رُسْتم جُودي وظِلال الأيديولوجيا
مع تَواري الاهتمام بالأيديولوجيا، وفي حين تُصِرُّ القوى المُهيمنة على العالم على تصدير صورةٍ مفادُها أن "زمان الأيديولوجيا قد مَضَى بغير رجعةٍ"، يقفُ العالم في تيهٍ كَمَن فقد بوصلته وصوابه.
مع تَواري الاهتمام بالأيديولوجيا، وفي حين تُصِرُّ القوى المُهيمنة على العالم على تصدير صورةٍ مفادُها أن "زمان الأيديولوجيا قد مَضَى بغير رجعةٍ"، يقفُ العالم في تيهٍ كَمَن فقد بوصلته وصوابه.
ما من أزمةٍ يشهدها العالم حالياً، إلا وتَطُلُّ الأيديولوجيا برأسها كسببٍ أو دافعٍ لإشعال الصراعات إما دفاعاً عن هويةٍ معينةٍ، أو سَبيلاً للتَحَرُّرِ من هيمنة الرأسمالية العالمية ومساعيها لإعادة استنساخ حالةٍ استعماريةٍ بصورةٍ تُناسب العصر الحالي. لكن حالة الإنكار التي يُبديها مناصروا الرأسمالية حول العالم لجدوى الأيديولوجيا وأهميتها، تذوب أمام أصوات الاستنهاض وقوى المقاومة التي تتغذى عليها من عوالم الأفكار وأمواجها العاتية، تلك العوامل التي يستحيل أن ينهض مجتمع بدونها كما يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي. إنها أمواجٌ لا تهدأ حتى تجود على البشرية بأصداف ولآليء الفكر الإنساني بما يُعيد العقل البشري إلى رشده وصوابه بعيدا عن انحرافات الرأسمالية وتشوهاتها.
في هذا الإطار يَطُلُّ علينا المُفَكر والمناضل الكُردي رُستُم جُودي كواحدٍ مِمَّن خاضوا مسيرةً امتزج فيها الطابع الحركي بالفكري حتى فاضَت تجربتهم في الحياة بالدروس والعِبَر، بما يجعل من اسم "رسم جودي" واحداً من الأسماء اللاَّمعة ليس في الفكر الكردي فحسب، بل في الفكر الإنساني عامة؛ لاسيما وأن نطاق ما قدمه جودي من طرح وتنظير قد اتسع ليشمل قضية إنسانية غاية في الأهمية، وهي قضيةُ تَحَرُّرِ النفس البشرية من كافة أشكال الهيمنة والإخضاع بما يجعل التبعية واحدة من متلازمات الوجود البشري.
وفي سبيل إخراج الإنسان من دائرة التبعية ينظر رستم جودي إلى الأيديولوجيا كدربٍ مستقيم نحو تحرر الإنسان. وفي سبيل ذلك، يقدم جودي في كتابه الذي يحمل عنوان "الأيديولوجيا" طرحاً نقدياً تحليلياً يربط من خلاله بين الأيديولوجيا وإرادة الإنسان ومصيره، حيث يعرفها باعتبارها تتضمن "منظومة الفكر وإبراز الإرادة"، أي أنها تجعل الإنسان ذات إرادة واستقلالية عند رسم كافة أشكال الحدود، بل إنها تخلق مقاييس الرفض والقبول في المجتمع بشكل عام، وبدونها يصبح المجتمع عقيماً غير معطاءٍ، بل ومنفتح دوما على التلقي والتقليد لا على الإبداع.
التنظيمات لا تنهض بدون الأيديولوجيا
مع سيادة الأنماط المختلفة من التنظيمات الرسمية وغير الرسمية في بلدان الشرق الأوسط على أنماط تتوارى في إطارها الأفكار العميقة وتسود معها الكثير من القيم اللاإنسانية، تبدو الحاجة أكثر إلحاحاً لعودة الأيديولوجيا لتتبوأ مكانتها في الأبنية والأطر التنظيمية المختلفة، وهو ما يؤكد عليه رستم جودي حينما يقول بأن "التنظيم الذي يُحرَم من القدرةِ الأيديولوجية محكومٌ عليه بالانهيار، فالقدرةُ الماديةُ والكمية غير قادرتين على انقاذه". بل إن هذه التنظيمات أيا كانت أشكالها لن تتوفر لديها أية قدرة على الإنجاز، مهما توفرت لديه من إمكانات مادية، ما لم تتوفر لديه الإرادة.
