بريكس والاستقطاب العالمي في ظل النظام العالمي الواحد

لا يعبر توسع بريكس عن بديل، بل هو حالة من الاستقطاب الدولي، والدخول في صراعات الهيمنة لمراكز القوى للنظام الرأسمالي العالمي الواحد، وعلى الشعوب ودول المنطقة البحث عن حداثة بديلة، ربما تكون في مقترحات الكونفدرالية الديمقراطية لشعوب الأقاليم والعالم.

تزايدت النقاشات والتحليلات والأراء بعد الاجتماع الأخير لمجموعة دول بريكس في جنوب أفريقيا، ودعوتها لعدد من الدول حول العالم ومنها الشرق الأوسط بالانضمام لها، وخاصة أن بعض الدول مازالت ضمن مجموعة العشرين( (G20. وتأتي هذه الدعوة في الانضمام مع زيادة حدة الاستقطاب الإقليمي والعالمي، وخاصة بعد الحرب أو الأزمة الأوكرانية وتداعياتها الدولية على أمن الطاقة وأمن الغذاء العالمي ومجمل عملية الاستقرار والأمن في العالم، من المفارقة أن نذكر أن جيم أونيل الخبير الاقتصادي البريطاني والذي كان يعمل قبل عقدين في بنك "غولدمان ساكس"، عندما أوجد صيغة "بريك" من أسماء الدول (البرازيل وروسيا والهند والصين)، وحينها كان يهتم باقتصادات الدول الناشئة ويكتب عن فرص الاستثمار في الدول التي توشك أن تصبح من بين أكبر الأسواق الناشئة في العالم. نعتقد أنه حينها لم يكن يتوقع الخبير البريطاني أن تصبح المجموعة اليوم أحد مرتكزات المنافسة وتحدي الهيمنة والنظام الاقتصادي والسياسي والأمني للنظام العالمي الغربي النيوليبرالي (الحداثة الرأسمالية).

إحدى أدوات الصين

يمكننا القول إن مجموعة "البريكس" إضافة لمنظمة شنغهاي للتعاون تمثل إحدى الأدوات التنفيذية من أجل الهيمنة والتنافس والتوسع التي تمتلكها الصين أو التي تنفذ أجندتها في الاقتصاد والتجارة وصولاً للسياسة والأمن، لأنها القائدة في هذه المجموعة، وصاحبة الاقتصاد الأقوى، وتدور الدول الأخرى حولها، كما هي أمريكا في مجموعة السبع ((G7، ومهما تم إضافة مصطلحات براقة أو تضليلية كخدمة الشعوب والدول والتخلص من الهيمنة والأحادية الغربية، إلا أننا نعتقد أنها لن تختلف كثيراً لعدة أسباب منها أنها تستعمل نفس الأدوات التنفيذية وتمتلك العقليات والذهنيات والسلوكيات نفسها التي تتواجد في المنظومة المقابلة أثناء التفاعل، أي أن لبريكس ومجموعة السبع نفس الحداثة رغم الاختلافات الشكلية والتكتيكية الظاهرة.

انضام دول الشرق الأوسط لبريكس

صحيح إن توسع بريكس وانضمام دول جديدة، سيغير من المشهد الإقليمي والعالمي مع الوقت إن حصل، وخاصة في الجنوب العالمي، ولكن لانضمام دول الشرق الأوسط وغيرها أسبابها الخاصة والإقليمية والتي ربما يتم تداركها من قبل القوى الغربية ومنها:

1-    عدم التزام المجموعة الغربية بقيادة أمريكا والاتحاد الأوروبي، بمخاوف بعض دول الشرق الأوسط وجنوب آسيا وأفريقيا في المجالات الأمنية والاقتصادية، إضافة لمشهد انسحابها من أفغانستان وتعاملها الباهت والانتقائي مع قضايا الشرق الأوسط والعالم، ولذلك ترى بعض الدول أن انضمامها اقتصادياً ومالياً وتجارياً لبريكس، سيعطيها فيما بعد ثقل ونفوذ وعلاقات سياسية وعسكرية تراكمية يحقق لها وجودها في السلطة ودوام وجودها واستمرار مصالحها السلطوية الطبقية والنخبوية.

