثير من القيم كالصدق والوفاء بالعهد وتحمل المسئولية، والثقة بالنفس واحترام الآخر، وهذه القيم شكلت فكري في المستقبل وأيضاً توجهاتي وقناعاتي الفكرية أثناء الكتابة.

أما دراستي بلندن فكانت تجربة الغربة المبكرة وتعلم كيفية التصرف في المواقف الصعبة، واكتشاف مكنونات النفس وما وهبها الله تعالى من مواهب لا تخرج ولا تظهر إلا عند الشدة، بجانب تجارب التلاقح والانفتاح مع الثقافة الإنجليزية العريقة وإعجابي بمحافظتهم على تقاليدهم الملكية، ولا شك أن كل هذه الروافد للتجارب شكلت رؤيتي لنفسي وللعالم وساهمت في تحديد شكل اختياراتي في الحياة وفي معاملاتي مع الآخرين. أحببت الطبيعة والحيوانات والأشجار تعلمت أن أقدر الناس وأحترمهم وأحترم مجهودهم وأقدر أي شيء يفعلونه، تعلمت أن الحرية بالفكر والعقل والعمل وليس فقط شياكة ومظهر وشكل، وتعلمت أن المرأة القديرة هي المرأة المسؤولة المعطاءة وليست التي تروج للسلع.

*هل المرأة الأديبة في رأيك تختلف عن غيرها؟

- المرأة الأديبة كمصطلح لم يظهر إلا في القرنين 17 و18 الميلادي من خلال مجموعة من المثقفات في الصالونات الأدبية، بينما الأدب الجاهلي يثبت أن الكثير من النساء بلغ تعدادهم نحو 4000 امرأة أبدعت في كتابة الشعر وإن لم يصلنا من إبداعهن إلا القليل. والمرأة الكاتبة تختلف كثيراً عن النساء الأخريات اللواتي لديهن اهتمام بالموضة والأزياء فقط وربما الطموح العلمي المتخصص بجانب اهتمامهن بأدوارهن التقليدية في رعاية الأسرة، لكنها غالباً لا تقوى على مواجهة المجتمع وانتقاده وتوجيهه والعمل على تغيير المفاهيم الثقافية الخاطئة فيه، بينما الكاتبة والأديبة فهي محاربة بالقلم ينتقد ويوجه المجتمع لمشكلات حقيقية يتخطاها قبل أن تكبر وتصبح كوارث في المستقبل.

الكاتبة والأديبة قد تمارس أدوارها الطبيعية في رعاية أسرتها واهتمامها بأنوثتها ولكن بعيداً عن المبالغة، بينما تمتلك من المواهب الربانية ما يمكنها من المجتمع والتعبير عن قضاياه الخطيرة المسكوت عنها وتستخدم قلمها كمشرط الجراح في كشف الزيف والظلم بالمجتمع وتعرية جوانبه السلبية المدمرة للإنسان وأمنه الفكري والعقائدي والنفسي. إن المرأة الكاتبة تمتلك شجاعة نفسية عالية في البوح عن أوجاع المجتمع والبحث عن دواء شافي له مقارنة بالنساء الأخريات اللواتي يخشين مواجهة المجتمع حتى لا يخسرن علاقتهن الاجتماعية. ولذلك وجدن كثير من المبدعات في الشرق والغرب قد كبتن إبداعهن بأسماء ذكورية مستعارة خوفاً من بطش المجتمع مثل الأختين برونتي (تشارلوت وإيميلي) كتبتا تحت اسم إليس بيل، ومي زيادة كتب تحت اسم خالد رأفت، والروائية الإنجليزية ماري آن إيفانس والتي عاصرت مي زيادة أدرجت كتاباتها تحت اسم جورج إليوت وكلهن في هذه الأزمنة كن يخشين من عدم قبول المجتمع إبداعهن وأفكارهن فقط لأنها صادرة عن نساء. والمرأة الأدبية التي تكتب للأطفال فهي تربي أجيالاً وتغرس القيم والأخلاق والفكر في عقول أجيال المستقبل.

