فما لا يتوجب تعريفها بانها راسخة لا تتغير، بل يجب فهمها أساساً على أنها نشاطات الشخصيات والمجموعات المنفعية الانتهازية المختبئة في تَصَدُّعات المجتمع وتَشَقُّقاتِه، وممارساتها في قرض فوائض الإنتاج بمنتهى الطفولية، وأمثال هؤلاء لم تَزِد نسبتُهم في المجتمعِ في أيِّ وقتٍ من الأوقات عن واحدٍ أو اثنين بالمائة، حيث ينتهون قوتهم من المنفعيةِ الانتهازية وتنظيمِ الذات، ويُحرِزون انتصاراتهم بتنظيمِ شؤونهم ضمن المكانِ على نحوٍ أفضل عبر بسطِ نفوذهم على الأشياء التي يحتاجها المجتمع ضمن التصدعات الاجتماعية المتفاقمة مع الزمن، وإذا لم تَقمَعهم القوى الرسميةُ في المجتمع فحينها، ستَكتَسِبُ هذه المجموعاتُ المتواجدةُ بنطاقٍ ضيقٍ على هامشِ كلِّ أشكالِ المجتمع، شرعيتَها ليغدوَ أصحابُها الأسيادَ الجددَ للمجتمع، وقد تَكَوَّنَت مثلُ هذه المجموعات الاحتكاريةِ الهامشية المُرابِية على مَرِّ التاريخ الحضاري، وبالأخص في مختلفِ المجتمعات الشرق الأوسطية، لكن ونظراً لِمُقتِ المجتمع لها واستيائه منها، لم يتجرأ إداريو المجتمع، بما فيهم الأكثر جبروتاً وطغياناً، على شرعنة هذه المجموعات، بل دوما كان النظر إليها بعينِ القوة الخطيرة المُفسِدة للمجتمع، واعتُبِرَت نواةَ الرذائلِ على الصعيد الأخلاقي، هكذا يمكننا تعريف الرأسمالية بشكل الصحيح كما بينه لنا القائد عبد الله أوجلان.
لا يمكن بلوغَ نتيجةٍ بحقِّ الرأسمالية، إلا ضمن سياقِ الممارسات والصراعاتِ التي قامت داخل وفيما بين القوى والأنظمةِ المدنية من جهة، والممارساتِ والحروبِ الدائرة فيما بينها وبين القوى المضادة للمدنية من جهة ثانية؛ على مَرِّ التاريخ الحضاري.
1ـ العصر المشاعي البدائي
من الإنسان البدائي المشاعي استمر حتى العصر الجليدي الرابع، أي إلى ما قبل 20 ألف سنة.
يتم إرساء أرضيةِ ثقافةِ الاقتصاد في النَّسَقِ الأمومي المشاعي البدائي، والمرأة – الأم هي السلطة المنسِّقة للكلان بشكلٍ غالب، تتجسد العلاقةُ والتناقضُ الأساسي ضمن المجتمع الكلاني في: الحماية من كلِّ ما يُشَكِّل خطراً من بين شروط البيئة الطبيعية، والاستفادة من كلِّ ما يمنح فرص التغذية والإمكانيات المناسبة، إذ تتسم هويةُ الكلان بمسحةٍ حياتية ومصيريةٍ لا مفرَّ منها في هذه الظروف، لم يتطور مفهومُ الزوج – الزوجة بعد، وقد عاش المجتمعُ البشري 5.98% من مجموعِ حياته إلى الآن على هذا المنوال، هكذا، فهو أطول أشكالِ المجتمع زمنياً، وباعتبارِ أنّ الحجارةَ المصقولةَ بشكلٍ طفيفٍ هي الوسائلُ المستعمَلةُ أساساً حينذاك، فيُطلَق عليه اسمُ العصر الحجري المصقول، في حين أنّ الاسمَ المفضَّلَ سوسيولوجياً هو النظامُ المشاعي البدائي، ويَرجُحُ الظنُّ والاعتقادُ بأنه تم العيشُ هكذا طيلةَ مليونَي سنةٍ في أفريقيا، ومليونِ سنةٍ في آسيا والقارة الأوروبية.