الهوية الأيديولوجية وحماية العقل
وللأيديولوجيا وظائف عديدة، يرصدها رستم جودي، تقف في مقدمتها "حماية العقل" في إطار ما يعرف بـ "الهوية الإيديولوجية"، فإذا لم يجهز الإنسان نفسه من الناحية الأيديولوجية بشكل كامل، وإذا لم يستند النظام السياسي والإداري بالمجتمع على أرضية أيديولوجية وقناعة إيمانية، فمن المستحيل أن يصمد هذا المجتمع، بل وسيكون الانهيار مصيراً حتمياً له. فالمجتمع الذي حُرِم من القوة الأيديولوجية وأُقصِيَ من الأيديولوجيا إنما هو مجتمع تابع، ليس لديه قدرة على الرد والرفض، بل سوف تفرض عليه الإملاءات وسيقبلها مضطراً، فمن خلال الأيديولوجيا يستطيع الإنسان أن يقول "لا" لعدوه مهما كانت الفوارق في القدرات العسكرية ضد، فإذا كنت مسلحا بالأيديولوجيا سوف تقول لا رغم أي شيء، لاسيما وأن تلك الحالة لا تتوفر معها الدراية الكاملة بالمصلحة العامة، ويجهل أفراده سبل العيش ومعاني الحياة ومغزاها. بناء على ذلك، ينزلق المجتمع نحو التبعية واللهث خلف الآخرين دوماً.
هنا يقول رستم جودي "لذلك تسعى الإمبريالية جاهدة أن تحرم المجتمعات من قدرتها الأيديولوجية"، بل إنه يرى أن الإمبريالية أخطر من جميع الأنظمة السابقة عليها لأنها ترى نفسها كنظام غير قابل للجدل، إنها لا تضع نفسها موضع الاستجواب أبداً. فلسان حالها يقول أن تاريخ العالم كله كان تاريخٌ همجيٌ رجعيٌ فاسدٌ، والآن قد وصل العالم إلى حقيقته في جسد الرأسمالية وهيئتها. وفي حين يغيب عن هذا العالم ما يعرفه جودي بـ "النضال الأيديولوجي"، فإنه لا يوجد سوى شيء واحد فقط وهو القيم العامة المتمثلة في القيم السياسية والحقوقية والأخلاقية والثقافية، وهي تلك القيم التي تتم صياغتها في لندن وواشنطن وغيرها من عواصم الغرب لكافة دول العالم.
الأيديولوجيا كوعاء لحشد المجتمع للحفاظ على مصالحه والقضاء على التسلط
يرى رستم جودي أن الأيديولوجيا تمثل نظاماً للفكر والأخلاق والثقافة والعقيدة، إنها نظام يضم في طياته ميادين عدة من الحياة، ويمثل مصالح المجتمع الذي استطاع الإفصاح عن نفسه بأن يصبح ملكا لذاته، يناضل ضد التسلُّط وعدم المساواة، ضد التقسيم وتسلُّط الرجل على المرأة، ضد طبقة على أخرى، وشعب على آخر، أو تسلُّط الإنسان نفسه على الطبيعة. إنها، أي الأيديولوجيا، تحشد المجتمع الإنساني ضد كل هذه الهيمنات. فالأيديولوجيا هي فكر تسود فيه أخلاق المجتمع وثقافة المجتمع بشكل يعكس النضال الذي ينهض بالناس ليقوموا بالنفير العام ضد عدوهم حينئذ تصبح الأيديولوجيا ذات معنى.
فمهما زعم البعض بوجود أيديولوجيا، إلا أن الأمر لن يظل هكذا ما لم تدخل في خدمة حل معضلات الشعب، إننا هنا لسنا بصدد أيديولوجيا، بل هي حالة من التبعية للآخرين. فالأيديولوجيا، كما يرى رستم جودي، "أكثر من أن تكون مجرد ذكر أشياء لفظية وبعيدة عن بعض الصياغات". إنها تعزز ردود فعل المجتمع والشعب ضد كل ما هو خاطئ. لذلك، فإن أول شرط يجب تغيير فهم الإنسان لها لأن هذا مهم للغاية، وبالتالي فالأيديولوجيا ليست مرادفة لكلمة الثرثرة، كما أنها ليست مرادفة لكلمة الحفظ على النقيض من ذلك تماما، إنها تنطوي على القدرة على رفع مستوى ردود أفعال الإنسان ضد اللامساواة والهيمنة والصهر والإنكار، بل إنها تكمن في البحث عن الحق والعدالة والعلم والحرية.
الأيديولوجيا لابد أن تواكب روح العصر
يؤكد رستم جودي على أنه عند إهمال "النضال الأيديولوجي" سوف تتعرض الثقافة العامة بالمجتمع والآخلاق وكذلك معايير النضال، سوف يتعرض كل ذلك للتجاهل، حيث يغيب النضال الأيديولوجي الذي يشترط فيه أن يتسق مع روح الزمن، بل ينبغي أن يواكب العصر وألا يكون كقوالب ذهنية مطلقة. لذا فالأيديولوجيا التي لا تواكب روح العصر تظل متناقضة مع حقيقة المجتمع بما يخلق معها أزمات عميقة. هنا يجب على الأيديولوجيا أن تخلق وسائلها لإيصال نفسها إلى عقول الناس وتجددها من الناحية الذهنية. لكن هناك الجانب الأهم وهو الجانب الوجداني؛ حث يجب إثراء الوجدان، حتى يَصُبُّ "النضال الأيديولوجي" في خدمته وذلك عن طريق رفع مسوى اليقظة والمسؤولية تجاه القيم. فإذا كان إنسان ما يقظاً وحساساً تجاه القيم فمعنى ذلك أن هذا الإنسان "وجداني"، أما إذا كانت يقظته ومسؤوليته ضعيفة فهذا يعني أنه "ليس وجدانياً".