*هذا يجعلني اسألك، لماذا كان لديكي اهتماماً خاصاً بأدب الطفل؟

- اهتمامي بأدب الطفل ربما يكون نابعاً من فطرة تميل للطفولة وتعشق براءتها وتقفز بمظلات أخيلتها السحرية في فضاءات لا نهائية من البحث عن الجمال والحب والخير والعدل. أدب الطفل قد يكون بأخيلته الجامحة قد يصنع لنا المستقبل، وكما من قصص الأطفال التي كانت أقرب للخيال العلمي قد تحققت على الواقع في أجهزة حديثة نستخدمها في عالمنا المعاصر. والجدات والأمهات هن أول من أبدع أدب الطفل عبر ابتكار قصص قبل النوم للصغار وتهدئتهم عليها، وابتكار أشعار هدهدة للصغار تذوقوا من خلالها الموسيقى وسرحوا بخيالهم في جنات الله الواسعة وفضاءه الكوني الرحيب ومخلوقاته العجائبية. والكتابة للأطفال بالنسبة لي نابعة من حبي الكبير للأطفال، ورغبة دفينة بداخلي للعمل على المساهمة في تربيتهم وتنمية حواسهم وتوسيع مداركهم العقلية، وغرس فضائل الأخلاق وتحبيبهم فيها ودفعهم للعمل بها، وغرس مفهوم القيمة بداخلهم من خلال الفن القصصي الأكثر جاذبية للأطفال. وإمتاع الأطفال وإسعادهم بالمرح واللعب داخل العمل القصصي أيضا مهمة أراها ضرورية في قصص الأطفال، لأن الطفل يحتاج المتعة وهو من خلالها يمكن اكتساب الخبرات اللغوية والقيم الأخلاقية التي يبثها الكاتب في نصوصه للأطفال.

في تصوري إن كاتب الأطفال أكثر الكتّاب سعادة وهم يساهمون في صناعة إنسان المستقبل، يشكلون فكره ووجدانه، فالأدب والثقافة مكنز لصناعة إنسان يشيد الحضارة ويقيم العدل وينشر السلام في ربوع المعمورة.

*ماذا عن موقع المرأة في كتابات سارة السهيل؟

- المرأة هي الطفلة البريئة نسمة الحياة في صيف قائظ الحرارة، وهي الجدة الرؤوم التي تنقل لنا تراث الأجداد بكل ما فيه من أفراح وأتراح وإيجابيات وسلبيات، والمرأة هي الأم الحنونة التي تفني نفسها إسعاداً لأسرتها، وهي الشقيقة والصديقة والحبيبة، وهي الضحية التي يستغل المجتمع طيبتها وعطفها فيسلبها حقوقها وأمنها وسلامها الاجتماعي والنفسي. ومعظم كتاباتي عن المرأة عالجتها في قالب المقالات المختلفة والتي لم تترك أزمة من أزمات المرأة تقريباً إلا وتناولتها بالتحليل والنقد والرؤية الفاحصة لإيجاد حلول لها، فقد ناقشت قضايا العنف بحق المرأة بكافة أشكاله طفلة وشابة يافعة وزوجة ومطلقة وأرملة، وناقشت فكرة إلصاق مفهوم العار الاجتماعي بحق المرأة فقط دون إلصاقه بالرجال عندما يخطئون. وكيف يميز المجتمع بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات وحرمانها من الميراث الشرعي في كثير من الأحيان، والعنف القانوني الممارس ضدها في ساحات القضاء حتى تحصل على نفقة أطفالها وغيرها من القضايا التي تعالج حقوق المرأة في كل حالتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإنسانية.

*كيف ترين واقع المرأة في منطقتنا؟ هل وصلت إلى المكانة التي تستحقها أم لا يزال المشوار أمامها طويلاً؟

- المرأة العربية حققت إنجازات كبيرة في وطننا العربي كله، بعد أن تأهلت علمياً وعملياً لكل المؤهلات الدراسية وتأهلت لسوق العمل ومارست دورها إلى جانب الرجل في كل حقول العمل الاقتصادي والسياسي والعلمي والعملي مبرهنة على تفوقها وتحديها لكل الصعوبات التي تواجها، فصارت وزيرة ونائبة برلمانية، ومحاربة واستشارية هندسية وطبية ومعلوماتية وأديبة تهز الوجدان وتلهب الحماس وتوعي المجتمع وتعمل على تنويره ضد ميراث الجهل والتخلف. ورغم ذلك، فإن الطريق أمام المرأة لا يزال محتاجاً لبذل مزيد من الجهد حتى تتحقق مساواتها بالرجل في الأجور مثلاً وفي الترقي الوظيفي وفي العمل النيابي والأهم من هذا كله في بيتها وأسرتها وغيرها.

والمرأة تكافح لمواصلة جهودها في المساواة بالحقوق والواجبات مع الرجل، فجأة تصبح نهباً وضحية أولى للحروب والصراعات، وتصبح المرأة أول لاجئ فاراً من نيران الحروب بصحبة أطفال لا حول لهم ولا قوة ولا معين سوى عون الله لهم فيما يواجهونه من أهوال ومصائب. فبقدر ما حققت المرأة العربية من إنجازات دفعت ثمن الحروب غالياً من روحها ودمها وأمنها واستقرارها وسعادتها.