2ـ العصر النيوليتي 15000 – 4000 ق.م
بعد انقضاءِ العصر الجليدي الرابع، وقبل سبعةَ عشرَ ألفِ عامٍ، وعلى حوافِّ سلسلةِ جبالِ زاغروس – طوروس؛ يتم العبورُ على شكلِ فرعٍ أساسيّ لأولِ مرة، فهي مرحلةٍ ذات أهميةٍ تاريخيةٍ قصوى تسمى بالنيوليتية، وهذا المجتمعُ المبرهَن وجودُه أركولوجيا قبل حوالي عشرةِ آلافِ عام، وبؤرةُ الأم هي ميزوبوتاميا العليا، حيث يعيش المجتمعُ انفجاراً بالاكتشافات الجديدة وباختراعِ وسائلِ الإنتاج، إنّ ما يُعاشه المجتمع كان أَشبَه ما يَكُون بعصرِ الصناعةِ النيوليتية، وتَسمو المرأةُ الأم في هذه الثقافة إلى منزلةِ الإلهة – الأم، ويَغلب الظنُّ بأنّ دورَها محدِّدٌ ومؤثرٌ في تكوينِ المجتمع الجديد، فالنسقُ (النظام) الأمومي يترك طابعَه الواضحَ على مجتمعِ الكلان.
إنّ ثقافةَ الهلال الخصيب المبرهَن وجودها واستمراريتها لأولِ مرةٍ في التاريخ، قد تم نقلُها إلى ميزوبوتاميا السفلى حوالي أعوام 6000 ق.م، وإلى وادي النيل المصري وبلاد البلقان وإيران وسهوبِ شمالي البحر الأسود في أعوامِ 5000 ق.م، وإلى كافةِ أرجاءِ أوروبا والصين في أعوام 4000 ق.م.
وبسببِ الفترات الطويلة من التطور التاريخي، حظيت كلُّ المناطق الرئيسية بفرصةِ تطويرِ نجوميتيها الخاصةِ بها، ألا أنّ كلَّ الإشاراتِ والدلائل البارزةِ تُظهِر أنّ شرارةَ الثقافة الأولى صادرةٌ من الهلالِ الخصيب كبؤرةٍ أُمّ، فالانتشارُ لم يَعنِ الاستعمارَ أو الاحتلال في ذلك الوقت.
3ـ العصر المدينة السومرية 4000-2000 ق.م
إنّ الثقافةَ المسماة بـ آل عُبَيد، والتي بَرزَت في ميزوبوتاميا السفلى أعوامَ 5500 ق.م، ويُخَمَّن استمرارها حتى أعوام 3800 ق.م؛ تتسم هذه المرحلةُ وثقافتها بالأهميةِ التاريخية، سواء من حيث عبورها إلى المجتمع الأبوي، أو تطويرِها لتقنياتِ صنعِ الأواني الفخارية، وانتعاشِ التجارة واكتسابها الأهمية، بالإضافة إلى اعتمادها على ثقافةِ الهلال الخصيب؛ وبدئِها بعصرِ أولى غزواتِ الاحتلال والاستيطان، ونخص بالذكر بروزَ المجتمع الأبوي، الذي يتميز بأهميته على صعيد التمهيدِ للمدنية.
وهنا تَفقدُ ثقافةُ الإلهة – الأم أهميتَها، وتُرغَم على المرأة على الاعترافِ بالتفوقِ للرجل، كما تَقطَع الإدارةُ الهرميةُ أشواطاً ملحوظةً في تطورها، فلأولِ مرة تظهر البنيةِ الثلاثية لإدارة المدنية الكلاسيكية وحُكمِها في هذه الثقافة على شكلِ مشروعٍ بِدئِيّ.