سهولة الشروط والتعامل الذي يقدمه بنك التنمية التابع لـ"بريكس" والمقام منذ ٢٠١٥، بالمقارنة بشروط التي تفرضها وتقدمها البنك وصندوق النقد الدوليين والمنظومة الغربية، ليس فقط من الناحية الاقتصادية بل من النواحي الاجتماعية والسياسية والأمنية، علماً أن القوة المالية والرصيد المالي للاقتراض والاستثمار، مازال متواضعاً في بنك التنمية التابع لبريكس بالمقارنة مع البنوك الغربية وصندوق النقد الدولي، وحتى أنه من بين نحو 33 مليار دولار من القروض التي وافق عليها بنك التنمية الجديد كان ثلثا القروض بالدولار.

التحديات أمام بريكس

مع رغبة بريكس في التوسع، لأسباب تتعلق برغبة الصين في التوسع وتغير المعادلات الدولية لصالحها، وأخذها التدابير لحرب باردة قادمة مع أمريكا، ورغبة روسيا في كسر عزلتها وجدار العقوبات بعد الأزمة الأوكرانية، لكن الهند تراودها مخاوف من طموحات جارتها وهما اللتان بينهما عدد من التناقضات، أقلها مشاكل الحدود والهيمنة الإقليمية لكل واحدة على حساب الأخرى، أما جنوب أفريقيا والبرازيل، فهما ترغبان بالتوسع ولكن ليس على حسابهما أو بالذهاب لخلق تحديات مباشرة مع المنظومة الرأسمالية الدولية، وهما تعلمان أنه مازالت الهيمنة الاقتصادية والأمنية حول العالم لأمريكا، وإن بدت ليست بالهيبة والقوة كما قبل عشرة سنوات.

وعليه ورغم التوافق الموجود إلى حد كبير لمحاولة خلق نظام تعددي عالمي أقله على المستوى الاقتصادي في المرحلة الأولى ولكن هذا لايكفي لوحده، وهناك جملة من التحديات أمام بريكس والتوسع فيها وهي:

1-    الاختلافات الموجودة بين دولها وأقطابها، فالصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا لاينظرون للحرب الأوكرانية من منظور ورؤية واحدة، وهم على اختلاف فيما بينهم. كما أن موقف الدول الرئيسية من التوسع ليس بالتوافق المرغوب، وهناك دول توافق وأخرى تعترض على انضمام بعض الدول وفق رؤية كل دولة وليس وفق معايير مشتركة.

كما أنه ومن تصويت هذه الدول في مجلس الأمن الدولي نرى كمية الاختلاف بينهم في الكثير من الشؤون الدولية والإقليمية.

2-    بنية الدول في هذه المجموعة وهي المركزية الشديدة والاستبدادية الملحوظة وضعف النظام القضائي في دول هذه المجموعة، فلو حصل خلاف أو تنازع ما، فماهي المرجعية القانونية الخاصة بهم، وأغلب هذه الدول تحكمها أنظمة شمولية، والقضاء فيها غير نزيه ولا يملك صلاحيات كافية للفصل في الأمور، وخاصة إذا كانت شؤون سيادية وفق التعبير القانوني في هذه الدول، فعندها القضاء ليس له كلمة بل السياسة والسلطة والرئيس هم الذين يحكمون يقولون الكلمة الفصل، وليس المؤسسات.

3-    آلية التوسع ومبادئه وآلية اتخاذ القرار، فالتوافق والاجماع ومع التوسع المراد، سيكون هناك مشاكل والآلية الحالية، نعدها غير كافية وربما لا بد  من أن تتعرض لتغيير حتى تساير التوسع الجديد.

عملة بريكس

ورغم رغبة دول مجموعة بريكس في كسر هيمنة الدولار، والتعامل بالعملات المحلية وإيجاد عملة مشتركة وخاصة من قبل روسيا، إلا أن هذا الموضوع والخطوات التي تم السير فيها، ليست واعدة بالشكل المتصور والمراد، فما زال التعامل بأغلبه، حتى من بنك التنمية بالدولار الأمريكي، ونتيجة اختلافات كفاءة الاقتصادات بين هذه الدول واختلاف قيمة العملات بين دول بريكس، يظل إيجاد عملة خاصة بدول البريكس قضية صعبة إن لم تكن مستحيلة في الوقت الراهن.

النظام الصيني هو أحد مرتكزات النظام الرأسمالي العالمي وأحد مراكزه الأساسية ولن يكون البديل يوماً

ونعتقد أنه من المهم للمحللين والباحثين في شأن النظام العالمي والإقليمي والنظام الصيني وبريكس، أن يعلموا أن النظام الصيني هو الذي استمر في بث الروح في النظام الرأسمالي العالمي لسنوات وعقود طويلة حتى اليوم، وهو أحد مرتكزاته ومراكزه الأساسية، ولو دققنا في هيكلية وبنية النظام الاقتصادي والتجاري والسياسي الصيني، سنجد مفهوم السلطة والدولة القومية المركزية وهما أهم أداتين للنظام الرأسمالي العالمي، لدوام الهيمنة ونهب الشعوب والمجتمعات والأمم.

