حلبجة: جرحٌ تَفوحُ منه رائحة التفاح

قُتل أكثر من 5 آلاف شخص وأصيب الآلاف في الهجوم الغادر بالأسلحة الكيماوية التي كانت تحمل رائحة التفاح، كما تم حرق وتدمير آلاف القرى، بعد سنوات من مقاضاة المسؤولين عنها، وتم الاعتراف بها على أنها "إبادة جماعية".

ارتكبت طائرات الجيش العراقي التي حلقت فوق مدينة حلبجة في جنوب كردستان يوم 16 آذار / مارس 1988 الساعة 11:00 صباحا، وارتكبوا واحدة من أخطر الجرائم الوحشية في تاريخ الإنسانية، حيث قُتل ما لا يقل عن 5 آلاف مدني كردي وأصيب حوالي 10 آلاف من أهالي حلبجة خلال ساعات بالأسلحة الكيماوية.

" في لحظة القصف كان تفوح رائحة طيبة، مثل رائحة التفاح أو البرتقال أو الثوم، ولكن بعد بضع دقائق بات الأنفاس تختنق، ولم تمر دقائق حتى فقد الناس حياتهم، وأغلق البعض عيونهم على الحياة بابتسامة، واستمرت وفاة البعض لفترة طويلة ؛ في البداية احترقوا أو خرجت حويصلة خضراء من أفواههم حتى فقدوا حياتهم ".

هذه بعض الحقائق والشواهد، فمن شهود الأنفال الذين بقيوا على قيد الحياة من تلك الفاجعة، التي سببت لهم الألم، والجوع، والعطش، ومخيمات التجمع، وغرف القتل، والبيع في الأسواق، والقتل بالرصاص الجماعي، حصل كل ذلك أمام أعين من بقي على قيد الحياة، كانت هناك مقابر لم تكن تسع لأكثر من مائة ألف شخص، إلا إنه بعد ذلك تم العثور على مقابر جماعية، وكان سيتم إدراج عشرات الآلاف منهم على أنهم "مفقودون". لم يكن مصيرهم معروفًا، ولم يكن يستطيعوا حتى الحزن عليهم.

كانت الأنفال عملية بين الضربات البرية والجوية واستخدام أسلحة الدمار الشامل الكيماوية، حيث انطلقت حركة الإبادة الجماعية هذه  في عام 1986، وبين عامي 1987 و 1989 تم تنظيمها بشكل ممنهج ومتسلسل.

"أنفال.. غنيمة حرب"

بلغت الإبادة الجماعية ذروتها بين شباط وأيلول 1988 وتحولت إلى "عمليات وحشية " غنيمة حرب"، أو " الفتح من جديد" حيث نفذها مكتب الشمال التابع لحزب البعث في كركوك، وتم تعيين ابن عم صدام حسين، علي المجيد (المعروف لدى الكرد باسم علي الكيماوي أو علي أنفال)، في منصب الرئاسة في آذار 1987، وكما تم تكليف علي حسن المجيد بمهام خاصة في المناطق الكردية ولتنفيذ هذه المهمة نظم كتيبتا الجيش الأول والخامس، المديرية العامة للأمن، والمخابرات العسكرية، والمسلحين الكرد المعروفين بـ 'جحش' أو " ميليشيا"، رغم وجود 200 ألف قوة برية، وسلمت آلاف القوات البرية عشرات الطائرات وآلاف بطاريات المدفعية والدبابات والأسلحة الثقيلة.

بعد الحرب الإيرانية العراقية.. وجه حزب البعث كل فوهاته نحو الكرد

مع تعيين المجيد، تم إدارة آلية الإبادة الجماعية حتى نيسان/ أبريل 1989، حيث تقدم النظام البعثي في ​​البداية بعدد معين من القوات (عمليات 1987)، و بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية (1988)، أرسلت جميع وحداتها العسكرية إلى الجبهة، بما في ذلك معداتها ودباباتها وطائراتها الحربية، إلى كردستان وبدأت بالأنفال.

الحظر والنفي والقتل

قبل بدء المجزرة، تم الإعلان والتوسيع في "المناطق المحظورة" في المنطقة الكردية كجزء من تعليمات المجيد، وكما تم تسجيل جميع سكان هذه المناطق في الإحصاء السكاني في 17  تشرين الأول/أكتوبر 1987، وتم الإعلان عن الجميع بأنهم عملاء لإيران، وأجبروهم على الهجرة، ومن لم يهاجر تم إقصائهم من المواطنة،  بالإضافة لحظر الزراعة وتربية الحيوانات في المناطق الكردية. كما كان هناك حظر في اماكن المقاومة و منع البيع في تلك الاماكن.

كان هذا التنفيذ هو عبارة عن نقطة بداية وكان بمثابة إجراءات استعدادات للأنفال، حيث تم التخطيط لحركة الأنفال كحركة إبادة جماعية من 8 عمليات (لأن الأنفال موجودة في سورة 8 من القرآن) وبعد 4 أشهر من الإحصاء، بدأت حركة الأنفال في 23 شباط/فبراير 1988.

