الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا في ضوء "الأمة الديمقراطية" عند عبد الله أوجلان

كتب الدكتور طه علي أحمد، بحثاً لمركز آتون للدراسات تناول فيه أطروحة "الأمة الديمقراطية" للقائد عبد الله أوجلان كسبيل حل للأزمة الجوهرية التي عكست فشل الدولة القومية في استيعاب التنوع العرقي والاندماج الوطني في الشرق الأوسط تاريخياً.

وجاء في البحث الذي قدمه الباحث في شؤون الشرق الأوسط وسياسات الهوية، الدكتور طه علي أحمد لمركز آتون للدراسات:

"في صُلْبِ طَرْحِه للأُمَّةِ الديمقراطية، كسبيلٍ للتغلبِ على مَساوىء الدولة القومية باعتبارها نتاجاً للرأسمالية العالمية، يُقَدِّم عبد الله أوجلان مفهوم "شبه الاستقلال الديمقراطي" كسبيلٍ مصيريٍ لِحَلِّ الأزمة الجوهرية التي عَكَسَت فشل الدولة القومية في استيعاب أزمةِ "التنوع العِرقي" و"الاندماج الوطني" في الشرق الأوسط تاريخياً. فقد أدَّى فرضُ مقاربات الدولة القومية، في عصر الحداثة الرأسمالية، إلى الانسداد العَقيم القائم في القضية الفلسطينية، بل وتجذيرها كما هو في فيدرالية الدولة القومية العراقية. ورُغم نجاحِ المُكون الكُردي في العراق من تأسيس النموذج القومي الكردي (كردستان العراق) عقب سقوط نظام حكم صدام حسين في عام 2003، بعد عقود من تَحَقُّقِ "الحُكمِ الذاتي" لهم في 11 مارس 1970، رغم ذلك، إلا أن عبد الله أوجلان قد اعتبر أن الدولة القومية التي يُرادُ تشييدها في كردستان العراق مرتبطةً عن كَثَبٍ بحسابات الحداثة الرأسمالية في الهيمنة، كما أن دولةً قوميةً كرديةً صغرى سوف تقف في خدمة النظام القائم. بل إن أوجلان يرى أن ذلك قد يؤدي إلى مجازرٍ وإباداتٍ جماعيةٍ جديدةٍ بمجرد قول النظام: "إنها ليست في صالحي". وبالتالي، يرى أوجلان أن البديل لـ "الجمهورية الكردية المستقلة الموحدة" يكمن في "الكونفدرالية الديمقراطية الكردستانية"، التي لا تَمِسَّ الحدود السياسية القائمة، بل يرى أنها تُعَجِّلُ من إيجاد حجةً لبناء "الوحدة الوطنية الديمقراطية في الشرق الأوسط". حيث يصبح بإمكان المكونات الثقافية المتنوعة داخل دول المنطقة أن تنظم نفسها ضمن هذا النموذج على شكل اتحادات فيدرالية. 

وفي هذا الإطار يُمَيِّز أوجلان بين مُصْطَلَحَىّ "الإدارة الذاتية" و"الإدارة الدخيلة"، ففي حين تقوم "الإدارة الذاتية" بتنظيم القدرات الكائنة في طبيعتها الاجتماعية ومراقبتها وتضمن بالتالي سيرورة المجتمع وتضمن مأكله ومأمنة، فإن "الإدارة الدخيلة" تُشَرْعِن نفسها كسلطةٍ، وتعمل على إغواء المجتمع المُسَلَّطة عليه لتتمكن على حكمه بعد تحويله إلى مستعمرة. وترتبط الإدارة الذاتية بالإدارة الديمقراطية؛ فبينما تعنى الديمقراطية بالمجتمعات الكبرى كالشعوب والأمم، فإن الإدارة الذاتية تشير إلى الكفاءة أو القوة المستدامة التي تنتشر من أصغر المجتمعات إلى أوسعها. فلطالما كانت الإدارة الذاتية تعمل تاريخياً من خلال المجتمعات القبائلية والعشائرية التي هي أكثر أشكال المجتمع انتشاراً في التاريخ، والتي كانت تتجسِّد في جوهرها "الإدارةُ الذاتية" كحاجةٍ أوليةٍ للطبيعة الاجتماعية، وبالتالي فإن التَخَلِّي عن "الإدارة الذاتية" يعني الأَسْر وفقدان الهوية. وقد ترسَّخ ذلك تاريخياً من خلال التعليم باعتباره وسيلةً مجتمعيةً تتحول على صعيد الهوية إلى أداة لفرض التخلي عن الهويةِ الذاتيةِ وعن "المجتمعية الذاتية" بالنسبة للأكراد وفقا لأوجلان.