 كونفدرالية الشعوب والأمم الديمقراطية والاقتصاد الديمقراطي الإقليمي والعالمي، تستطيع أن تكون البديل

وعليه، نعتقد أن دول الشرق الأوسط وشعوبها ومجتمعاتها، وكذلك على الباحثين والسياسيين والاقتصاديين، أن لا يذهبوا بعيداً في تصوراتهم، وكأن الصين تستطيع أن تقدم البديل أو أن تكون البديل للنظام العالمي أو تستطيع بناء نظام متعدد الأقطاب. يمكن أن تدخل  بعض دول الجنوب لمجموعة البريكس ويمكن أن يتوسع أكثر، ولكنه سيبقى جزء من المنظومة الاقتصادية العالمية الغربية الرأسمالية وليس بديل لها أو عنها، لأن البديل يحتاج الى ذهنية وعقلية وسلوكية مختلفة في مجالات الحياة كافة في الاقتصاد والسياسة والثقافة والفن والتعليم وعلاقة الرجل بالمرأة  وبمجمل إدارة الحياة، والأهم أن أي نظام بديل يحتاج لحداثة بديلة غير متوفرة في بريكس ومنظومتها ودولها ذات النزعة الأحادية السلطوية المركزية.

ولو تساءلنا كيف تنظر مجموعة بريكس أو قائدتها الصين إلى الموروث الثقافي الشرق أوسطي التعددي وقيمه الأخلاقية والثقافية والروحية وكيف ستتعايش معه أو كيف ستطوره وتأخذه كرافد لمشروعها الشامل إن وجد؟

وكذلك ما هو موقفها من أهم القضايا والمشاكل العالقة في الشرق الأوسط  والناتجة عن التدخلات الدولية وفرضهم لدول مصطنعة ونظم استبدادية، كالقضية الكردية والقضية الفلسطينية وقضية حرية المرأة وريادتها للعمل المجتمعي، فإننا لن نجد أجوبة شافية وكافية ولا نجد بدائل أو مقاربات مختلفة عن الليبرالية الغربية أو أي مشاريع للحل الديمقراطي للقضايا المصيرية لشعوب الشرق الأوسط، ويمكننا القول أن البعد الاقتصادي أو العسكري أو الأمني أو السياسي لوحده لا يكفي لبناء بدائل أو إيجاد ظروف للتعددية القطبية، بل يجب توفر الأبعاد الثقافية والاجتماعية والفكرية والإنسانية للتفاعل مع شعوب ومجتمعات الشرق الأوسط وأفريقيا مع الجوانب الاقتصادية، وهذا ما لا نجده عند الصين أو دول البريكس، الذين جل همهم تأمين اسعافات أولية لمشاكلهم الاقتصادية الناتجة عن غياب الديمقراطية واستمرار التدخلات الخارجية، وهنا لابد أن نشير أنه يمكن لمجتمعات وشعوب الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا أن يبحثوا ويجدوا البدائل من بين مجتمعاتهم وشعوبهم وليس انتظار الخارج سواءً غرباً أو شرقاً، وكذلك بناء البعد الاجتماعي الأساسي  وبناء الإنسان والمجتمع والاقتصاد الذاتي الديمقراطي لهذه البدائل والذي يمكن أن يطور أية تفاعلات ناجحة على الصعد الإقليمية والعالمية من خلال بناء كونفدراليات ديمقراطية بين شعوب المنطقة والعالم وأممها الديمقراطية ووضع مصالح المجتمعات والشعوب في الاعتبار الأول لأي تحرك أو تكتل إقليمي أو عالمي، أما السير تحت مظلات دول سلطوية واستبدادية وقوموية وأحادية، لا يقدم جديداً، سوى بدخول دول وشعوب المنطقة في مرحلة جديدة من الصراعات بين مراكز النظام العالمي الرأسمالي، كما يحصل الآن بين بريكس والدول السبع (G7) وبين روسيا والغرب في أوكرانيا وربما غداً في النيجر أو في أية دولة حول العالم، ونعتقد أن المكان المناسب للبديل هو الشرق الأوسط وفي المركز منها كردستان وشعبها ومشروعهم الديمقراطي بأبعاده المختلفة.