ثقافةُ أوروك توسعيةٌ وفقاً لطبيعةِ بنيتها، فاتساعُ المدينةِ على جميعِ الأصعدة مع زيادةِ العطاء والإنتاج، وبسببِ تحملها الزيادةَ السكانيةَ، قد أدى إلى ولادةِ المدن المجاورة لها على التوالي، كما إنّ تكاثُرَ المدن يعني زيادةَ المنافسة، فنظراً لأنّ المدينةَ تعني السوقَ في الوقت عينه، فالثقافةُ الجديدة تَحمِلُ معها عنصرَ المنافسة، والتجارةُ باتت مهنةً محطَّ الأنظار أيضاً، بل وكانت الصناعةُ المِهَنِيةُ المعنيةُ بالزراعةِ والمواصلات قد وُلِدَت آنذاك، أما النزاعُ والصراع بين المدن، فسوف يجلب معه مشكلةَ الهيمنة، مما يعني أن سياقَ العبور من دولةِ المدينة إلى الإمبراطورية البدائية ستُقحِم حاجةُ أوروك للتجارة الساحةَ النيليتين في مرحلةِ التمدن والاستيطان مبكراً، وبعدها انقضى عصرِ أوروك الثقافي في 3000 ق.م، وبدءِ عصرٍ جديدٍ مع سلالةِ أور الأولى، من المحتمل أنْ يَكُون هذا التطورُ حصيلةَ الصراع القوي بين المدن ويستمر عصرُ أور الأولى والثانية حتى أعوام 2350 ق.م، ليبدأَ عصرُ السلالة بقيادةِ سارون الشهير فيما بين 2350 – 2150 ق.م. وسارغون، الذي يمكن تعريفه أيضاً بأولِ إمبراطور، لطالما يَفتخِر ويتباهى ببسطِ نفوذه، أي إمبراطورتيه، في الهلال الخصيب بعد خوض حروبٍ دمويةٍ مروعة، وجَعَلَ آكادَ عاصمةً له، وفي أعوام 2150 ق.م، يقوم المنتمون في أصولهم إلى زاغروس بقيادةِ زعيمهم خودا بتدميرِ آكاد وتسويتها بالأرض، ليؤسسوا سلالةً جديدة، وفي أعوامِ 2050 ق.م على وجهِ التقريب تنهار هذه السلالة أيضاً، وسلالةُ أور الثالثة الحالَّة محلها – هي أيضاً – لا تعيش سوى مائةَ عام.
إذ يشير التاريخُ إلى أنّ العصرَ البابلي بدأ في أعوام 1950 ق.م. وتبرز أمامنا ثنائيةٌ في صراعاتِ المدن هذه، فالسومريون هم المجتمعُ الأم الخالقُ للمدنية، ومنشأهم يدل على احتمالِ كونهم شعبا متأتياً من ثقافةِ الهلال الخصيب قبل زمنٍ سحيق، ولكنهم غدوا مستقرين آهلين، لغتُهم أقرب إلى مجموعةِ اللغةِ الآرية، في حين أنها مختلفة بشكلٍ بارزٍ عن الجذورِ الساميّة، وكانت الهجماتُ القبائل العمورية – الساميّة مكثفةٌ متواصلة، علماً بأنّ مدينةَ آكاد وسلالتَها وسارغون نفسَه ذوو أصولٍ عمورية – ساميّة، بل ويَرجح احتمالُ كونه قائداً نشأ وترعرعَ في قصورِ المدن السومرية، واحتلَّ مكانَه في حُكمِها، أما الكوتيين، فغالباً ما يقتربون من السومريين كحلفاءَ، وتعود أصولهم إلى زاغروس – آريان، أيضاً كنظامٍ استمر حتى مستهلِّ أعوامِ 2000 ق.م – اتسمت أثناءَ ولادتِها وتطورِها بنسبةٍ عليا من طابعِ الدموية والاستغلال، وتأسيسِ المدن وتدميرها، والتحالف، والاستيطان، وبسطِ الهيمنة، قد شَهِدَت إلى جانب الزراعة نماءً في التجارةِ، فأسفرَ عن كم كبير من فائضِ الإنتاج، ونظامُ المدنية ذاك المتأسسُ على أرضيةِ هذا الإنتاج، أي الثقافة المادية، يقوم بإنشاءِ ثقافةٍ معنويةٍ مهيبةٍ وعظيمة، ليُؤَلِّه مجموعاتِه الحاكمة.
