علي حسن وروايته عن مي زيادة... صرخة ألم للمثقفات في المنطقة

"أنا مي زيادة" الرواية التي فازت بجائزة النقابة العامة لاتحاد الكتاب المصريين، رواية تسرد سيرة زعيمة أديبات المنطقة، وفي الوقت ذاته كشفت حواجز المجتمع أمام المثقفات.

كانت مي زيادة شخصية مختلفة في كل شيء تقريباً: فيكفي على سبيل المثال نشأتها، إذ ولدت في بلد وعاشت ونبغت في بلد وأمها من بلد وأبيها من بلد، ولم يكن هذا تشتتاً بقدر ما أثقل شخصيتها منذ نعومة أظافرها، وتوسع نشاطها الأدبي والصحفي في سن مبكرة، وكانت صاحبة شهرة واسعة بين المثقفين في الوطن العربي، خصوصاً صالونها الأسبوعي.

إلا أن نابغة أدبية مثلها انتهى حالها إلى مأساة عندما أودعت في مستشفى للأمراض العقلية قبل أن تتوفى بسنوات، وكتب عنها ما اعتبر إساءات كبيرة تعبر عن حالة المجتمع ونظرته لكثير من المثقفات، وغيرها من الأشياء التي يتحدث عنها الروائي المصري علي حسن في حواره لوكالة فرات للأنباء (ANF).

إلى نص الحوار:

*بداية نريد صورة عامة عن الرواية وفكرتها وموقع المرأة فيها؟

لا يتوفر وصف.

- لفت نظري منذ نحو سبع سنوات أن ما يكتب عن مي زيادة عبارة عن اختلاقات وأكاذيب تناولت حياتها بشكل معين بعيد تماماً عن عبقريتها وكتاباتها، وكذلك عن عظمتها ودورها الفعال في الثقافة. وكانت أول صورة غير مُرضية أبداً كتاب "غرام الكبار في صالون مي" لأنيس الدغيدي، وقد قرأته وهو كتاب ضخم يصل تقريباً لأكثر من ألف صفحة، ولم أرى فيه مي التي نعرفها وسمعنا عنها، التي درسنا بعضاً كتاباتها خلال مراحلنا التعليمية. فبحثت فيما كتب عن مي فوقع أمامي كتاب "الذين أحبوا مي" للشاعر كامل الشناوي.

*وهل وجدت ضالتك فيه؟

- للأسف، الحقيقة أن ما كتب فيه عن مي زيادة أشد سوءاً، الكتاب تقريبا 120 صفحة، من ضمنهم 70 صفحة عن مي وعلاقاتها، وعلاقات الحب التي تدور بينها وبين كبار أدبائنا وأدباء عصر النهضة العربية والمصرية تحديداً. ثم وجدت الكتاب الثالث وهو "أطياف من حياة مي" لطاهر الطناحي، وكان أيضاً صادماً. وبالتالي كان علي أن يكون لدي وقفة لأعرف هذه السيدة وعظمتها، فقد كنت في حالة من الشك والريبة، وبدأت في التنقيب عنها، ولتحري الصدق كان طبيعياً أن أقرأ كتابات مي، فكانت قراءاتي لمقالاتها وكتاباتها بين الجذر والمد ورجوع الموجة وسوانح فتاة، ووجدتني أمام إنسانة عظيمة وفتاة عبقرية بكل ما تعني الكلمة من معان، وهبت حياتها للكتابة. هنا رأيت أن تبيان الحقيقة بالنسبة لمي زيادة لا يكفيه مقال يقرأ وينسى، في ظل هذا الكم من الأكاذيب التي تتردد حولها كلما ذكرت سيرتها. حتى أنه كان هناك مسلسلاً عن الكاتب العظيم عباس محمود العقاد وجسدت الفنانة المصرية شهيرة فيه دور مي زيادة، وللأسف، المسلسل لم يظهرها ككاتبة عظيمة وعملاقة، بل كامرأة تتنقل من هوى رجل إلى آخر، وتناسوا صالونها كأعظم صالون أدبي في القرن العشرين وربما في الأدب العربي عموماً أو الثقافة العربية. العقاد نفسه ذكر أنه لو استطعنا جمع ما قيل وجرت دراسته في صالون مي لنتج لنا موسوعة تشبه الأغاني للأصفهاني، فكان العقاد يدين لها بالعظمة ويعرف قدرها وعظمتها. من هنا بدأت أقول لماذا لا أكتب رواية عن مي تقدم صورة طيبة لهذه المرأة العظيمة، ومن هنا كتبت روايتي "أنا مي زيادة".

*هل كان الغرض من الرواية مجرد تبرئة مي زيادة مما قيل عنها وأشرت إليه؟

- لا، الغرض ليس تبرئة ساحة مي، لكن ما كتب عنها كان صادماً للغاية وإلى أبعد الحدود، فعلى سبيل المثال سلامة موسى بما يحمله من تنوير وثقافة قرأت له كتاب "تربية سلامة موسى"، وأفرد 50 صفحة تقريباً نهاية الكتاب يتحدث فيها عن "موبقات مي زيادة"، وأنها إنسانة مجنونة، وأوصاف وكلمات أتحفظ عن قولها، فما ذكره كان مؤلماً وفظيعاً، ولا يتناسب مع طبيعة علاقة الأدباء والمثقفين ببعضهم.

