نعتقد أن من جملة المواضيع والقضايا المهمة في منطقتنا هي رصدنا وبحثنا في مسألتي الاستقلالية والسيادة، لكون مجمل الأزمات والتحديات التي تعترض شعوب ودول المنطقة، وكذلك مقاربتهم لها ترتبط بشكل كبير في مدى وأهمية توفر المقدرة الذاتية كشعوب ومجتمعات ودول المنطقة على قراءة ودراسة ومناقشة الأوضاع المتأزمة، ووضع آليات التعامل مع المشاكل والأزمات والقضايا العالقة، وكذلك وضع الحلول الديمقراطية المناسبة وتنفيذها في المكاسب بشكل حر ومستقل وبما يحقق السيادة الوطنية المجتمعية.
لقد ربطت العقلية الدولتية السلطوية القومية (العلمانية والدينية) السائدة في غالبية دول ومجتمعات الشرق الأوسط ومن ورائها النظام العالمي المهيمن، مفهوم الاستقلال بظواهر وهمية ومنتوجات ظاهرها الاستقلال ولكن جوهرها ليس بالضرورة الاستقلالية، كوجود هياكل سلطوية وأجهزة فاسدة وقوانين تشرعن الإقصاء والإنكار والإبادة، كالدولة القومية التي لها رئيس وبرلمان ودستور وفق منطقية سلطوية أحادية، ولها علم قومي واحد ونشيد قومي واحد ولغة واحدة وحدود مرسومة مفروضة ورئيس بلون ديني وقومي واحد، من دون إخضاع كل هذه الأدوات السلطوية لنقاش جدي على مدى تمثيلها للحقيقة المجتمعية وخدمتها لأبناء المجتمعات وشعوب المنطقة، وكأن المقدس ليس هو كرامة المجتمع والإنسان واحتياجاتهم من الحرية والديمقراطية، بل هذه الاختراعات الاحتكارية بغرض فرض القدسية على أمور وأدوات التسلط والتفرد في الحكم والهيمنة والنهب.
إن الاستقلال والسيادة القائمتان على النمطية التجانسية القسرية القائمة على إبادة التنوع والتعدد الإثني والديني في مجتمعاتنا في الشرق الأوسط لبناء دولة قومية، ماهما إلا تحقيق لحالة تبعية شاملة وكاملة لنظام الهيمنة العالمي وفق مصلحة نخبوية تحكمية احتكارية، لأن عندها سيكون الاستقلال والسيادة بالضد من الحقيقة المجتمعية القائمة على الاحترام والتعاون والتكامل والاتحادية بين مختلف التكوينات الاجتماعية، وبالتالي ستكون الدولة وسلطتها في حالة خوف وعداء كبير مع شعوبها، لأنها تعلم أنها لا تمثل صالحهم وازدهارهم، بل هي التي قتلت الحياة وفتحت البنية الاجتماعية ومصادر البلد للاستغلال والنهب للقوى المركزية وشركاتها في النظام العالمي والإقليمي.
إن ما تسمى مفهوم رسمية الدولة أو شرعية السلطات المنتخبة في دول الشرق الأوسط والتي في غالبها تكون في ظروف غير مناسبة وشروط ملتوية، لا تلغي حجم التبعية وتأثيرها السلبي على الإرادة الوطنية أو المجتمعية، عندما يتم الطلب من الأخرون وفق أية صيغة أو اتفاق بالتدخل لمعالجة ظروف مستجدة في البلد لا تتوافق مع أهواء السلطات والدول، عندما تقول الشعوب كلمتها وموقفها الحر أو عندما تكون سرقتها والفساد وعدم تلبية حاجاتها هي مصدر الانزعاج والسخط والتحرك.
لا يمكن أن تتحق السيادة الكاملة لأي هيكل أو إدارة أو جهاز بشكل صحيح، وفي مواجهة التحديات والتدخلات، إلا إذا كانت تعبرعن السيادة المجتمعية أو مصالح العامة، ومن يبحث ويتكلم عن السيادة السياسية والاقتصادية ويتشدق بهما، عليه أن يحقق أولاً وقبل كل شيء سيادة الشعب والمجتمع على هذه الدول القومية وأجهزتها القمعية ومؤسساتها المترهلة، وأن يكون المحرك والدافع لها هي أولويات المجتمع ومصالحه.
ليس للشرق الأوسط ودولها وممالكه ومنذ القرن الثاني والثالث عشر وخاصة في المئة السنة الأخيرة، أية سيادة أو استقلالية، والغالب هي حالات من التبعية المباشرة أو غير المباشرة، لأن الاستقلالية والسيادة تتطلب توفر جملة من العوامل والمعطيات وعناصر القوة الذاتية، أهمها وجود استقلالية فكرية وثقافية، وليس كما هو الحال الحالي مع الهيمنة الفكرية الغربية (الاستشراق) الحاكم لدى أغلب النخب الفكرية والسياسية والثقافية.
ولعلنا نقول الصح، إذا قلنا إن الاستقلالية والسيادة لهما علاقة ترابطية عضوية مع الحرية والديمقراطية، فلا يمكن أن تتوفر الاستقلالية والسيادة في بلد أو مكان أو مجتمع لا يملك حريته أو ليس لديه مؤسسات مجتمعية ديمقراطية معبرة عن إرادتهم الحقيقية.
وإن كان البعض يعرف الاستقلالية بأنها التحرر والتخلص من أية سيطرة أوهيمنة للقوة الخارجية، فلا بد عندها أن نشير أن غالبية دول الشرق الأوسط وسلطاتها ومنذ الحرب العالمية الأولى وحتى الآن لم تحقق مفهوم الاستقلالية هذا، لأن القرار والإرادة الحقيقية المؤثرة في اتخاذ القرار الاستراتيجي في غالبية دول المنطقة ما زال يخضع للإملاءات والأجندات الخارجية بعيداً عن مصالح الشعوب واحتياجاتهم. ورغم الوجود الظاهري والهيكلي لما تسمى مؤسسات الدولة السيادية والأعلام والأناشيد والرموز الوطنية الشكلية، ونظم التعليم والصحة والإعلام ورغم توفر الأعلام والأناشيد والعطل والأعياد القومية ونظم التعليم والصحة والأمن، إلا أن السيادة ما زالت منقوصة والاستقلال وهمي ومخادع، والأهم أنه عندما يتم نقاش وبحث السيادة تتم مناقشتها بعيداً عن الشعوب والمجتمعات وكأن السيادة والاستقلالية ممكنة بدون الشعب أو المجتمع.
نعتقد أن في أية دولة أو مجتمع لتحقيق الاستقلالية والسيادة، لا بد من توفر شرطين أساسيين، هما الدفاع الذاتي والاقتصاد المجتمعي، حيث إن أي مجتمع لا يستطيع الدفاع عن نفسه أو يسلم واجب ومهمة دفاعه عن نفسه للآخرين، لا بد أنه سيعيش الخضوع والذل والاحتلال، وكما أن من لا يملك حق التصرف والانتفاع من موارده وثرواته ويسلم كده للأخريين، فهو سيعيش فقيراً ومحتاجاً وتابعاً ليس في المجال الاقتصادي بل سيكون تابعاً للأخريين في كافة المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية والتعليمية، ومن المهم أن نشير أيضاً أن مقدرة أي مجتمع على بناء الدفاع الذاتي والاقتصاد المجتمعي مرتبط بشكل كبير بتوفر وإنشاء الذهنية المجتمعية التشاركية والإرادة الحرة المنظمة وهذه تتطلب تحقيق تحول ديمقراطي حقيقي في عقلية ورؤية وسلوكيات الإنسان الذي نعول عليه، وكذلك في المؤسسات التي تتطلب فيها جمع طاقات المجتمع وصقلها وتنويرها، بالاستقلالية والسيادة بقناعتنا ليس جوانب مادية فقط بل هي تركيب بين الجوانب المادية والمعنوية، ويمكننا تحقيق الاستقلالية والسيادة في نفس وذهنية وعقلية الإنسان وسلوكياته أولاً قبل أن نتكلم عن السيادة الجمعية أو سيادة الدولة، فالإنسان المفتقد للتوازن المستقر في شخصه وعقله يستحيل أن يكون قادراً أو مساهماً في بناء أي سيادة مجتمعية أو سيادة لبلده، وعليه فالسيادة والاستقلال تبدأ من بناء الإنسان الحر والمجتمع الديمقراطي، حتى نكون أمام إرادة وقوة قادرة على تحقيق الاستقلال والسيادة مرتكزاً على المجتمع والشعب كأهم مصدراً وقوة لتحقيق الاستقلالية الحقيقية والسيادة الكاملة، أما الدوران في فلك ما تسمى قوى الهيمنة العالمية والبحث عن أدوار وظيفية وأداتية لبناء استقلالية وشرعية مضللة، فلا يفيد بشيء سوى في إطالة عمر بعض السلطات والشخصيات التي يتم التخلص منهم عادة بعد أدائهم الأدوار المطلوبة منهم، وبذلك العودة مجدداً إلى المربع الأول ووهم الاستقلال الدولتي القومي، وعليه ليس للسلطة ومفهوم الدولة القومية استقلالية أو سيادة ولكن عندما تتحقق فيها التحول الديمقراطي ويكون المجتمع هو صاحب الإرادة والقرار، عندها يمكننا أن نبحث ونحقق الاستقلال والسيادة، لأن من لا يملك نفسه ولايديرها لا يستطيع أن يملك سيادته، والدولة القومية ليست ملك لذاتها أو للشعوب التي تحكمهم وهي مؤسسة تابعة للنظام الرأسمالي العالمي المهيمن مهما تم إخفاء ذلك.