مانديلا وأوجلان.. الليل الطويل إلى فجر الحرية

أكد البروفيسور محمد رفعت الإمام أن بناء أمم حرة، يستلزم جهوداً شاقة وشخصيات تمتلك إرادة واعية وذات رؤية قادرة على مواجهة التحديات وامتلاك أدوات الصمود أمام الاستبداد.

كتب البروفيسور والدكتور محمد رفعت الإمام، استاذ التاريخ الحديث والمعاصر والعلاقات الدولية وعضو المجلس المصري للشؤون الخارجية، والعميد السابق لكلية الآداب في جامعة دمنهور بمصر مقالاً بعنوان (مانديلا وأوجلان: الليل الطويل إلى فجر الحرية).

وكان نص المقال كالآتي:

إن بناء أمم حرة، يستلزم جهوداً شاقة وشخصيات تمتلك إرادة واعية وذات رؤية قادرة على مواجهة التحديات وامتلاك أدوات الصمود أمام الاستبداد والطغيان.

من المفارقات أن هذه السمات قد تجمعت بامتياز في شخصين يختزلان تاريخ وجغرافيا التحدي والاستجابة من أجل تحرير شعبيهما من الطغاة البغاة، وهما المناضل الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا والقائد المفكر عبد الله أوجلان.

ورغم تباعد القائدين مكانياً وزمانياً، فمن يتأمل في سيرتهما ومسيرتهما، يجد ثمة تشابه يكاد يتطابق في خارطتهما مظهراً وجوهراً. ولاختبار مدى مصداقية هذه المقولات، نقرب المجهر على حياتيهما ومراحل كفاحيهما، لنقف على العلامات الفارقة والمفصلية والرؤى المحورية.

الخلفيات الاجتماعية

ترجع جذور كل من الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا والقائد المفكر عبد الله أوجلان إلى الريف، ففي قرية مفيز التابعة لترانسكاي، ولد مانديلا، وفي قرية أمارا (عمارة) من أعمال رها (أورفا)، ولد أوجلان. كما انتمى كلاهما إلى المجتمعات العشائرية.

وكان محيط مانديلا السكاني مكوناً من اكثريات زنجية مستبعدة ومقهورة وأقليات هندية وبيضاء حاكمة طاغية لا تعترف بأية حقوق للأغلبية السوداء. وكان محيط أوجلان (آبو) البشري يتشكل من اكثريات كردية في جنوب شرقي تركيا مع تنويعات تركمانية وتركية مسلمة وآشورية وسريانية وأرمنية مسيحية.

وقد فصل جيل أو ينيف بين الزعيمين، ففي عشية فعاليات الحرب العالمية الأولى، ولد مانديلا يوم ١٨ تموز _ يوليو ١٩١٨. وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية بأربع سنوات، وتحديدا في 4 نيسان _ أبريل ١٩٤٩، ولد أوجلان.

مراحل التعليم

تلقى مانديلا وأوجلان تعليمهما الابتدائي في محيطيهما القروي، ثم تلقيا تعليمهما الإعدادي في أقرب مدينة إقليمية، ففي هيلدتاون تعلم مانديلا، وفي نزيب في عنتاب تعلم أوجلان.

وقد غادر القائدان في مطلع شبابهما الريف والمدن الصغيرة محدودة الأفق والآفاق إلى المدن الكبرى المركزية ذات الحراك المجتمعي والسياسي. وقد استقر مانديلا في جوهانسبرج، واستكمل أوجلان تعليمه الثانوي في أنقرة.

ومن المفارقات، ولدت روح النضال عند مانديلا وأوجلان في رحم هاتين المدينتين اللتين تعدان رمزا الفصل العنصري (الابرتهايد)عند مانديلا، وإبادة الهوية الكردية عند آبو (أوجلان).

التكوين الفكري

اتسمت البنية الفكرية للثنائي مانديلا _أوجلان بالطابع الديني حتى مطلع الشباب إبان المرحلة الثانوية. ولكن بينما استقي الأفريقي مشاربه الدينية الأولى في رحاب المدارس التبشيرية البروتستانتية، وشرب آبو مضاربه الدينية في معية الطرق الصوفية.

وفي المرحلة الثانوية، جنح الشابان إلى اعتناق الماركسية وتجلياتها وتنويعاتها. وبينما عشق مانديلا التجارب الماركسية في أمريكا اللاتينية، انجذب آبو إلى أدبيات الماركسية لاسيما أبجديات الاشتراكية للفيلسوف ليو هوبرمان.

بين القانون والسياسة

اشترك الشابان مانديلا _ أوجلان في دراسة القانون إبان المرحلة الجامعية، ولكن بينما أنهى مانديلا دراسته واشتغل بالمحاماة في جوهانسبرج الملتهبة، انتقل أوجلان من دراسته الحقوقية بجامعة إسطنبول إلى دراسة العلوم السياسية بجامعة أنقرة (خريف ١٩٧١).

بداية النضال

شهدت المرحلة الجامعية وضع حجر الأساس للبنيان النضالي للتوأم الروحي مانديلا _ أوجلان. ففي مدينة الفصل العنصري، جوهانسبرج، اعترض الثائر الزنجي على نتائج انتخابات اتحاد الطلاب غير القانونية. وفي بؤرة الإبادة الثقافية بحق الكرد، وتحديداً في جامعة أنقرة، قاد الفتي الأسمر الاحتجاجات الطلابية علي خلفية اغتيال المناضل ماهر جايان ورفاقه (آذار _ مارس ١٩٧٢)

الصدام الأول مع السلطة

تعرض المناضلان الأفريقي والكردي في مطلع الشباب إلى تنكيل السلطات جراء باكورة ممارساتهما النضالية.

