وتزامن التوتر بين أنقرة وموسكو، والذى وصل الذروة، مع انسحاب الأخيرة من مبادرة الحبوب الأوكرانية، التي أبرمت بوساطة تركية وأممية في يوليو من العام 2022، وتضمنت اتفاقاً لتصدير الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود، واستفادت تركيا بصورة كبيرة من هذه الاتفاقية التي تمكنت من خلالها تلبية جانب معتبر من احتياجاتها من الغذاء.وتجدر الإشارة إلى أن إلغاء اتفاق الحبوب يأتي في وقت تعاني فيه تركيا من تراجع في مؤشرات الاقتصاد، وهو ما جعلها في مواجهة مشكلات متشابكة انعكست على الأوضاع المعيشية و السياسية والاجتماعية في البلاد.
ويبدو أن الانسحاب من اتفاق الحبوب،و التشدد الروسي حيال الممارسات التركية الأخيرة، وأخرها إعلان أنقرة عن دعمها لعضوية كييف في الناتو، وتعزيز انعطافتها تجاه واشنطن، جاء في إطار تصاعد الشكوك الروسية في الموقف التركي بشأن الصراع في أوكرانيا بالإضافة إلى سئم روسي من مساعى تركيا لتوظيف انشغال موسكو بالأزمة الأوكرانية، وكذلك استثمارها تداعيات تمرد فاغنر على الداخل الروسي، لإعادة رسم الخريطة السورية وفقاً للمصالح التركية الضيقة. وفي هذا الإطار، يسعى هذا التحليل لتسليط الضوء على تداعيات انسحاب الأخيرة من اتفاق الحبوب على أنقرة، والتكلفة التي قد تتحمله بفعل عودة التوتر مع موسكو.
ارتدادات سلبية
مثّل الانسحاب الروسي من اتفاق الحبوب تحوّلاً دراماتيكياً في العلاقات التركية الروسية. بيد أن أنقرة، سعت للضغط لعودة روسيا إلى اتفاقية الحبوب، كما دعا أردوغان في 21 يوليو الجاري الدول الغربية إلى النظر في مطالب روسيا.ويبدو أن التحركات التركية سواء لضبط العلاقة مع موسكو، أو دفعها للعودة لاتفاق الحبوب، تأتي في سياق المخاوف التركية من تداعيات خسارة الحليف الروسي، وكذلك القلق من التأثيرات السلبية المحتملة لانسحاب موسكو من اتفاق الحبوب، ويُمكن بيان ذلك التأثير المتوقع من خلال ما يلي:
ارتفاع أسعار الغذاء: حمل الانسحاب الروسي من اتفاقية الحبوب، ارتدادات مباشرة وفورية على السوق التركية، حيث ارتفعت أسعار المواد الغذائية مجدداً بعدما انخفضت نسبياً خلال الشهور التي خلت، مما حال دون وقوع تركيا في أزمة غذاء. ووفقاً لتقديرات لمركز التنسيق المشترك بين أطراف اتفاق الحبوب، الذي يقع مقره في إسطنبول، فإن اتفاق الحبوب الموقع في يوليو 2022 برعاية أنقرة والأمم المتحدة، ساهم بصورة لافتة في منع ارتفاع الأسعار في تركيا، وعاد بالنفع عليها كونها تستورد 3.1 مليون طن من الحبوب الأوكرانية.
بيد أن التطورات الراهنة، وإصرار روسيا على عدم تجديد الاتفاقية، وتحذير أنقرة من تطبيق الاتفاق بصورة منفردة، قد يؤدى إلى تسارع وتيرة ارتفاع السلع الغذائية الإستراتيجية في البلاد، وهو ما يشكل ضغطاً إضافيا على أعصاب الاقتصاد التركي الذي يعاني تراجعاً كبيراً.
تضرر سلاسل توريد الغذاء: أدى الانسحاب الروسي إلى تصاعد المخاوف أوساط شركات الشحن التركية والعالمية المنوط بها نقل الحبوب الأوكرانية، وهو ما يعنى ارتفاع تكلفة تأمين السفن في ظل ارتفاع المخاطر التي تواجهها مع وجود السفن الحربية الروسية في البحر الأسود ناهيك عن قيام موسكو خلال الأيام الماضية باستهداف ميناء أوديسا الأوكراني على البحر الأسود.
في هذا السياق، فإن توقف عمليات الشحن للحبوب الأوكرانية، أو على الأقل ارتفاع تكلفتها المالية والأمنية، ربما تحول دون وصولها إلى الأسواق التركية، ما قد يتسبب في اضطراب سلاسل الإمدادات والتوريد، ونقص حاد في واردت الغذاء في الأسواق التركية، ويزيد من الفجوة الغذائية التي تعانيها تركيا، والتي زادت حدتها بعد تراجع الإنتاج الزراعي في المحافظات التركية التي تعرضت للزلزال المدمر في 6 فبراير الماضي.
تراجع أرباح تركيا من برنامج الغذاء العالمي: حققت تركيا على مدار العام الماضي أرباح هائلة من برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، حيث سمحت مبادرة الحبوب بالبحر الأسود منذ أغسطس الماضي، بتصدير ثلاثة ملايين طن من الحبوب عبر البحر لمصلحة برنامج الغذاء العالمي لتقديمها إلى الدول الأكثر احتياجاً للغذاء مثل إثيوبيا واليمن وأفغانستان وكانت تستفيد تركيا من عملية طحن تلك الحبوب لمصلحة برنامج الغذاء العالمي الذي يوزعها كدقيق في الدول التابعة للبرنامج نظير الحصول على مستحقات مالية.