الأيديولوجيا تُعَرِّف الإنسان بذاته
يذهب رستم جودي أن للأيديولوجيا أن للكفاح الأيديولوجي دورا في تعريف الإنسان بذاته وحقوقه، ورفع مستوى الوعي بمضامين الحياة الإنسانية وقيمها، وفهم معاني مثل الجغرافيا والجسم والعقل واللغة والحياة الأيكولوجية الحقيقية بشكل عميق، فبدون هذه القيم لا يستطيع الإنسان العيش بشكل سليم، بل إن أي اعتداء عليها يجب أن يتسبب في حلقة رد فعل كالانتفاضة والمقاومة والكفاح بشكل عام.
الأيديولوجيا ترسخ دور القوى الحيوية بالمجتمع
يدافع رستم جودي عن دور الأيديولوجيا في النهوض بدور القوى الحيوية الفاعلة في المجتمع، بما يجعلها ملموسة وعلنية ومتسقة مع حقيقة الزمان والمكان ومتناغمة مع الروح أيضاً. وتتمثل هذه القوى الحيوية في المرأة والشبيبة، ذلك أنه لو تم حل مشاكل المرأة والشبيبة فسوف تحل معها مشاكل المجتمع أيضاً. حيث يرى رستم جودي أن مقياس تطور المجتمع يرتبط بمستوى تقدم المرأة والشبيبة فيها، فإذا كانت الشبيبة في وطن ما يعيشون حالة من اللامبالاة وتنعدم لديهم المسؤولية تجاه المشاكل القومية والإنسانية والأيكولوجية أي تجاه مشاكل المجتمع بشكل ما، إذن لا يوجد هناك كفاح أو نضال أيديولوجي في ذلك الوطن. كما أن هذا النضال يتعين أن يخاطب الشبيبة حتى يمكن تحقيق التقدم على نحو أفضل، أما إذا لم يكن هناك تغيير وسادت اللامبالاة والتقليد. وإذا كانت المرأة والشبيبة في مستوى متدنٍ، حينئذ لا يوجد هناك نضال أيديولوجي بالأساس.
من خلال مسيرة سردية يدافع فيها رستم جودي عن الأيديولوجيا ودورها في حياة الإنسان، يخلص جودي إلى أنه في حين تكون هذه الأيديولوجيا ضرورية لجميع الناس، إلا أنها تظل على قدرٍ أكبر من الأهمية بالنسبة للثائرين، حيث تظل على درجةٍ عالية من الإلزام، لأن الأيديولوجيا بالنسبة للثائرين تكون بمثابة المُحَفِّز والمُوَجه الداخلي، حيث تُبَيِّن سلوك وحركة المرء اليومية، فإذا كان مُشْبَعاً من الناحية الأيديولوجية سيكون له سلوكه اليومي.
أخيرا، تبقى الأيديولوجيا عند رستم جودي وعاءً قادراً على تفسير كل شيء في إطار الإرادة الإنسانية، فالإنسان الأيديولوجي الذي تَمَكَّن من بناء نفسه وإنجازها يَظِلُّ قادراً على تفسير عالمه المحيط به بالإرادة لا بالإمكانات أياً كانت تنوعاتها ومدى توفُّرها لديه. كما أن الإنسان الأيديولوجي يمتحن إرادته أكثر من الإمكانات، حيث يفسر نجاحه وفشله بقوة الإرادة التي أبداها، أما إذا كان فاشلا فإنه لم يكن أبدى القدر المطلوب من الإرادة. هكذا سيكون التفسير صحيحاً، لا بالإمكانات المادية والظروف، بل بالإرادة. وهكذا يقف رستم جودي رافعاً راية الأيديولوجيا كسبيلٍ لاستنهاض الإرادة الكامنة لدى النفس الإنسانية من أجل تحررها والتخلص من كافة أشكال الهيمنة، ومواجهة مساعي إخضاع الإنسان التي تنتهجها قوى الرأسمالية للإبقاء على تبعية شعوب العالم بشكل عام وشعوب الشرق الأوسط على وجه الخصوص.
بقلم الباحث المتخصص في شؤون الشرق الأوسط وسياسات الهوية: الدكتور طه علي أحمد
المصدر: مركز آتون للدراسات