جاء ذلك خلال ندوة نظمها مركز آتون للدراسات في العاصمة المصرية القاهرة احتفالاً باليوم العالمي للعصا البيضاء الذي يأتي في 15 أكتوبر/تشرين الأول من كل عام، وقد عقدت تحت عنوان العلاقات الإقليمية من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة، وكان المتحدثان بها باحثين كبيرين في التاريخ من ذوي البصيرة وكذلك مقدم الندوة.
وشملت منصة المتحدثين كل من الدكتور علي أحمد السيد أستاذ التاريخ الوسيط، والدكتور محمد محمود الدوداني أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، ومن تقديم الأستاذ بليغ عبد الغني باحث الدكتوراه بكلية الآداب بجامعة دمنهور والثلاثة من ذوي البصيرة، وقد تحدثا عن جانب من إسهامات الكرد تاريخياً، وكذلك جرى التطرق للعلاقات التركية – الإسرائيلية وكذلك علاقة أنقرة بالدول العربية، وإشارة إلى أطماعها وتوجهاتها.
مكانة الكرد
وقد بدأت الندوة بكلمة من الأستاذ الدكتور علي أحمد السيد أستاذ التاريخ الوسيط بكلية الآداب في جامعة دمنهو، وقد كان عميداً لكلية الآداب بجامعة دمنهور ليكون بذلك ثاني شخصية من ذوي البصيرة يتولى عمادة إحدى كليات الآداب بجمهورية مصر العربية بعد عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، موضحاً أن مجال تخصصه وأبحاثه يرتكز على العصور الوسطى التي تنصب فيها الأحداث عادة على العلاقات بين الشرق والغرب، مشيراً إلى أن لديه عدداً من الكتب التي ترصد العلاقات الدولية في تلك الفترة وخاصة الحروب الصليبية.
كما ركز في الندوة بصفة رئيسية في حديثه عن كتابه دور الأكراد في الحركة الصليبية الذي يغطي الفترة من 1170 وحتى 1193 أي خلال عهد صلاح الدين الأيوبي، الذي أكد أنه كان شخصية عبقرية مزجت بين تكوينه وخلفيته كابن للقومية الكردية وفي نفس الوقت أنه منتم للأمة الإسلامية، مشيراً إلى أن الكرد على مر التاريخ منذ أن دخلوا الإسلام حافظوا على هويتهم كأمة داخل الأمة، أي كأمة كردية داخل الأمة الإسلامية الكبيرة دون تعارض.
ويشير إلى أن كتابه تطرق إلى الحديث عن أصل الكرد، موضحاً أنهم يعيشون الآن في نفس الحدود الجغرافية التي عاشوا بها تاريخياً، مؤكداً أنهم كانوا من القبائل المنفتحة على من حولها، واحتكوا بغيرهم حتى أصبحوا جزء من الأمة الإسلامية، لافتاً إلى أنه حتى لو كان هناك غموض حول أصلهم لكنهم ظلوا محافظين على هويتهم كأمة أو كعنصر معين داخل الأمة الإسلامية، مشيراً إلى أن أغلبهم سنة وهم أصحاب تدين حقيقي وعميق ويفهمون دينهم جيداً ويتمسكون بها بشكل راسخ، كما اتصفوا دائماً بانتمائهم لبعضهم البعض وتمسكهم ببني جلدتهم.
ويلفت الدكتور على أحمد السيد إلى أن الكرد اتسموا بالبراعة في النواحي السياسية والعسكرية كذلك، فقد كان منهم قادة عسكريين عظام، وفي نفس الوقت عرفوا بالتسامح مع غيرهم خاصة مع خصومهم من المسلمين، حتى أن صلاح الدين الأيوبي حين كان يعلو سيفه علي خصومه كان يوقف القتال، لأنه كان حريصاً على دماء المسلمين، فلم يكن رجلاً دموياً كما يظن البعض بدليل أنه حين ضم دمشق إليه كان عن طريق الزواج ولم يلجأ إلى الخيار العسكري.
وواصل أستاذ التاريخ الوسيط حديثه عن الطبيعة الكردية، فيقول إن الكردي بطبيعته يؤمن بالقضية التي يعتنقها ولهذا يوصف بأنه "مضحي"، لافتاً إلى أنه قد قتل منهم عدداً كبيراً، ولهذا وصفت الدولة الأيوبية بأنها دولة مجاهدة، كما اتسموا في الوقت ذاته بالحكمة السياسية.
