لم يفهم المتنبي حقيقة مصر يوم قال: وكم ذا بمصر من مضحكات/ لكنه ضحك كالبكاء، رغم أنه مر بها وعاشر أهلها وتصور للحظة أنه فهم حقيقة مصر وشعبها، وهي التي وقف عُتاة الفلاسفة العظام عاجزين أمام تحليل هذه الحالة الفريدة في كل شيء، وما أشبه الحياة في مشرقنا الطاووسي أيام المتنبي بملمحه الراهن أيام دواعش الفكر الذي وصل الحال بصوتهم العالي أن يكون أوقع على الآذان بفعل سطوته وارتفاعه رغم نشاذه الواضح والذي يصُم الآذان من شدة قبحه.
أيام المتنبي تفككت الدولة العباسية.. بغى القرامطة.. سعى سيف الدولة الحمداني إلى إحداث أثر بدأه في الشمال السوري وولاية حلب التي كان يطمح بها إلى إرساء دعائم دولة قوية في مواجهة الأزمات وللقضاء على ملامح التفكك والعنف والدماء التي برزت في تلك المنطقة التي تتكرر فيها بين آن وآخر ملامح الدم والقتل والعنف تحت مسميات مختلفة، ووقتها كانت مصر لها لمحتها المختلفة.. وذلك في ترافق الحالة بين عهدين مختلفين.. دولة الطولونيين بكل ما شهدته من مساعٍ لإحداث موائمات مع الدولة العباسية حتى ولو عبر سياسة المصاهرة بقطر الندى وقصتها التي تبقى من أهم المرويات الأسطورية في هذا العصر، وصولًا إلى دولة الإخشيد والتي كانت تقاوم في مواجهة هذا المطمع القادم من الغرب، من الفاطميين الذين ستتحول الكفة بعد وقت لصالحهم.. لكن الأهم أن مصر بكل المتغيرات في هذا العصر كانت أقوى بما غير ملامح المنطقة وفق المعادلة المصرية التي رغم تعاقب ولاة ليسوا من أبناءها الأصليين إلا أنهم لم يلبسوا إلا أن منحهم النيل بمياهه التي ليست كغيرها من مياه الأرض هبه التمصير، ليصبحوا مصريي الهوى فيذوبوا في مصر حد الوله ببلد اختلف عن كل من حوله من دول كانت الدموية هي الملامح الحقيقية الشاهدة على واقعها.
وما أشبه اليوم بالأمس.. فالتاريخ يعيد كتابة نفس القصة ولكن بأبطال مختلفين وبملامح عصر تتناسب مع الحاصل ومع حالة التطور.. فيحل إن قلنا مكان الشعر الذي كان قديما ديوان العرب.. ربما الرواية والتي أصبحت سيدة الإبداع الراهن الذي أصبح السرد فيه القائد وأصبحت الحكاية هي سيدة المشهد.. وربما استبدلنا المتنبي ذلك الشاعر العظيم، بهدى بركات تلك الروائية اللبنانية المهاجرة التي عاشت آلام الاغتراب بكل ملامحه، فخطت روايتها عن هؤلاء المهاجروين التعساء الضائعين المنفيين الذين فقدوا السكن والوطن فتشردوا في الأرض، والتي ما أن نالت جائزة البوكر حتى تُرجمت إلى لغات عدة.. والأهم أن عدد طبعاتها تضاعف وباتت الأيدي تتلقف الرواية لتغترف من حالة الوميض الذي وصلت إليه "بريد الليل"، حتى أنها تقول خلال ندوة لها قبل يومين بمعرض القاهرة الدولي للكتاب إنها لم تفرح بالجائزة فعليا إلا عندما قالوا لها إن الجائزة ستحدث تفاعلا واسعا يُزيد من مبيعاتها في مصر.. وتقول أيضا إنها يُهمها أن تقرأ لها مصر، بل وإنها تضغط على ناشرها من أجل تخفيض أسعار كتبها في مصر بل وإصدار طبعات شعبية هنا في القاهرة.