 ففي جوهانسبرج، صدر قرار حظر ضد مانديلا لمدة خمس سنين، وأصبح مطلوبا لدى السلطات البيضاء الفاشية، وكان آنذاك عند أعتاب منتصف الثلاثينيات من عمره.

وفي أنقرة، اعتقلت السلطات التركية الفاشية الطالب الجامعي ابن الثلاثة والأربعين ربيعا، في نيسان _ أبريل ١٩٧٢، وأودعته غيابات السجن سبعة شهور. ومن المفارقات، إذا كان نيسان _ أبريل ١٩٤٩ شهر ميلاد الفتي أوجلان، فإن نيسان _ أبريل ١٩٧٢ هو شهر الميلاد الثوري لـ آبو.

النضال التنظيمي

أسفرت ملاحقات جوهانسبرج واعتقالات أنقرة عن ارتفاع سقف الحراك النضالي عند مانديلا وأوجلان.

ففي جنوب أفريقيا، قاد الريادي مانديلا شباب حزب المؤتمر الوطني الأفريقي في مواجهة استراتيجيات الفصل العنصري لحكومة الأقلية البيضاء الفاشية.

 وفي تركيا، سعى الريادي أوجلان إلى تجميع شتات اليسار والالتفاف حول أطروحة كردستان مستعمرة لتكون بمثابة قاعدة في مواجهة سياسات أنقرة لإبادة الكرد وطمس الهوية الكردية.

النضال السلمي

تبنى الزعيم الأفريقي والقائد المفكر الكردي استراتيجية النضال السلمي، كمجموعة أيديولوجية سياسية، ضد الخصوم الفاشيين. ففي أقصى جنوب القارة السمراء، انتهج مانديلا آلية اللاعنف المستوحاة من تجربة غاندي في الهند، بهدف لفت أنظار الأوساط الخارجية إلى مخاطر وكوارث سياسات الفصل العنصري. وانخرط مانديلا للدعاية وسط جموع العمال، والقى محاضرات عن عالم اليوم وحاجتنا إلى التغيير وكيف نحكم. وفي قلب العاصمة التركية، دشن أوجلان برفقة حقي قرار وكمال بير وآخرين، وكذا، رابطة كردستان مستعمرة عشية منتصف سبعينيات القرن العشرين هيكل المانفيستو؛ أي طريق الثورة الكردستانية.

التبشير بالثورة

جال مانديلا وصال في الأوساط العمالية والفلاحية على امتداد جنوب أفريقيا للتنديد بممارسات الفصل العنصري. وعلى نطاق واسع وأعمق انطلق آبو ورفاقه للتبشير بالثورة في المدارات الجغرافية الأيقونية لكردستان خصوصاً والمناطق الآتية بالأخص عساها أن تكون حركة جماهيرية:

آمد (ديار بكر)، آغري (آرارات)، ديرسم (تونجلي)، آلازغ، ديلوك (عنتاب)، رها (أورفا) بلد المحبوب.

الكفاح المسلح

على خلفية عدم إحراز نتائج إيجابية ملموسة على أرض الواقع من النضال السلمي، استلهم القائدان تجارب الكفاح المسلح وشكلا تنظيمات ثورية مسلحة.

ففي جنوب القارة السمراء، أسس مانديلا الذراع العسكري امكا mk رافعا شعار الرمح القوي للنضال ضد سياسات الفصل العنصري، وأجرى التدريبات العسكرية في الجزائر بلد المليون شهيد.

 وفي آمد _ بؤرة كردستان الحيوية _ أسس آبو حزب العمال الكردستانيPKK ، ونقل مركز ثقله إلى بيروت حيث التدريب مع الفصائل الفلسطينية المسلحة. وفي منتصف آب _ أغسطس ١٩٨٤، كشف PKK عن وجهه المسلح بوضوح رداً على مجازر أنقرة في مرعش وملاطية واديامان وآلازغ وممارسات السلطات التركية في سجن آمد (ديار بكر).

السجن وحرية الأمم

عانى الزعيمان مانديلا وأوجلان مرارة السجن، الأول ثلاثة عقود، والثاني ربع قرن، بيد أن السجن رغم قساوته وضراوته، لم يؤثر سلبيا على العقليتين الكاريزميتين والروحين النضاليين. بعد الإفراج عن مانديلا، قاد جنوب أفريقيا إلى التحول الديمقراطي، وكرس ثقافة التسامح مع الأقلية البيضاء، ورفض الثأر، وبذلك نجح في إقرار السلم والأمن المجتمعين.

وفي غيابات سجن إمرالي، رسم أوجلان السجين خارطة حرية الشعوب عبر مشروع فكري متكامل الأركان لبناء شعوب ديمقراطية فيما اسميه السلام الأوجلاني Pax Ogallan.

أخيراً وليس آخراً

أناشد جميع المختصين بحقوق الشعوب الحرة المطالبة باعتبار يوم ٤ نيسان _ أبريل من كل عام يوم السلام الأوجلاني على غرار يوم مانديلا ١٨ تموز يوليو من كل عام.

وكذا، الاستعانة بتجربة جنوب أفريقيا وحملتها الدولية بحق مانديلا لتكون رصيد خبرة في الحملة العالمية للإفراج عن المفكر والقائد عبد الله أوجلان، ولا غرو أن نضال الأول ضد سياسات الفصل العنصري في بلده، وناضل آبو ضد إستراتيجيات أنقرة العنصرية ضد الهوية الكردية. ويكفي أن مانديلا رفض جائزة أتاتورك لحقوق الإنسان (هكذا تسمى) تضامنا مع قرينه في النضال.