4ـ عصر المدنية البابلية والآشورية 2000 – 300 ق.م
إن الواقع العملي للمدنية الآشورية، هي تداخُل الاحتكارِ التجاري مع الاحتكار السياسي، واهتمامهما بالحروب، تُشَكِّل آشور الحلقةَ المركزية الأولى الواصلةَ بين المدنيات المصرية والصينية والهندية – قبل الإمبراطورية البرسية – هي الاحتكاراتُ التجارية الآشورية، لقد خلقوا عالَماً تجارياً بِحَدِّ ذاته، إنها شكلٌ من العولمة في ذاك العصر، ومرةً أخرى يتبدى أنّ الاحتكارَ التجاري ليس اقتصاداً، بل يُفرَض على الاقتصاد من الخارج بنسقٍ إرهابيٍّ يَندر وجودُ نظيرٍ له، لينهبَ ويسلبَ الثرواتِ التي جَمَعَتها وأوجدتها الشعوبُ والقبائلُ بِشَقِّ الأنفس وبالكدح المرير، ساطعٌ جلياً مدى استحالةِ ممارسةِ الاحتكار التجاري بدون الدولة، فبينما كانت الاحتكاراتُ السياسية السابقة برمتها متعلقةً بنمطِ الزراعة العبودي، اكتَسَبَت التجارةُ هنا، ولأولِ مرة، ثقلاً يُعادِل ما للزراعةِ منه، وإذا ما عرَّفنا الاحتكارَ التجاري على أنه الرأسمالية، فالاحتكار السياسي يحتل مكانه في المدنية كقوةٍ استعماريةٍ استغلاليةٍ أكثر تأثيراً في نهبِ وسلبِ فائضِ الإنتاج في الزراعة، الإمبراطوريةُ هي شكلُ الحكم الذي تشجعه التجارةُ أكثر من الزراعة، فضمانُ الطرق حاجةٌ ضروريةٌ لتجارةِ المناطق الشاسعة، وهذا ما لا يُؤَمِّنه إلا الإمبراطورية.
من الساطع أنّ الزراعةَ، السوق، التجارةَ الصغيرة، الحِرَفة، وعدداً جماً من الشرائح الخاصة المستقلة هم ذوو فائدةٍ فكدحُ الإنسان في جميعِ هذه الميادين قد أثبتَ قيمتَه المُطوِّرة للإنتاجية والعطاء، وليس من العسير تشخيص عدمِ لزومِ أو جدوى الاحتكار السياسي أو العسكري أو التجاري – الاقتصادي بالنسبة له، فهل كان الاقتصاد سيركد لو لَم تَكُن آشور؟ بالعكس، من المفهوم أنّ الوسطَ الذي يستتب فيه السلامُ والأمن قادرٌ على خلقِ حياةٍ اقتصاديةٍ مغايرةٍ وأكثر إيجابية، والدولةُ باعتبارها الحكم المعادي للديمقراطية، هي قوةٌ مخرِّبةٌ للاقتصاد والمجتمع من خلال البيروقراطية التي تنتجها، والحروبِ التي تشنها، وعملياتِ النهبِ والسلب التي تقوم بها، وحتى ولو كان للمدنيةِ جوانبُها الإيجابية على صعيدِ التمدن، فهي قد طغت عليها الجوانبُ السلبية، فتنسيقُ الإدارة أمر، واحتكاراتُ الطغيان والسلب أمرٌ آخر.
والمهم هنا أن نعرف أن تداخلَ الاحتكار السياسي والتجاري والاقتصادي لا يقتصر على الرأسمالية فحسب، بل ظهرَ منذ أولى بداياتِ المدنية بالتزامن مع التمدن وحكم السلالة، متخذاً لنفسه الخاصياتِ نفسَها، وداهساً الجوانبَ الإيجابيةَ والفعالياتِ الديمقراطيةَ للحضارة، ومحيطاً بها على شكلِ سلسلةٍ متواصلةٍ لا يمكن انفكاكها؛ لِيُحَقِّقَ بذلك وجودَه إلى يومنا الراهن، لِنستمر في التعرف على حلقات تلك السلسلة.
5ـ المدنيات المصرية، الهندية، الصينية، الحثية والفينيقية
إنّ مساهماتِ مصر والهند والصين في النهر الأم للحضارة أنها راقيةٌ للغاية في داخلها، وأنّ بقاءَها صامدةً متماسكةً ردحاً طويلاً من الزمن مَدِينٌ إلى عدمِ لجوئها إلى الاحتكار الاقتصادي، وبالأخص إلى الاحتكار التجاري للمناطق الشاسعة، فثلاثتها تكاد تغيب فيها التجارةُ الخارجية، ويبدو أنّ البنيةَ الداخلية للزراعة والتجارة لا تتيح الفرصةَ كثيراً للاحتكار، فبقدرِ ما يقف الاحتكارُ السياسي الموجود بعيداً عن الاحتكارِ الاقتصادي، لقد قدَّمَت مصرُ مساهماتِها في الثقافةِ والمدنية الأوروبية بقدرِ تأثيرها في الثقافة الإغريقية – الرومانية، في حين أنها بَقِيَت بالنسبة إلى أفريقيا وكأنها لَم تَكُن، لم تتدخل في التجارةِ أبداً، كما جَرَّدَت نفسَها من الشرق الأوسط، وربما كانت من أولى الأمثلة بالنسبة إلى الاشتراكية المشيَّدة بِيَدِ الدولة، لقد انخرطت مصرُ كلياً، والهندُ والصينُ جزئياً في حضارةِ العصور الوسطى عن طريقِ الشرق الأوسط.