ميليشيات كردية تشارك في حرق ونهب القرى وخطف المدنيين

تم تنفيذ العمليات العسكرية الأساسية للأنفال من قبل وحدتي الكتيبتين الأولى والخامسة في الجيش العراقي، وضمت حركة الأنفال القوات الخاصة (قوات الكاحص)، وقوات الكوماندوس (المغاوير)، والقوات العسكرية (قوات الطوارئ)، إلى جانب الحرس الجمهوري من الجيش العراقي، كما لم يغب ميليشيا الكرد اللذين استخدموا أيضًا كقوات شبه عسكرية، وتم تكليفهم بمهمة حرق الأماكن ونهبها وخطف القرويين.

حرق منزل كل كردي

وبحسب المعلومات التي قدمها ضابط عسكري سابق لـ "ميدل إيست ووتش" " مركز الرصد في الشرق الأوسط"؛ في اجتماع في كركوك حضره محافظو هولير وكركوك ودهوك والسليمانية، أمر علي حسن المجيد قادة الكتائب الأولى والخامسة في الجيش وقادة الوحدات وكبار المسؤولين في حزب البعث "في قرى سهول هولير يجب ألا يبقى منزلاً غير محترقاً في هولير ".

"الرأس لنا والملك لكم"

وبحسب أقوال البيشمركة في ذلك الوقت؛ كان المجيد يفتي كزعيم داعش أبو بكر البغدادي، فتاوي بـ'غنائم الحرب 'أثناء نهب الكرد، حيث ذكر شهود عيان أن الشعار الأساسي لعمليات الأنفال كان "الرأس لنا والملك لكم". وبحسب روايات شهود عيان خلال الأنفال، مهما حصلتم من الكرد كان سيكون ملكهم".

عقوبة أطفال حلبجة واللأنفال كعقوبة ديرسم

كان تصرف الجنود العراقيون شبيه بالعقلية والذهنية التي هاجم بها إرهابيو داعش بوحشية القرى الكردية، حيث أحرقت جميع القرى وصودرت منازلها ونساءها، وبحسب التقارير تم اختطاف النساء في ذلك الوقت، كما كان الحال اليوم مع بيع داعش في أسواق الكويت ودول عربية أخرى، كان مصير أبناء حلبجة، أبناء الأنفال، نفس مصير فتيات ديرسم الضائعات. لقد نهبوا البيوت من جرميان، حتى السليمانية، ومن زاخو حتى بهدينان في جميع أنحاء جنوب ( باشور) كردستان.

ووقعت هجمات وحشية وتم استخدام أسلحة كيماوية في جنوب كردستان، و بدأت الهجمات المعروفة باسم "الأنفال الأولى "، في صباح يوم 23 شباط / فبراير بعملية برية ضد منطقتي سرغلي وبرغلي (مناطق تابعة لسليمانية) وفي 22 آذار تم استخدام أسلحة كيماوية ضد قرية شانغشي، ووقع الهجوم الثالث بالأسلحة الكيماوية في 16 آذار / مارس في حلبجة.

و في 22 آذار/مارس، تم استخدام الأسلحة الكيميائية ضد قرية سيسنان في قره داغ، وفي 23 آذار ضد دوكان، وفي 24 آذار ضد قرية جافيران، كما واستُخدمت الغازات السامة في 3 أيار في قرية إكسير،وفي يومي 7 و 20 نيسان في جرميان، وفي 24 آب في منطقة زيوا شيخان الواقعة على الحدود مع شمال (باكور) كردستان، ونفذت مئات التفجيرات في 6 مناطق في جنوب كردستان واستخدمت أكثر من 200 ألف من القوات البرية في 8 عمليات فتح، كما أضرم الجيش العراقي بمساعدة الدبابات والمدفعية والطائرات الحربية والأسلحة الكيماوية، النيران دمرت كل مناطق كردستان الجنوبية من جرميان وصولاً لسليمانية ومن زاخو إلى بهدينان.

جمعوهم في المخيمات وتم نفيهم

ولكي تنجح عمليات الأنفال بشكل كامل، يجب إخلاء المنطقة من القوات العسكرية الكردية وإعادة جمع الأشخاص الذين تم إنقاذهم من القصف والأسلحة الكيماوية مرة أخرى، وخلال الأنفال الثالث والرابع  تم إنشاء معسكرات الاعتقال في ليلان، وشارباجار، وتوب زافا، وطقطقي، وبعد توقيف هؤلاء الأهالي هنا لفترة من الوقت تم نقلهم بالشاحنات إلى أماكن مجهولة ومرة ​​أخرى لم ترد منهم أية معلومات،  واللذين حالفهم الحظ و تمكنوا الهروب من هذه الأماكن، فإن عشرات الآلاف من الأشخاص قُتلوا برصاص الجلادين ودُفنوا بشكل جماعي.