ربما وعت هدى بركات أمور كثيرة من متغيرات العصر وهي بالأساس صحافية، ويبدو فعلا أن الصحفيين على عكس ما يُصدر بعض الكتاب، ممن فشلوا في تحقيق مآربهم في مهنة الصحافة، وهي صنعة المُحب.. بما جعلها تُطلق تلك الرؤية عن مصر التي ستجدها متشابهة لكل من صدق في محبته لمصر.. لذلك ستجد باستمرار أن معرض القاهرة الدولي للكتاب في كل مراحل عمره هو قبلة الكُتاب والمبدعين والمثقفين الصادقين في تلك الجغرافيا المليئة بالتناقضات المختلفة، حتى في أحلك لحظات ضعف مصر وفي الوقت الذي عاشت فيه أزمات أهلكت وأنهكت دول ووضعت شعوب على المحك كانت هذه الأيام مقدسة لدى كثير من المبدعين الذي عرفوا أن معادلة الإبداع لن تأخذ صورتها الكاملة ما لم تمر بمصر.. وما لم تغسلها مياه المطر في نهاية يناير وبداية فبراير.. في معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي أضاء شمعته الـ٥٣ هذا العام، بملمح فيه من الاختلاف الكثير في دولة عادت لتنبي مجدها من جديد ونهضت من ثُبات عظيم لتقول إنها موجودة وقادرة على التحدي، فهي الدولة التي رغم كل الكوارث والخطوب.. رغم كل المؤامرات ومحاولات التفتيت والتمزيق التي لم تستهدف مصر وحدها (وخاصة سيناء التي كانت وستظل وستبقى في مرمى الاستهداف).. ظلت صامدة بل ورمانة ميزان المنطقة التي أجبرت كل صانعي المؤامرات والمكائد بالمنطقة والإقليم على تغيير سياساتهم مرات عدة.. وأفشلت مخططات كانت تُمهد لمئة عام جديدة من التيه والعزلة لتلك المنطقة التي فيها وُلد التاريخ ونشأت الحضارة وبزغ الفكر ليصل ضياءه من أقصى الأرض إلى أقصاها.
وفي مركز مصر الدولي للمؤتمرات الذي يستضيف فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب والذي تمتد فعالياته لليوم الثامن تبدو ملامح فريدة من حالة الدولة المصرية الجديدة، التي تبني نهضة عمرانية واقتصادية واسعة تبرز بعض من ملامحها في حالة المعرض الفريدة هذا العام، والذي يتخذ من "هوية مصر.. الثقافة وسؤال المستقبل" شعارا لدورته الحالية، ويحتفي بصاحب القنديل "يحيى حقي"، بكل تاريخه الذي يؤرخ لتشكُل كافة المؤسسات الثقافية المصرية بصورتها الراهنة والتي وضع أغلب لبناتها الأول، وكذلك رائد أدب الأطفال العظيم عبدالتواب يوسف، شخصية معرض الطفل ليكون ملمح فريد ومميز.. ومن اليونان، التي عاشت مع مصر ملامح صداقة عديدة منذ فجر التاريخ، لتنتقل معها الحضارة والفكر إلى الغرب الذي لم يكن قبل ذلك سوى قبائل وجماعات متصارعة تعط في الظلام والفوضى، ضيفا لشرف المعرض.
ويبقى معرض القاهرة الدولي للكتاب أكبر المعارض الثقافية في الإقليم وأكبر سوق للكتاب يقصده ملايين الزائرين، حيث يزيد عدد الزائرين للمعرض يوميا على قرابة نصف مليون، ومن بين الملامح المهمة في حالة المعرض الذي تشارك فيه هذه العام ألف وثلاث وستون دار نشر، تشارك دار مصرية تهتم بالثقافة والأدب الكردي، وهي دار نفرتيتي للنشر والتوزيع، والتي اتخذت على عاتقها أن تكون جسرا للتواصل بين الثقافتين العربية والكردية، وذلك عبر عشرات العناوين من الأعمال الكردية في حقول المعرفة المختلفة من فكرية وإبداعية، علمية وتاريخية، وكذلك فنية.
ومزجت الدار التي تشارك لأول مرة في فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب بين الأعمال التي يقدمها كُتاب كُرد، خاصة من جغرافية روج آفا، شمال شرقي سوريا والتي تشهد التأصيل لميلاد تجربة فريدة من نوعها على كافة الأصعدة خاصة فيما يخص المرأة التي كان لها حضورها البارز بأعمال مختلفة وعناوين ذات وقع مميز في الجناح الذي جمع مؤلفات القائد عبدالله أوجلان ولمحات مختلفة من مؤلفاته الموسوعية، كان أحدثها كتاب كيف نعيش؟ والذي صدر حتى الآن ثلاثة أجزاء منه، الأول حمل عنوان فرعي هو؛ المرأة الكردستانية، والثاني: حقيقة العلاقات في كردستان، والثالث فجاء بعنوان فرعي هو الشخصية الكردية وقضية النضال لأجل الحرية، والأجزاء الثلاثة هما من ترجمة بشرى علي، التي توضح في مقدمة الجزء الأول أن "هذه السلسلة يحلل فيها القائد أوجلان خفايا العلاقات الاجتماعية والمفاهيم في كردستان، لبعث قيم الحب والجمال والحرية فيها من جديد".