أما تجارةُ المناطق الشاسعة، التي عَجِزَت مصرُ عن إنجازها، وتَرَكَتها خاليةً؛ فقد أنجزها القومُ الفينيقيين، كما أنّ الفينيقيين هم أولُ مَن نشرَ وأشاعَ ثقافة الشرق الأوسطية والمصرية في أوروبا، ودورُهم بارزٌ وهام في نقلِ الثقافة المعنوية، إنهم أثرٌ مؤثرٌ في التاريخ الحضاري، بقدرِ الأورارتيين على الأقل.
أما تأثيرُ المَلَكية الإسرائيلية، فقد تَرَكَ بصماته الغائرة في تاريخِ المدنية العالمية، من هنا، وللتعرف على المدنية بشكلٍ كلي، يتوجب بالضرورة تحليل وتفكيك التقاليدِ السومرية والمصرية والعبرية بكلِّ جوانبها.
6ـ العصر الميدي – البرسي 700 – 330 ق.م
للميديين تأثيرٌ حضاري لم يبرز بعد إلى وجه بسيط، من أهمِّ المزايا المعروفة عنهم انتماءهم لأصولِ الهوريين القاطنين في جبالِ زاغروس، وتكوينهم فرعاً على شكلِ قبائل آرية، وقد اكتسبوا هويةً مقاوِمةً تحت نيرِ القمعِ الكثيف للآشوريين، ومن المؤكد أنهم أسسوا اتحاداً كونفدرالياً في مستهلِّ أعوام 700 ق.م، وقد شهدوا صداقةً حيناً وصداماً أحياناً أُخَر مع الإسكيتيين الوافدين من بلاد القفقاس وبتغلبهم على الآشوريين في 612 ق.م، تزداد شهرتهم، وتُفسَح الطريقُ أمامهم، فمن المعلوم أنهم هَزَموا الفريغيين عامَ 585 ق.م على شواطئِ النهر الأحمر، وفي تلك الأثناء يَظهَر علاّمةٌ متمرسٌ مقتدرٌ من بين رهبان الـ ماغ، اسمه زرادشت، ليؤسسَ ديانةً يطغى عليها الطابعُ الأخلاقي، إنها ليست ديناً خالصاً، ولا فلسفةً خالصة، بالإضافة إلى تَمَيُّزِها عن التقاليد العبرانية، إلا أنّ التأثيراتِ المتبادلةَ كثيفةٌ بينهما، وقد تبلورت تأثيراتُ الزرادشتية على وجهِ الخصوص في مرحلةِ أسرِ بَنِي إسرائيل في بابل 595 ق.م على يدِ نبوخذ نصر إمبراطور بابل، كمت تَنظر الحضارةُ اليونانيةُ إلى الميديين بأنهم أكثر أهميةً وارتقاءً من البرسيين، وهم الشعبُ الأكثر ذِكراً في تاريخِ هيرودوت، وحصيلةَ خيانةٍ داخليةٍ عامَ 559 ق.م، يستلم الأخمينيون البرسيون دفةَ الكيانِ السياسي الميدي، لقد تمت تنشئة كيروس، مؤسسُ هذا الكيان، في القصور الميدية، أي أنّ البرسيين والميديين هما العنصران المشتركان المؤسِّسان للإمبراطورية، بالتالي، فالاقتصارُ على القول بالإمبراطورية البرسية تسميةٌ ناقصة.
لقد وَطَّدوا أوسعَ نطاقاتِ الاتحاد السياسي للإمبراطورية البرسية – الميدية في عهدهم خلالَ حيزٍ زمنيٍّ يصل الى ثلاثةَ قرون، ليؤسِّسوا نوعاً من شبهِ دولة، وقد تجسدت مساهماتُهم في الحضارة في البيروقراطية، واعطوا الأهميةَ للتقاليد الأخلاقية.