توظيف الجيش الذي تأسس من الأطفال

تم تعيين مكتب الشمال علي حسن المجيد لعملية الأنفال الأخيرة ضد بهدينان، بما في ذلك كتيبة الأسلحة الكيماوية، ووحدات القوات الجوية العراقية، وكتائب الدفاع الوطني والميليشيات العسكرية، حيث تم توظيف الجيش المكون من 12 ألف جندي تتراوح أعمارهم بين 14 و 16 عامًا.

البيوت نهبت ومقتل الآلاف في الأنفال

كان الهجوم الكيماوي على المدنيين في 16 أبريل / نيسان 1987 في وادي باليسان هو الحلقة الأخيرة من السلسلة، وفي وقت لاحق تم تدمير ما لا يقل عن 703 قرية كردية في هولير، وجرميان، والسليمانية، وبهدينان خلال انتفاضة عام 1987، كما تم ذبح الآلاف من الكرد.

وبحسب بعض المصادر، قُتل ما لا يقل 100- 150 ألف و بحسب المصادر الكردية بأنه قتل 182 ألف كردي في عمليات الأنفال وأصيب الملايين من الناس، وشردوا، وتضوروا جوعا في المخيمات، وتضوروا جوعا،  وحوالي 4 آلاف قرية أصبحت رماداً، وكما دمرت عملية الأنفال 1800 مدرسة و 300 مستشفى و 3000 مسجد و 27 كنيسة.

استهدفوا كل شخص قادر على حمل السلاح

وثم بدأ جمع الكرد القاطنين في القرى الريفية، وكما جمعوا النساء والأطفال وكبار السن عشرات الآلاف من الأشخاص في المخيمات،  ثم نُقل الرجال إلى مقابر جماعية وأُعدموا ودُفنوا فيها، كما لقي معظم المحتجزين في المعسكرات مصرعهم بسبب الجوع والظروف القاسية، فيما استهدف النظام البعثي على وجه التحديد جميع الرجال الكرد الذين يمكنهم حمل السلاح في أكبر عمليات الإبادة الجماعية التي تعرض لها الشعب الكردي.

أولئك عاشوا زمن الكيماوي عاشوا الألم طيلة حياتهم

تعرضت مدينة حلبجة ومحيطها الواقعة على الحدود مع شرق ( روجهلات) كردستان للقصف بغاز الخردل الكيماوي والغازات الباردة والمحظورات و VX وأجهزة الاستشعار الهيدروجينية وسموم الدم (أسلحة الدمار الشامل) ولقي ما لا يقل عن 5000 شخص مصرعهم في القصف، ولاحقًا فقد الآلاف من الكرد حياتهم بسبب أمراضها،  كما أُجبر آلاف الأشخاص على التعايش مع الآثار السلبية للأسلحة الكيميائية، وأُجبر الناجون من الإبادة الجماعية على الخضوع لألم شديد ومرض مثل؛ السرطان وأمراض العيون والعقم والانتكاس و إجهاض الأطفال.

على الرغم من مرور 34 عامًا على مجزرة الأنفال، إلا أنه لا يزال من غير المعروف ما هي نتائج الأنفال وحلبجة.

بعد مرور 22 عامًا، تم الاعتراف بالقصف الكيميائي على أنها إبادة

اعتقل علي حسن المجيد، قائد المستوى الأول لعمليات الأنفال، في آب/أغسطس 2003، وذلك بعد خمسة أشهر من احتلال الولايات المتحدة للعراق، علي حسن المجيد الملقب بـ "الجزار" عند الشيعة و "علي الكيماوي" عند الكرد، قال أخيرًا في محكمة الأنفال في عام 2007: "أمرت بتدمير القرى". لا أدافع عن نفسي، أنا لا أعتذر، أنا لم أخطئ ". وأدين المجيد بارتكاب جريمة ضد الانسانية وحكم عليه بالإعدام بتهمة هجوم كيماوي في حلبجة. تمت الموافقة على القرار من قبل رئيس الجمهورية آنذاك جلال طالباني ونُفذ في 25 كانون الثاني (يناير) 2010. إلى جانب المجيد حكم على وزير الدفاع آنذاك سلطان هاشم الطائي ونائب رئيس أركان عمليات الجيش العراقي السابق حسين رشيد محمد بالإعدام، وكما حكم على رئيس المخابرات العسكرية السابق فرحان مطلق صالح ورئيس المخابرات العسكرية السابق صابر الدوري بالسجن مدى الحياة.

في 1 آذار (مارس) 2010، أعلنت المحكمة الجنائية العراقية العليا أن مذبحة حلبجة "إبادة جماعية". بعد اعتراف الدولة بالإبادة الجماعية، وضعت الدول الغربية القضية على جدول أعمالها، بما في ذلك السويد والنرويج، ثم في 1 آذار 2013، أقر البرلمان البريطاني الذي أطاح بالكرد من نظام البعث في عام 1988، بأنه إبادة جماعية.