دوافع تَقَبُّل "الإدارة الذاتية"

مثَّلَت بيئةُ شمال وشرق سوريا حاضنة اجتماعية لنموذج "الإدارة الذاتية"، حيث تقبَّلها أهل هذه المنطقة المُهَمَّشِين اجتماعياً وتنموياً وسياسياً، الأمر الذي يجعلها ذات قابليةً مقارنةً بالنظام "السلطوي" ذات التوجهات السلطوية الأحادية، والمتحالف مع إيران ذات النهج الإقصائي تجاه الأكراد لصالح القومية الفارسية في ثوبٍ أُصولي ديني، كما عرفت المنطقةُ خبرةً مأساويةً مع "تنظيم داعش" الدموي وهو ما يرفضه أهل المنطقة رفضاً مطلقاً.

وقد أضفَت الممارسات الأولية للإدارة الذاتية جاذبية لسكان شمال وشرق سوريا، حيث تشكَّلت هذه التجربة على مبدأ "الشراكة". وقد غابت هذه الشراكة عن فلسفةِ الحُكْمِ خلال العقود السابقة من جانب النظام الحاكم، والحال نفسه بالنسبة للبديل الذي سعى تنظيم داعش لفرضة على المنطقة كنموذجٍ مُهَيْمِن. وفي هذا الإطار، اتَّسَع هامشُ الحريات التي اتْسَمَت بها التجربة التي قدَّمتها الإدارة الذاتية، وإن كانت نسبيةً في بعض الأحيان، إلا أن ذلك لا ينفي جاذبيتها.

ما سبق لا ينفصل عن الوضعِ الاقتصادي المُتَميز لهذه المنطقة مقارنة بغيرها من المناطق الخاضعة لسيطرة النظام حيث تُعاني من تدهورٍ اقتصاديٍ نتيجةً لفتراتٍ طويلةٍ من العقوبات والأزمة التي تعانيها سوريا منذ عام 2011. كما أن مناطق شمال وشرق سوريا بطبيعتها الجغرافية تتميز بتوافر الموارد الأساسية حيث يغلب عليها الطابع الزراعي، فضلا عن تَوَطُّنِ صناعات المشتقات النفطية في هذه المناطق. 

أما على المستوى العقيدي، فإن الميل نحو الطابع الديمقراطي، غير السلطوي من شأنه أن يتيح حَيِّزاً أفضل لحرية الاعتقاد، وهو ما يُعَزِّزَ كَفَّةَ "الإدارة الذاتية" عند مقارنتها بنموذج داعش المُتَسَلِّط دينيا والذي لا يقبل إلا نمطاً واحداً من التدين، وآراء أحادية الاتجاه وفرضها بطريقةٍ قهريةٍ، كما لا يختلف الأمرُ كثيراً عند النظر للمخاوف التي تُثِيرها علاقة النظام في دمشق وارتباطاته الوثيقة والمتداخلة مع إيران بما ينطوي ذلك على نموذج قومي متشدد يُمَثِّله النظامان في دمشق وطهران. 

الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا

على خلفيةِ الانحياز الطائفي للنظام السياسي السوري، كانت شمال وشرق سوريا أقل المناطق نمواً في البلاد، وقد سادت هذه المنطقة أشكالاً عديدة للتهميش الاجتماعي والاقتصادي وبطبيعة الحال السياسي. فقد تعرضت المنطقة لموجةِ جفافٍ حادةٍ في الفترة من 2004 إلى 2009، الأمرُ الذي انعكس على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، حيثُ وصلت مُعَدَّلات البطالة لما يزيد عن 40%، وتأثَّرت الأنشطةُ الاقتصادية الرئيسية في المنطقة مثل أنشطة الرعي وتربية الماشية التي تراجعت بشكلٍ حادٍ. رُغمَ ذلك، لم تحظَ المنطقة بالاهتمام الكافي على خريطة التنمية الاقتصادية من قِبَل النظام الحاكم في دمشق. لقد جعلت هذه الأوضاع من شمال وشرق سوريا أكثر المناطق السورية تأثراً بالانتفاضة التي تعرضت لها البلاد في منتصف مارس 2011 والتي تحولت فيما بعد إلى حربٍ أهليةٍ نتيجةً لمزيجٍ من العوامل الداخلية (التهميش وسوء إدارة النظام للأزمة) والخارجية (تدخلات العديد من القوى الإقليمية والدولية)، وصولاً إلى انسحاب النظام الحاكم من هذه المنطقة في 2012. وقد أعقب ذلك الإعلان عن "فيدرالية شمال سوريا" في عام 2013، بواسطة "حزب الاتحاد الديمقراطي السوري"، وهو حزب سياسي كردي سوري تأسَّسَ عام 2003، ثم تشكَّل المجلس التأسيسي في ديسمبر 2015، وفي مارس 2016 عُقِدَ الاجتماعُ التأسيسي لـ "مجلس النظام الفيدرالي" في شمال وشرق سوريا، وتم إقرار مسودة العقد الاجتماعي "الدستور" في ديسمبر 2016، بعد تعديل اسمه إلى "النظام الفيدرالي الديمقراطي في شمال سوريا". وتتكون "الإدارة الذاتية" من ثلاثة مجالس عامة تُشْرِف على سبع إدارات إقليمية وهي المجالس التشريعية والتنفيذية والعدالة. وتتمثل مهمتهم في دعم المشاركة الفعالة للإدارة الذاتية في عمليةٍ سياسيةٍ سلميةٍ لحلِ الأزمةِ السورية مع توفير الأمن والاستقرار والتعليم والصحة والخدمات العامة للأشخاص الذين يعيشون في الداخل وذلك من خلال إدارة ودعم الإدارات الإقليمية السبع المُتَمَتِّعة بالحكم الذاتي وهي الجزيرة والرقة ودير الزور والطبقة والفرات وعفرين. 

المجلس العام: يقوم بإعداد الميزانية السنوية للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا ويضع السياسات المالية وفقًا للإيرادات والنفقات التي أبلغت عنها الإدارات الإقليمية السبع. بما في ذلك الإشراف على جميع المكاتب الثمانية واللجان العشر للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، يقوم المجلس التنفيذي أيضًا بإعداد الميزانية السنوية للإدارة وصياغة السياسات المالية وفقًا للإيرادات والنفقات التي تحددها الإدارات الإقليمية السبع.

الهيئات والمكاتب: هيئات ومكاتب الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا هي المؤسسات المكلفة بالمهمات الإدارية المختلفة. تنقسم المؤسسات إلى عشر هيئات وثمانية مكاتب.

الحُكم المَحَلي (الكومين): يمثل الكومين الأساس التنظيمي لنظام الحكم المحلي في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، والنظام الذي يضع الإطار التنظيمي والإداري لعملية صنع واتخاذ القرارات بكافة مستوياتها الإدارية. ويعمل الكومين على أساس بناء تعاونيات تساهم في بناء وتنمية الاقتصاد وتحسين الظروف المعيشية للأفراد. كما يقوم الكومين بأدوار متعددة تهدف لدعم وتوعية الأفراد بمنظومة الحقوق والواجبات التي تربط بين بعضهم البعض، وعلى هذا يعد الكومين شكلاً تنظيميا للديمقراطية المباشرة. 
أما فيما يخص تقسيم المناطق الواقعة في إطار الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا فإنها تنقسم إلى بلديات، وتنقسم هذه البلديات إلى مناطق والتي تنقسم بدورها إلى مقاطعات. ثم يتم تنظيم المقاطعات إقليميا إلى كانتونات. مع ملاحظة أن هذه المستويات الإقليمية يقود كلاً منها اثنان من الرؤساء (رئيسان مشتركان لكل منطقة، ورئيسان مشتركان لكل مقاطعة، ورئيسان مشتركان لكل كانتون). 

الذراع العسكري للإدارة الذاتية: يتشكل الذراع العسكري للإدارة الذاتية من ثلاث محاور رئيسية هي: 

قوات سوريا الديمقراطية: تأسَّست، في 11 اكتوبر 2015، قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، كقوة دفاعية كما نص عليها دستور الفيدرالية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا، وقد تَشَكَّلت من عدد من الفصائل والألوية المتعددة الأعراق مثل وحدات حماية الشعب، ووحدات حماية المرأة (كردية) المجلس العسكري السرياني (سرياني آشوري)، ولواء السلاجقة (تركماني)، وقوات الصناديد (عربية)، وجبهة ثوار الرقة غيرها، إلا أن المكون الكردي يمثل النسبة الأكبر من تشكيل هذه القوات. وقد تشاركت قسد مع التحالف الدولي ضد داعش، الذي تشكل في سبتمبر 2014 حتى الاعلان عن هزيمة التنظيم في 23 مارس 2019، هو ما اكسبها خبرة قتالية مهمة.