انتَهَلت الحضارةُ اليونانية العديدَ من عناصرها الثقافية من الميديين والبرسيين، وفي ذاك العصر تَبَلورت معالِمُ التمييز بين الشرق – الغرب، فالعديدُ من اليونانيين موظفون في القصور البرسية، والآلافُ منهم صاروا جنوداً مرتزقة، إنّ تكديسَهم للثروات الكبرى، ومدَّهم نفوذَهم على منطقةِ إيجة على مَدى قرنَين من الزمن، قد طَوَّر معه تياراً مضاداً للبرسيين لدرجةِ الهَوَس، وبات تحطيمُ طَوقِ ضغطِ البرسيين من جهة، والاستيلاءُ على ثرواتهم من جهة أخرى، وكأنه هدفٌ قومي من هنا، فظهورُ الإسكندر وكأنه هرقل الجديد ليس بمحضِ صدفة، فقد أخذ حصته من هذا المناخ، وتلقى تدريباً خاصاً على يدِ أرسطو، فحتى الفلسفةُ اليونانية أَشبَه بثقافةِ المقاومة، وتجاربُ الميديين ضد الآشوريين قد طَبَّقَها اليونانيون ضد البرسيين، إنّ القوةَ الكامنة وراء تمزيقِ الإسكندر – الذي هو مقدوني الأصل، ولكنه ابن الثقافة اليونانية – للإمبراطورية البرسية وكأنها قلعةٌ من ورق؛ نابعةٌ من التركيبةِ الجديدةِ المؤلَّفةِ من ثقافةِ المقاومة الممتدة لمئاتِ السنين، والتنوير الفلسفي بشكلٍ خاص، وروحِ القبيلة المقدونية الحرة.
7ـ الثقافة والحضارة الإغريقية – الرومانية
يتم تقييم الثقافة والحضارة الإغريقية – الرومانية خطأً على أنها بدايةُ الثقافةِ الغربية، حيث لم تَلِد هكذا ثقافةٌ أو حضارةٌ في الغرب، أي في أوروبا، حتى يُقال عنها الثقافةُ والحضارةُ الغربية، إنها تعني نقلَ الأحداث والوقائع – بما فيها المسيحية في العصور الوسطى – وكذلك نقلَ الثقافات والحضارات النابعة من الشرق الأوسط (ميزوبوتاميا ومصر) إلى أوروبا، مع تأخرٍ قَيِّمٍ حتى القرنِ الخامس عشر الميلادي.
فالعصر الإغريقي – الروماني، إنما هي مرحلةٌ حرجةٌ ومتأزمة، فانهيارُ أو ضعفُ الزراعة والتجارة في بعضِ المناطق لأسبابٍ مختلفة، يَجعل الأزماتِ قائمةً دوماً، ومن أهم الأسباب الرئيسية للأزمة: المناخ، الإفراطُ في الإنتاج، النزاعاتُ والصراعاتُ الداخلية والخارجية، الهجراتُ الداخلية والخارجية، أنماطُ الإنتاج المعطاء، النظامُ (الفلسفة) والتنظيماتُ الأكثر رقياً على الصعيد التحليلي في المواضيع والمسائل العسكرية والسياسية والأيديولوجية، فالشرائحُ التي لا ترغب في الزوالِ من الزمر الاحتكارية، بل وتَفرض زيادةَ نصيبها منها؛ تستخدم الصراعات والحروب كوسائلَ إنتاجية، الأمرُ كذلك لأنهم الاحتكارُ المؤسَّسُ على دعامةِ الاقتصاد، ونخص بالذكر الدولَ والمدنياتِ المرتكزةَ إلى الأسسِ التجارية بنسبةٍ أكبر، والتي تَفتح الطريقَ أمامَ الحروب أكثر بسببِ تكرارِ الأزمات الاقتصادية مراراً، في حين أنّ الدولَ والمدنياتِ التي تسيطر عليها الاحتكاراتُ الزراعية ذات المناخِ المساعِد والمرويةُ بانتظام، تَكُون أكثر استقراراً ويستتب فيها الأمنُ والسلام، بسببِ عدم معاناتها الأزمات كثيراً، وإذا ما أمعنا النظر للأمر انطلاقاً من هذا المنظور، سوف نَعِي على نحوٍ أفضل أسبابَ ندرةِ خوضِ الحروب في كلٍّ من مصر، الهند، والصين، عدا بضعةِ تمرداتٍ وانتفاضاتٍ للعبيد أو في بعضِ المدن والمناطق، بينما المدنياتُ ذات الأصول الميزوبوتامية عموماً توسعيةٌ ومحاربَةُ باستمرار، وهذا أمرٌ مفهوم، نظراً لتبعيتها المفرطة للتجارة. فعيشُ مدنياتِ آل عُبَيد، أوروك، أور، بابل، آشور، وبرس في أوساطٍ يسودها الاستيطانُ والتوسع والحروب الدائمة، على علاقةٍ وثيقةٍ بدورِ التجارة الذي لا غنى عنه في مرحلةِ الإنتاج.
كما أنّ كون المدنية الإغريقية – الرومانية في حالةٍ دائمةٍ من الحروب والأسفار البرية والبحرية، سواءً في عهد أثينا، أو بزعامةِ روما؛ على عُرىً وطيدةٍ بوزنِ وثقل التجارة في عالَم البحر الأبيض المتوسط، كشرطٍ ضروريٍّ لا ملاذَ منه، لقد باتت ميزوبوتاميا مهدَ الزراعة والتجارة منذ مرحلةِ تشييدِ المدنية، وتطغى الأسبابُ عينُها بالأغلب على خوضِ البرسيين في الشرق والإغريق والرومان في الغرب "حروبَ الألف عام" عن طريقِ ميزوبوتاميا منذ أعوام 600 ق.م، سواءً لتشبثهم بالمناطق الإنتاجية والتجارية الأولية التابعة لهم، أو لارتباطهم بالتجارة والزراعة في ميزوبوتاميا.
لا وجودَ للمدنية من دون تجارةِ ميزوبوتاميا والتجارة عموماً، فإما أنْ تنهار كلتاهما أو إحداهما فجأةً، أو أنْ تتوازنا وتتكافا، لقد وُجِد الغالِبُ والمغلوب، لكنّ حالةَ التوازن، ومراحلَ عدمِ غالبية كِلا الطرفَين كانت أطولَ زمناً، كمثالٍ على ذلك مجدداً: الصراعُ والتوازن بين آل عُبَيد وأوروك، فقبل ذلك كان كِلاهما في حالةِ صراعٍ وتوازن مع المجتمع في ميزوبوتاميا العليا، كما نشبت صراعاتٌ مهوِّلة بين سلالاتِ أور وأكاد، وحصل التوازن بينها، ولكن، ثمة أيضاً مراحلُ مُسِحَت فيها أور وأكاد من صفحاتِ التاريخ.
هذا وشهد الأكاديون والكوتيون مراحلَ اشتباكاتٍ وسحقٍ وتوازن، فضلاً عن أنّ بابل وآشور كانتا متوازنتَين ومتصارعتَين، كما مرت مراحل من الحرب الضروس والتوازنات بفواصلَ زمنيةٍ متقاربةٍ فيما بين البابليين والآشوريين من جهة، والهوريين عموماً من جهة ثانية (بما فيهم الحثيين، الميتانيين، الكاسيين، الميديين، والأورارتيين)، في حين أنّ مراحلَ التوازن والحرب حافظت على وجودها بين الحثيين والمصريين، وفي نهايةِ المآل، نشبت حروبُ "الألف عام" (550 ق.م – 650 م) بين الإغريق – الرومان والبرسيين – الساسانيين، هكذا هي الصراعاتُ والمسالماتُ داخل زمرِ المدنيات وفيما بينها!
فضلاً عن أنّ مقاوماتِ وتمرداتِ الشعوب والقبائل والعبيد الأرقاء والمدن (الحِرَفِيين) تجاه فرضِ إرفاقهمِ عنوةً بالمدنية، أي بالعبودية والنهب والسلب التجاري؛ تُمثل فئةً أساسيةً أخرى لا تَعرف الخمودَ والهوادة، فالمدنيةُ نظامٌ عبودي دموي تعذيبيٌّ واستعماري استغلالي، لا يقتصر وجودُه على فائضِ القيمة في الرأسمالية (رأس المال) وحسب، بل ويكمن وراءَ الإنتاج الزائد (رأس المال) على مَرِّ خمسةِ – ستةِ آلافِ عام.