*كيف عبر ذلك عن الأوضاع التي ربما تحيط في مجتمعاتنا بالمثقفات العربيات؟

- أردت من الرواية القول إن المأساة ليست مأساة مي فقط، وإنما مأساة كل فتاة مثقفة وأديبة تستطيع أن تصل بقلمها، لكن أمامها حدود وحواجز كثيرة يضعها المجتمع، أو كل من يحيط بها. لكن مي استطاعت تجاوز تلك الحدود، وأصبحنا أمام واحدة من أعظم الشخصيات التي تناظر شخصية مثل السيدة هدى شعراوي، وغيرها من السيدات اللواتي حملن على أكتافهن تنوير المجتمع وتحرير المرأة. فكانت تنادي بحرية المرأة، وكتاباتها كأنها موجهة للأجيال الجديدة، لدرجة أنك لو قرأتها الآن تشعر كأنها كتبت في الوقت الحالي. حتى قراءتها للمستقبل جعل كتاباتها بعد أكثر من 80 عاماً لا تزال تعيش بيننا، والملفت للنظر أن الشباب يلجأ لها، وعلينا أن نضع في اعتبارنا أنها خريجة الأديرة وتعلمت على يد الراهبات، وبالتالي تملك من الإيمان والتقدير للدين ما تمكله. إن العقبات والسدود التي وقفت أمام مي ليست في أيام بهائها، فقد عاشت أعظم حياة تجدها امرأة مثقفة في فترة العشرينات والثلاثينات، والكل كان يتمنى رضاها ويحبها ويتقرب منها، لكن حين وقعت مأساتها لم تجد من يقف بجوارها، وكثرت حولها السكاكين وظهر الحاقدون والحاسدون، حين زعم البعض إصابتها بالجنون وتم إدخالها لإحدى المصحات العقلية، فتخيل أن تكون في عز مجدها، تكتب وتملأ الدنيا صخباً، وفجأة تقع بهذه الطريقة، فهذا لا يتحمله أحد.

*كيف استعرضت سيرتها في الرواية؟

- حياة مي جاءت على لسان شخصية خيالية اسمها مريم، وهي فتاة مصرية معاصرة، تعرضت عام 2011 وهي شابة لانتهاك جسدي وظلم أسري، وعمها أراد أن يستولي على ميراثها، ثم تزوج أمها وكأن الأخيرة جزء من هذا الميراث. شعرت مريم بغبن وظلم كبير، فحدث لها مرض يشبه الانفصام في الشخصية، وظهر عليها ذلك عندما انتقلت إلى عمها الذي كان أستاذ لغة عربية بالجامعة، فتعلمت على يديه وقرأت في مكتبته كتابات مي زيادة، فما حدث معها أنها تقمصت شخصية مي زيادة، وهنا بدأت تكتب عن مي وكأنها هي، وتلبس لبسها في الألفينات، ثم تحكي عنها وكأنها هي.

*هل مأساة مي كانت مقتصرة عليها وانتهت بوفاتها؟

- للأسف أيضاً لا لم تنته، لأن مأساتها موجودة في كل مثقفة وأديبة موجودة حالياً تقع تحت طائلة حواجز المجتمع الكثيرة، مع أن المفترض أن يقف المجتمع معها ويساندها حتى تستطيع استكمال المسيرة. فالرواية عبرت عن الإشكاليات التي تواجه المثقفات في المجتمع، فمي بعظمتها وعظمة والدها وما له من صولات وجولات ثقافية، وهي التي كانت يحضر صالونها العقاد وشيخ الأزهر وقتها مصطفى عبد الرازق، وبالتالي لم يكن سهلاً الخوض فيها بهذا الشكل فيما كتب عنها، ليس هذا ما يجب أن يعرف عن مي زيادة، وهي لم تقم من الأساس بما كتب عنها، كل هؤلاء كانوا يحضرون صالونها ويدعمونها، ولكن لما وقعت مأساتها تخلى الجميع عنها، تخلوا عن شخصية لن تتكرر. وأقول إن تكررت سيدة بنبوغها في هذا الوقت، فأعتقد أن "الوأد" سيكون أساس التعامل معها، أي قتلها حية، ولن تتكرر.

*لماذا؟

- لأن الجو العام الحالي لا يسمح بظهور نابغة مثل مي، أنا لو لدي ابنة لن أستطيع أن أعطها الاهتمام الذي أعطاه إلياس زيادة لابنته مي، وزوجتي لن تستطيع أن تقدم ما أعطته الأم لابنتها مي زيادة. في هذا الجو الحالي، من أين يأتي شخص يشبه أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد؟، الذي استقال من الجامعة اعتراضاً على فصل طه حسين بعد كتابه "في الأدب الجاهلي". أحمد لطفي السيد الذي ذهب إليه الضباط الأحرار ليكون رئيساً لجمهورية مصر بعد الإطاحة بالملكية فرفض. من أين سنأتي بأمثال العقاد وطه حسين وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وإسماعيل باشا أباظة؟، من أين نأتي بهؤلاء؟!.

*إذن روايتك كشفت عن الجانب الذي يجب أن يعرف عن مي زيادة كنابغة، وفي نفس الوقت كشفت ما يواجه المثقفات من عقبات في مجتمعاتنا؟

- بكل تأكيد، فنحن بحاجة إلى وقفة لإحياء المواهب، وإزالة العقبات أمامهم. لو اهتممنا بالأطفال والمواهب منذ البداية وفق خطط "أقسم بعزة جلال الله" سنكون مثل اليابان وكوريا وأفضل.