وحدات حماية الشعب: تأسَّسَت وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة في 2011-2012 لحماية المنطقة من أي تهديد خارجي محتمل بعد إجبار النظام السوري على الانسحاب من المنطقة. تشتهر وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة بهزيمة داعش في معركة كوباني عام 2014 بالشراكة مع التحالف الدولي في المنطقة.

المجالس العسكرية: تم إنشاء عدد من المجالس العسكرية بحيث تضم أعضاء من السكان المحليين في كل منطقة، من قبل قوات سوريا الديمقراطية للمشاركة في تحرير شمال وشرق سوريا من داعش. وهي تعمل تحت قيادة قوات سوريا الديمقراطية في دفاعٍ مُوَحَّدٍ عن شمال وشرق سوريا ضد الجهات المعادية.

قوى الأمن الداخلي: تأسَّسَت قوى الأمن الداخلي في عام 2012 وهي مسؤولة أمام هيئة الداخلية وتقدَّم الدعم الداخلي للشرطة والأمن في شمال وشرق سوريا. وتعمل كقوةٍ أمنيةٍ مُتَعَدِّدة الأعراق ومتعددة الأديان من الذكور والإناث، تعمل بالتعاون مع مختلف الوحدات الداعمة في جميع أنحاء الأقاليم السبع في المنطقة لضمان الاستقرار والأمن. وتشمل هذه الوحدات إدارة نقاط التفتيش، وقيادة قوات مكافحة الإرهاب، ومديرية الجريمة المنظمة، ومديرية المرور.

التعاونيات وهيكل الاقتصاد في الإدارة الذاتية 

مثَّلت التعاونيات أحد الركائز الاقتصادية والاجتماعية للحكم المحلي في مناطق الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، وقد جاء ذلك لأطروحات عبد الله أوجلان الذي يرى بضرورة التركيز على وسيلتي التصنيع الأيكولوجي" و"اقتصاد السوق المجتمعي" المرتكز على احتياجات الإنسان الأولية والذي يخدم التضامن والتعاون الاجتماعي، ولا يهدف إلى الربح، وأن الاقتصاد الكومونالي (التعاوني) الديمقراطي هو سبيل الحل الأمثل لتمكين بعض الحياة الإنسانية داخل المجتمع. ويرى أوجلان أن مجتمع الشرق الأوسط ليس متسامحاً مع الرأسمالية كما في أوروبا ومناطق أخرى من العالم، وذلك بحكم الطبيعة العشائرية لشعوب المنطقة، وبالتالي فجذور الكومونالية (التعاونية) وطيدة بالشرق الأوسط، الأمر الذي يجعل "الاقتصاد التعاوني" بمثابة النموذج الأمثل في مجتمعات الشرق الأوسط، ولذلك تمثَّلت أولى المعالم الاقتصادية للإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا في تأسيس عشرات التعاونيات في عام 2013، وقد منحت هذه التعاونيات في أواخر 2016 أراض كانت مملوكة للدولة السورية بعد انسحاب النظام منها في عام 2012. وتعمل هذه التعاونيات في إطار مجلسٍ منتخب من بين عموم التعاونيات لإدارة وتنظيم عملها، حيث اعتمد إعادة استثمار نسبة 25% من عائدات التعاونيات وأنشطتها على أن تُسدد نسبة 20% كضريبة للهيئة المالية التابعة للإدارة الذاتية، و5% كمساهمية سنوية لمجلس التعاونيات. حيث تنشط زراعة عدد من المحاصيل مثل القمح والبقوليات والحبوب وغيرها، وهو ما يسهم في خلق حركة تجارية بالمنطقة. كما توجد في مناطق الإدارة الذاتية حقول النفط في محافظتي الحسكة ودير الزور.

أما بالنسبة للهيئات المسؤولة عن الاقتصاد، فمن ضمن المكاتب والهيئات التي يديرها المجلس التنفيذي للإدارة التنفيذية، توجد هيئة المالية، التي تعني بتنظيم جباية الضرائب والرسوم التي تفرضها اللجان التنفيذية والإقليمية وعلاقاتها بالمجلس التنفيذي للإدارة الذاتية، وهيئة الاقتصاد والزراعة التي تتولى توحيد السياسات الاقتصادية في كنتونات الإدارة، وهيئة الشؤون الاجتماعية والعمل التي تعني بتنظيم وحماية حقوق العمال والموظفين في القطاعين العام والخاص. فضلا عن ذلك، وكجزء من المكاتب التابعة للمجلس التنفيذي، توجد مكاتب اقتصادية مثل مكتب النفط والثروات الباطنية، الذي يتولى متابعة عمل حقول النفط والغاز، وتوزيع عائداتها، وإدارة شبكة الكهرباء، وتوزيع المياه، ومكتب التنمية والتخطيط الذي يضع الخطط الحضرية للمدن والمناطق ومكتب الشؤون الإنسانية الذي يعني بإصدار التراخيص للمنظمات العاملة في المناطق الخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية ومراقبة عملها وتقييمه. 