تهميش الوساطة التركية: ربما يدفع القرار الروسي بالانسحاب من مبادرة الحبوب تركيا إلى تراجع دورها كوسيط بين أطراف الأزمة الأوكرانية، وهو الدور الذى ضمن لتركيا تحقيق جملة من مصالحها مع الغرب وموسكو في آن معاً. فقد ساهم نجاح تركيا في انجاز اتفاق الحبوب بتحييد الضغوط الغربية على أنقرة في عدد من الملفات الشائكة، وأهمها غض الطرف عن الانعطافة التركية شرقاً. كما وفرت الوساطة التركية في مبادرة الحبوب فرصة لأنقرة لتعميق علاقاتها مع موسكو، والحصول على جانب من وارداتها من الطاقة والغذاء من روسيا بالعملة المحلية.
التوتر المحتمل في مناطق النفوذ المشترك: لا تقتصر التداعيات المحتملة على تركيا بفعل إلغاء اتفاق الحبوب على ما سبق، فقد تمتد التأثيرات إلى الملفات التي تتقاطع فيها مصالح البلدين، وبخاصة في سوريا، حيث يتوقع تراجع التنسيق بين موسكو وأنقرة، وظهر ذلك في تراجع حماسة موسكو بشأن تسريع وتيرة التطبيع بين أنقرة ودمشق.
تدهور مؤشرات الاقتصاد: لم يكن الاقتصاد التركي في أفضل حالاته قبل التوتر مع موسكو، ولا قبل الانسحاب الروسي من اتفاق الحبوب، فالحقيقة أنه يعاني منذ عدة سنوات من تدهور سريع في مؤشراته؛ نتيجة ما يتسم به من اختلالات اقتصادية ظهرت بشكل أكثر وضوحاً منذ بداية عام 2018 مع التراجع الكبير والحاد في سعر الليرة، التي خسرت ما يقرب من 60 في المئة من قيمتها أمام الدولار.
بيد أن إلغاء اتفاقية الحبوب، قد تعمق من أزمة الاقتصاد التركي، في ظل ارتفاع أسعار الغذاء، وهو ما قد يتسبب في زيادة معدلات التضخم، والتي وصلت إلى مستويات قياسية، حيث بلغت ما يقرب من 64.24 في المئة بنهاية مايو الماضي بالإضافة تدهور مستويات المعيشة للمواطنين الأتراك، فوفق بيانات معهد الإحصاء التركي، فإن أسعار المستهلكين ارتفعت بنسبة 6.65 في المئة على أساس شهري.
محاولات يائسة
مع تصاعد الغضب الروسي من تسليم أنقرة العسكريين الأوكرانيين الخمسة لكييف، وإعلان روسيا الانسحاب من مبادرة الحبوب، حافظت تركيا على موقف متوازن بين طرفي الأزمة، حيث تعي تركيا أن استمرار التوتر مع موسكو، وكذلك إلغاء اتفاق الحبوب، وعجز أنقرة عن تمديده أو تجديده، قد يفقدها دورها الاستراتيجي بين طرفي الأزمة الأوكرانية، وهنا، يمكن فهم توجه أنقرة فتح خطوط اتصال مع مختلف أطراف الأزمة، وظهر ذلك في تأكيد أردوغان على أن محور زيارة نظيره الروسي المحتملة لتركيا في أغسطس المقبل ستركز على محاولة إقناع بوتين بتجديد اتفاق الحبوب بالإضافة إلى إجراء اتصالات مكثفة مع الرئيس الروسي، وقيادات الحكومة الروسية لتهدئة الأزمة. كما جددت أنقرة بعد الانسحاب الروسي من اتفاق الحبوب، أهمية علاقاتها الإستراتيجية مع روسيا، وأكدت رفضها الانخراط في العقوبات الغربية المفروضة عليها.
بالتوازي كثفت أنقرة من تحركاتها للضغط على القوى الغربية لتلبية مطالب روسيا لضمان تدفق الحبوب إلى الأسواق العالمية. وتجدر الإشارة إلى دعوة الرئيس التركي في 21 يوليو الحالي، عشية العودة من زيارته الخليجية الدول الغربية إلى ضرورة تلبية المطالب الروسية، وفي الصدارة منها السماح بإعادة اندماج البنك الزراعي الروسي في الشبكة المالية العالمية، باعتبار ذلك يمكن أن يشكل حافز يدفع موسكو للعود لمبادرة الحبوب. وأضاف "ندرك أن لدى الرئيس بوتين أيضا توقعات معينة من الدول الغربية، ومن الأهمية بمكان أن تتخذ هذه الدول إجراءات في هذا الشأن".
في المقابل دعت تركيا إلى ضرورة تيسير تصدير الأسمدة الروسية، إذ أن نجاح اتفاق الحبوب خلال المرحلة المقبلة يظل مرتبط في جانب معتبر منه بتحقيق شرط موسكو المتعلق بتصدير الأسمدة الروسية بسلاسة. كما أكدت تركيا على ضرورة أن تقدم الأطراف المشاركة في اتفاق تصدير الحبوب، ضمانات كافية من أجل الالتزام ببنوده، فدعت إلى أهمية وقف الاستهداف الروسي للموانئ الأوكرانية، وبخاصة ميناء أوديسا.
خلاصة القول، أن انسحاب روسيا من اتفاقية الحبوب، قد تفرض تداعيات مختلفة على تركيا خلال المرحلة الحالية، خاصة مع استمرار حدة الأزمة الاقتصادية في البلاد بالإضافة إلى انعكاساتها المحتملة على موقع تركيا كوسيط في الأزمة الأوكرانية، لا سيما في ظل مؤشرات خلافية جديدة مع موسكو، واستمرار القضايا الخلافية المعقدة مع الغرب.
كرم سعيد، خبير الشئون الإقليمية- مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية