خلال العقد الأخير تحولت السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية نحو تنوع العلاقات وخلق محاور جديدة وفقا لتقاطع المصالح، رغم استمرار التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية حيث اتبع محمد بن سلمان ولي العهد سياسة مرنة في تنويع العلاقات الخارجية بالانفتاح على محور المعسكر الشرقي الذي تقوده روسيا والصين بعد صعودهما كقوتين اقتصادية وعسكرية مناوئة للهيمنة الأمريكية على العالم.
الأوبك مدخلا للتعاون بين موسكو والرياض
جسدت حرب أوكرانيا أحد أهم العوامل المؤثرة على سلاسل الإمداد العالمية وخاصة النفط كسلعة استراتيجية تتأثر بالحروب، ما كان مدخلا لتعاون سعودي روسي داخل منظمة الأوبك بلي التي دائما ما ترتهن بتعليمات البيت الأبيض، إلا أن اندلاع الحرب الأوكرانية وما أعقبه من توترات بين واشنطن والرياض دفع بن سلمان إلى التعاون مع بوتين والتأثير على قرار منظمة الأوبك بتخفيض إنتاج النفط بهدف رفع أسعاره لتستفيد أكبر دولتين منتجتين للنفط من الأوضاع القائمة حينها وسط تهديد ووعيد أمريكي، نظرا لتأثير القرار على المواطن الأمريكي الذي فوجئ بارتفاع أسعار البنزين وغيره من السلع المرتبطة بالنفط، إلا أن هذا التحرك جاء كرد فعل على ضغط البيت الأبيض على المملكة دون أن يكون توجها استراتيجيا جيدا.
الدكتور رامي القليوبي الأستاذ الزائر بكلية الاستشراق في المدرسة العليا للاقتصاد بموسكو قال في اتصال هاتفي لوكالة فرات للأنباء (ANF)، إن معادلة الأمن مقابل النفط التي كانت تربط واشنطن بالرياض تراجعت بعض الشيء بعد اكتشاف النفط الصخري الأمريكي، إلا أنه لم يؤثر بالفعل على التحركات السعودية بما يمكن وصفه بتحجيم الدور الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، خاصة بعد انتخاب ترامب، لافتا إلى أن العلاقات السعودية الروسية جيدة إلا أنها لا ترقى إلى تعاون متكامل يستهدف خلق نظام عالمي جديد، فالأمير محمد بن سلمان لم يفعل عضوية الرياض في البريكس وروسيا تتفهم هذا الأمر، ورغم ذلك هناك طموحات مستقبلية للتعاون من خلال بريكس على صعيد التسليح والاقتصاد والتكنولوجيا، وأشار إلى أن الرياض سبق وأن وقعت في 2017 مذكرة تفاهم مع شركة روسية لتصدير الأسلحة والمنتجات العسكرية لتطوير قطاع صناعة الأنظمة العسكرية والأسلحة في المملكة، إلا أن تنفيذ الاتفاقية لم يتم بسبب تدخل الطرف الثالث.
تَحول تعقيدات المشهد العالمي دون تطلع السعودية وروسيا إلى ترقية العلاقات بين البلدين لمستوى رفيع نظرا لتقاطع المصالح بينهما في العديد من الملفات ومن بينها الملف السوري والإيراني واليمني فضلا عن ملف إسرائيل، وضمن تلك المساعي نجحت موسكو في إقناع المملكة بإنهاء عقود من الخلافات بينها وبين طهران حيث تجيد روسيا سياسة الحياد الاستراتيجي بالجمع بين الخصوم لتحقيق مصالحها دون أن تتعارض مع توجهات أي من الخصمين، وبالفعل تمكنت موسكو بمعاونة بكين من طي صفحة الخلاف السعودي الإيراني بإعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين والتنسيق في الملف العراقي والسوري وهو ما نتج عنه عودة بشار الأسد إلى مقعد الجامعة العربية.
استراتيجية التوجه نحو بكين
الدكتور تيمور دويدار المحلل السياسي المختص بالشأن الروسي قال في اتصال هاتفي لوكالة فرات للأنباء (ANF)، إن حجم المعاملات الروسية السعودية لا يصل إلى 3.5 مليار دولار سنويا وهناك علاقات شخصية بين بوتين وبن سلمان فضلا عن العلاقات مع الدول الخليجية والعربية، كما أن هناك حواراً فكرياً بين روسيا ودول المنطقة بخصوص تصحيح الأوضاع العالمية ومن بينها ملف النفط، لأن كل المشاركين في أوبك بلس لديهم مصالحهم التي تتوافق مع مصالح روسيا أحيانا، ونشهد الآن تكثيف إنتاج النفط السعودي وانخفاض الأسعار بما يتوافق مع تطلعات ترامب في أثناء الانتخابات، حينما صرح بأنه يأمل في أن يصل سعر برميل النفط إلى 40 دولاراً للضغط على روسيا اقتصاديا وإجبارها على عدم استكمال عملياتها العسكرية في أوكرانيا، وهذا ما يعوق الارتقاء بالعلاقات بين موسكو والرياض ويمكن تسميته بتدخل الطرف الثالث، ومن ثم فإن روسيا والسعودية ليس لديهما إمكانية لتحجيم الدور الأمريكي في الشرق الأوسط –وفقا للمعطيات الراهنة- فهناك قواعد عسكرية أمريكية في أغلب دول المنطقة، كما أن الدور الأمريكي يعتمد على وجود إسرائيل التي تمثل امتدادا للنفوذ الأمريكي في المنطقة.
وحول إمكانية التعاون لخلق نظام عالمي جديد، يتطلب الأمر خلق توافق فكري بين روسيا ودول المنطقة على ضرورة التخطيط لمستقبل البشرية فالحضارة الرأسمالية أظهرت عنفها وسفكها للدماء ويجب خلق فكر سياسي واقتصادي جديد يضمن قيم التعايش وهو ما يتطلب رؤية محددة وهذا غير موجود لا في روسيا ولا الدول العربية، وربما تكون الهند والصين وروسيا التي تمثل المحور الأساسي في بريكس هي من تقود ثورة التصحيح مستقبلا، وبالتالي فإن الدور السعودي لم يرتق إلى تطلعات روسيا بغض النظر عن النوايا، لأن الأمر يحتاج إلى تطور في الأفعال فالتبادل التجاري بين البلدين مؤشر على خمول العلاقات وتحكم الطرف الثالث، وإذا ما تغيرت قواعد اللعبة الاستراتيجية قد تمثل السعودية رقما مهما مع روسيا في خلق حالة من الاستقرار العالمي.
لم يقتصر الطموح الروسي على تغيير وجهة السياسة الخارجية السعودية المتحفظة فيما يخص ملف التعاون الاقتصادي والسياسي بين الدولتين وإنما كان مدخلا نحو التوجه إلى بكين في ملفات التسليح والصناعة والتطور التكنولوجي كما حاول بوتين ضم السعودية إلى دول البريكس ولاتزال المفاوضات جارية في هذا الشأن، وضمن التوجهات الجديدة للمملكة عقدت الرياض قمة سعودية صينية أواخر 2022 أثمرت عن توقيع اتفاقية شراكة استراتيجية شاملة خلال زيارة الرئيس الصيني إلى المملكة شملت مجالات من بينها الطاقة والبنية التحتية، بقيمة 30 مليار دولار، حيث تسعى الصين إلى النهوض باقتصادها الذي تضرر بفعل جائحة كورونا، بينما تتطلع السعودية إلى تنويع تحالفاتها الاقتصادية والسياسية بالإضافة إلى خطة التوفيق بين أجندة الإصلاح الاقتصادي الطموحة في السعودية رؤية 2030 ومبادرة الحزام والطريق الصينية.
صفقات السلاح الصيني
وتعد روسيا الدولة الثانية عالميًا في صادرات الأسلحة بحصة عالمية 20% خلال الفترة من 2016 إلى 2020، كما احتلت السعودية المرتبة الأولى للدول الأعلى استيرادًا للأسلحة في العالم بنسبة واردات من الحصة العالمية 11%، ومؤخرا تحاول المملكة اقتناء مقاتلات روسية متقدمة بعد رفض ألمانيا تسليمها طائرات يوروفايتر، وفي 2023 أجرت الرياض محادثات مع بكين لاقتناء طائرات قتالية (جيه-10 سي) وفقا لموقع ميليتاري ووتش المتخصص في الأمن والدفاع وطائرات بدون طيار ومسيّرات انتحارية من طراز Cruise Dragonونظام الدفاع الجوي قصير المدى HQ-17.، مقابل بيع النفط باليوان الصيني في إطار مواجهة الدولار ضمن تحركات القوى العظمى لخلق نظام عالمي تعددي جديد.