رغم ذلك، إلا أن ثمة عدد من التحديات التي تعيق تطوير الهيكل الاقتصادي للإدارة الذاتية، فالحقول النفطية تعاني من تهالك البِنَى التحتية جَرَّاء القصف الذي تعرضت له من جانب النظام وروسيا خلال السنوات الماضية وكذلك التحالف الدولي خلال الحرب مع تنظيم داعش، بالإضافة إلى التدخلات العسكرية المتكررة من جانب تركيا في المنطقة. أما بالنسبة لحركة التجارة، ورغم ازدهارها، إلا أنها تواجه قيودً عديدةً أهمها إغلاق المعابر الحدودية التركية منذ عام 2014، وكذلك القيود التي تفرضها حكومة كردستان العراق والنظام السوري على التجارة مع شمال وشرق سوريا، وهو ما يُسهم بدوره في بروز ظاهرة المهربين للبضائع والمواد البترولية عبر الحدود. 

التكامل والفيدرالية في مواجهة الاتهام بالانفصال

تواجه تجربة الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا اتهامات ومزاعم بأن "ما هي إلا خطوة نحو الانفصال" عن الدولة السورية، ولذا يجب مواجهتها، كما يبدو في المواجهات المسلحة المتكررة التي تخوضها تركيا، وتصدي كلٍ من إيران والعراق وسوريا لها. فرغم تكرار الإشارات والرسائل الصريحة الصادرة من جانب الإدارة الذاتية بعدم مُمَانعة رفع العلم السوري على المؤسات الحكومية في في مناطق مثل ريف حلب ومنبج وغيرها، وأنها لا تسعى للانفصال عن سوريا بل تريد الاتفاق فقط على الادارة الذاتية في إطار مشروع "النظام الفيدرالي" الذي يتطلع له الأكراد ضمن "كونفدرالية ديمقراطية موحدة"، وهو ما أكد عليه الطرح الفيدرالي لأوجلان، وعدم جدوى دولة كردستان الموحدة، كما سبقت الإشارة، بل إن أوجلان نفسه يقول "إن الدولة الانفصالية لا تشكل حلا"، ورغم تكرار مثل هذه الرسائل علناً، ولمرات عديدة من جانب الإدارة الذاتية، إلا أن موقف النظام في دمشق يبدو رافضاً على الاطلاق، رغم حصول النظام على كميات من النفط المستخرج من حقول تابعة للإدارة الذاتية في الحسكة ودير الزور، والحال نفسه بالنسبة للتحالف العتيد من جانب الأنظمة القومية في دول المنطقة، ولاسيما في تركيا وإيران، ضد أية محاولة لتأسيس وحدة سياسية كردية بداخل هذه الدول.

التحديات التي تواجه تجربة الإدارة الذاتية 

رُغم النجاحات التي حققتها الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا إلا أنها لم تسلم من عدد من التحديات التي نوردها فيما يلي: 
تهديد داعش: رغم هزيمة تنظيم داعش في سوريا أمام قوات سوريا الديمقراطية بدعمٍ من "التحالف الدولي ضد داعش"، وتَمَكُّنِ الإدارة الذاتية من تأمين سيطرتها على المناطق التي استولى عليها التنظيم في 2014، إلا أن خطر التنظيم وتهديداته لا يزال قائماً حيث يتبع أساليب الكَرِّ والفَرِّ، وكان التنظيم قد كثَّف هجماته أخيرا، حيث قام في 12 فبراير الماضي (أي بعد أقل من اسبوع من الزلزال الذي أصاب المنطقة)، بمهاجمة أشخاص يعملون في منطقة تَدْمُر بريف حمص الشرقي وسط سوريا، مما أسفر عن مقتل العشرات، وهو ما يضاعف التحديات الأمنية أمام الإدارة الذاتية.