تجربة الدكتور محمد الدوداني
انتقلت الكلمة إلى الأستاذ الدكتور محمد محمود الدوداني أستاذ التاريخ والحديث المعاصر بكلية الآداب بجامعة دمياط المصرية، والذي من بين كتاباته المتعددة، اختار الحديث عن العلاقات التركية – الإسرائيلية ليقدم استعراضاً تاريخياً دقيقاً لها ممزوجاً بقراءة منه لسيرورتها وتحليلها، خاصة عندما استشهد في بداية حديثه بتصريحات رجل الأعمال التركي اليهودي جاك قمحي الذي قال إن الدولة الإسرائيلية قد جرى إقامتها في تركيا الحديثة قبل أن تقام فعلياً في موقعها الجغرافي الحالي على الأراضي الفلسطينية المحتلة، معتبراً أن هذا ما يفسر لماذا كانت أنقرة أول المسارعين في العالم الإسلامي إلى الاعتراف بقيام هذه الدولة في مارس 1949 وعينت سيف الله أمين كأول سفير لها لدى تل أبيب.
واستعرض الدوداني تطور العلاقات التركية – العربية كذلك من منظور العلاقات بين أنقرة وتل أبيب، مشيراً إلى أنها ساندت كثيراً من المواقف الإسرائيلية والغربية ضد العرب، من ذلك اعتراضها على قرار الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بشأن وقف مرور السفن الإسرائيلية في قناة السويس عام 1951، ودعت إلى ضرورة إلغاء القرار، كما أنها هاجمت قرار عبدالناصر بتأميم قناة السويس ودعمت فكرة إبعاده عن الحكم، ليقع لاحقاً العدوان الثلاثي على مصر، ومعه اضطرت الحكومة التركية لتغيير لهجتها مع اندلاع احتجاجات شعبية واسعة داخل تركيا تضامناً مع القاهرة وضد العلاقات مع تل أبيب.
ويقول الدوداني إن تركيا ظلت بهذه التوجهات حتى بدأت قضية قبرص تشتعل عام 1963 وأمام غياب الدعم الغربي لها والأمريكي، بدأت أنقرة ترى أنها بحاجة إلى التقارب مع العرب وخصوصاً مصر للحصول على دعم الأصوات العربية وأصوات التكتل الأفرو – آسيوي الذي كان يقوده عبد الناصر، وهو التقارب الذي كانت ترفضه إسرائيل، في المقابل وقف العرب مع اليونان في القضية القبرصية، خاصة وأنه كانت هناك قناعة بأن أنقرة هي من رسخت للوجود الإسرائيلي كونها كانت أول دولة ذات غالبية مسلمة تعترف بالدولة الإسرائيلية.
لكن الدوداني يقول كذلك إن تركيا لاحقاً وفي ضوء الأزمة القبرصية تصرفت وكأنها تحاول التخلص من "سبة الاعتراف بإسرائيل" فاعترفت على سبيل المثال بمنظمة التحرير الفلسطينية، وصولاً إلى انتهاء الحرب الباردة بانهيار الاتحاد السوفيتي، وهنا تخلصت أنقرة من كثير من القيود وبدأت تعود لمسألة بسط نفوذها في آسيا الوسطى، وتظهر أطماعها في سوريا والعراق، وكذلك مياه نهري دجلة والفرات، ثم دخلت العلاقات مرحلة أخرى مع قدوم حكومة حزب العدالة والتنمية، مشيراً إلى إدلاء تركيا بكثير من التصريحات ضد إسرائيل التي كانت سبباً في توترات متبادلة، لكنه يرى في الوقت ذاته أنها كانت تصريحات للاستهلاك المحلي بدليل أن التجارة بين تركيا وإسرائيل دائماً عند أعلى مستوياتها.
ويؤكد أستاذ التاريخ الحديث أن العلاقات بين تركيا والعرب في هذا السياق قامت على فكرة المصالح والبرجماتية، ولدى أنقرة كثير من المصالح في المنطقة وأطماعها كبيرة، معتبراً أن السبب في ذلك إلى أن عدم قبول عضويتها في الاتحاد الأوروبي جعل النظام التركي يلتفت إلى الدول العربية ودول شمال أفريقيا ليفكر في بسط نفوذه هناك، مؤكداً أن السياسة التركية تسير في الوقت ذاته وفق التوجهات الأمريكية.
وقد عقدت الندوة بحضور عدد واسع من المثقفين والأكاديميين والكتاب على رأسهم الكاتب الصحفي فتحي محمود مدير مركز آتون للدراسات والأستاذ الدكتور محمد رفعت الإمام أستاذ التاريخ الحديث والأستاذ علي ثابت صبري الأكاديمي والباحث في التاريخ والدكتورة فرناز عطية أستاذة العلوم السياسية والدكتورة سحر حسن أحمد أستاذة التاريخ والباحث في التاريخ أحمد محمد إنبيوة، وغيرهم.