ومن بين الأعمال الأخرى التي تشارك بها بشرى علي، التي أصبحت منذ سنوات أعمالها حاضرة في معرض القارة الدولي للكتاب منذ كتابها، الأول الذي صدر قبل ثلاث سنوات في معرض القاهرة الدولي للكتاب، "المرأة الكردية من أين وإلى أين؟"، ترجمتها لسيرة المناضلة الكردية "سكينة جانسيز"، حياتي كلها صراع، ليُضاف إلى قائمة أعمالها المترجمة المهمة والتي نقلت فيها كتابات أوجلان المعمقة إلى العربية.
وكانت المترجمة قد نشرت أكثر من ثُلثي الكتاب في موقع الديوان في مصر، على مدار عامي ٢٠١٩، ٢٠٢٠، قبل أيصدر العمل في القاهرة أيضًا ويطرح في معرض القاهرة الدولي للكتاب.
ومن بين الأعمال البارزة أيضا التي شاركت بها دار نفرتيتي كان كتاب: لماذا علم المرأة لفوزة اليوسف، والتي تقدم فيه الرؤوية الكردية لما تؤكد المرأة الكردية أنه علم وضعن له قواعد تتسم مع حالة المرأة التي هي أصل الحياة، معتبرين أن استئثار الرحل بالعلم والمعرفة إنما هو استعمار ذكوري يحتاج العالم للتحرر منه عبر الوعي لتيمة هذا العلم الذي تتحدث عنه المرأة الكردية وتضع له قواعد لتأصيله، عبر اهتمامه بخطوات علمية في طريق العلم -أي علم- عبر اختراق مجالات العلوم العرفية والحياتية من علم الإيكولوجيا، إلى التاريخ، الاجتماع، الاقتصاد، السياسة، علم الأخلاق والجمال، وغيرها من العلوم البشرية. كما تتطرق الكاتبة إلى الحركة الفييمينية (النسوية)، والرؤية الذكورية والنظام الذكورة وصولا إلى الحياة الحرة والتي تصفها بالندية.
ومن بين الأعمال المهمة التي صدرت أيضا كتاب يناقش إشكالية حلم دولة كردستان، ويتتبع أثر الحالة منذ دولة القاضي محمد التي لم تدم سوى ١١ شهر، وصولا إلى أربيل، وهو كتاب "حلم الدولة من مهاباد إلى أربيل.. كردستان إيران"، للكاتب السياسي الكردي اللبناني مسعود محمد، والذي يعد من أوائل الكتب العربية التي توثق للحالة الكردياتية في شقها الإيراني منذ أول دولة فعلية للكرد، مهاباد، والذي لم يدم طويلا. ومنه يتطرق إلى الثورة الإيرانية قبل أن تتحول للخومينية، برؤيتها الراهنة ودور الكرد في الثورة ثم انقلاب الخوميني وأعوانه على الكرد وتسخير الحرس الثوري منذ بداية نشأته لمواجهة الكرد والقضاء على ارهاصة الحرية التي حققوها، وصولا إلى الملامح الراهنة على اختلاف أوضاعها وذلك عبر تحليلات وحوارات مع شخصيات مختلفة، بما يقدم ويدلل لرؤية ومسار الكاتب الذي أكد في مقدمة عمله أن له مع النظام الإيراني "ثلاثة ثأرات.. ثأر كل شهداء لبنان الذين سقطوا بيد النظامين السوري والإيراني وشهداء الاستقلال الثاني ١٤ آذار، وثأر الشعب السوري، ثأر الشعوب الإيرانية غير الفارسية ومن ضمنهم الشعب الكردي، وعلى رأي ذلك ثأر القادة الشهداء فؤاد سلطاني، عبدالرحمن قاسملو، صادق شرفكندي، جعفر شفيعي".
وتستمر فعاليات المعرض حتى 7 فبراير الجاري، وترافق المعرض جملة من الفعاليات الثقافية المختلفة من ندوات وأمسيات شعرية وحفلات توقيع ومناقشة كتب إضافة إلى كثير من الفعاليات الفنية والثقافية.