التهديدات التركية المتواصلة: في إطار السياسات التركية التي تجعل مطاردة حزب العمال الكردستاني أولوية لها تظل مناطق "الإدارة الذاتية" في دائرة التهديد الأمني مما يلقي بتحديات دائمة على القيادة في الإدارة الذاتية. وتتعزز خطورة التهديدين السابقين من خلال الدعم التركي لتنظيم داعش في مواجهة تجربة الإدارة الذاتية، وذلك لاعتبارات أمنية قومية تتصل برؤية تركيا لهذه التجربة التي تسعى أنقرة لإفشالها خوفاً من تمدد تأثيراتها نحو المكون الكردي في داخل تركيا، ولعل ما يؤكد على ذلك، أن الهجمات الأخيرة التي قام بها تنظيم داعش مثل الهجوم على "سجن الحسكة"، قد انطلقت من منطقة "رأس العين" وهي مدينة واقعة شمال الحسكة التي تسيطر عليها تركيا، حيث تقود من خلالها عملياتها العسكرية المسماة "نبع السلام". 

إشكالية نقص الطاقة والغذاء والمياه وتسييسها: نتيجة لبعض حالات الجفاف التي تعاني منها خزانات السدود على طول نهر الفراط، بالاضافة إلى سياسات تركيا للاحتفاظ بالمياه في أعالي النهر، تعاني مناطق الإدارة الذاتية من نقص في الطاقة والغذاء، حيث لا تتدفق المياه بما يعيق عمل التوربينات القديمة في منشآت الطاقة الكهرومائية، كما انخفض انتاج الوقود وتأثرت البنى التحتية للطاقة، وقد انعكس ذلك على إمدادات الغذاء حيث تأثرت زراعة الحبوب كالقمح وغيرها من المواد الغذائية، وهو ما يفسح المجال للمنظمات غير الحكومية، لتزويد مناطق الإدارة الذاتية لتجاوز هذه التحديات. لكن عمل هذه المنظمات، ومعظمها غربي بالأساس، فبجانب التحديات التي تواجه عمل هذه المنظمات، حيث توجد غالبيتها خارج الأراضي السورية كالعراق، فضلا عن تأثر أعمالها بالعمليات العسكرية التركية، وهو ما يعزز نفوذ النظام في دمشق على هذه المنظمات، التي تواجه أيضا عراقيل من جانب روسيا لمواصلة عملها، فلطالما استخدمت موسكو حق النقض بالأمم المتحدة ضد الجهود الأممية لتسهيل عمل هذه المنظمات، وغيرها من المعوقات.

رغم التحديات السابقة، يبقى النموذج الفيدرالي، أو "الحكم الذاتي" سبيلاً لتطبيق أطروحة "الأمة الديمقراطية" التي يقدمها عبد الله أوجلان من أجل تحقيق "الأمة الديمقراطية" كبديل لمعالجة أزمات الشرق الأوسط الناجمة عن فشل أنظمة الحكم المتعاقبة في معالجة أزمة التنوع العرقي، والاندماج الوطني، سواء خلال الحقبة الاستعمارية أو بعد الاستقلال. ورغم تعدد الأطروحات المماثلة، إلا أن وجاهة هذا الطرح الفيدرالي، تنبع من كونه دخل حيز التنفيذ والممارسة العملية، وأبدى فاعلية ونجاحات على الأرض لاسيما وأنه أخذ في الاعتبار التنوعات الثقافية والاجتماعية التي تزخر بها المناطق الواقعة تحت سيطرة الإداراة الذاتية، سواء على مستوى التشكيلات الأمنية كالتنظيمات والفرق العسكرية المُشَكِّلة لقوات سوريا ووحدات حماية الشعب، وغيرها، وكذلك استيعاب دور المرأة في المناصب القيادية، من خلال "القيادة المشتركة" للمستويات الإدارية المختلفة. 

أخيرا، يمكن القول بأن قدرة الإدارة الذاتية على الصمود في ظل التحديات العديدة، التي سبقت الإشارة إليها، تبقى مرهونة بالعديد من العوامل الداخلية (مثل قدرة الإدارة على توليد الموارد الذاتية، واستمرار الحفاظ على التوازن بين المكونات الثقافية المختلفة في إدارة شؤون المجتمع)، والخارجية (مثل قدرتها على استيعاب شبكة التحالفات الجديدة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، والضغوط الناجمة عن التحولات في بنية النظام العالمي مع استمرار الحرب الروسية الأوكرانية، والتغيير في أولويات القوى العالمية بالمنطقة".

المصدر: مركز آتون للدراسات