وتمحورت الحلقة النقاشية حول ما شهدته الأيام الماضية من جدل كبير بعد أن وصفت كثير من الدول الغربية حركات المقاومة الفلسطينية بالتنظيمات الإرهابية، وذلك إثر اندلاع الأزمة الحالية في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين أول المنصرم، على نحو أعاد إلى الأذهان ما حدث من قبل مع حركات تحرر وطني في دول مثل جنوب أفريقيا والجزائر ومصر وكذلك الحركات الكردية.
نماذج عملية عديدة تعبر عن ازدواجية المعايير الدولية
وقد أدار الحلقة النقاشية الكاتب الصحفي فتحي محمود، مدير مركز آتون للدراسات، والذي أكد في بداية حديثه أن وصم حركات التحرر الوطني بالإرهاب أمر كان له كثير من النماذج، مثل المؤتمر الوطني في جنوب أفريقيا بزعامة نيلسون مانديلا، إذ تم تصنيفه كحركة إرهابية وطوال فترة وجوده بالسجن كان المؤتمر الوطني يعامل كحركة إرهابية ولم يتم إسقاط صفة الإرهاب عنه إلا عندما سقط نظام الفصل العنصري.
ولفت إلى أن الأمر ذاته حدث مع جبهة التحرير الجزائرية وتم تصنيفها كحركة إرهابية طوال فترة مقاومة الاحتلال الفرنسي حتى الجلاء عن الجزائر، وحدث أيضاً مع منظمة التحرير الفلسطينية وكانت تصنف كحركة إرهابية حتى استجابت لمساعي التسوية مع إسرائيل في اتفاق أوسلو وسقطت عنها صفة الحركة الإرهابية. وأكد الكاتب الصحفي المصري كذلك أن نفس الأمر حدث مع حزب العمال الكردستاني ولا يزال يحدث، مضيفاً أن كل حركات التحرر الوطني تقريباً يتم وصفها في البداية كحركة إرهابية ثم عندما تنتصر بعد ذلك تفرض إرادتها ويتم التعامل معها كأمر واقع وتسقط عنها صفة الإرهاب.
وكان المؤرخ المصري الكبير الدكتور محمد رفعت الإمام أول المتحدثين في تلك الحلقة والذي أكد أن "بريطانيا أول من بدأت فكرة ازدواجية المعايير عندما صنفت محاولات الاستقلال التي تقودها بعض الجماعات في المستعمرات البريطانية بالعالم الأمريكي بأنها حركات إرهابية، مشيراً إلى أنه يمكن القياس على ذلك، طوال القرن 19، فكل الحركات التي قامت بالاستقلال في اليونان، بلاد البلقان، إيطاليا 1860، ألمانيا 1871، كان ينظر إليها من الكيانات الأخرى بأنها حركات إرهابية أو تمرد".
وذكر "الإمام" أن مصطلح ازدواجية المعايير، ظهر من رحم حرب البلقان التي كانت سبباً أساسياً من أسباب الحرب العالمية الأولى، مضيفاً أن "فكرة الازدواجية لها جذور تاريخية من نشأة الولايات المتحدة إلى الآن"، وأن "بريطانيا كانت تنظر إلى حركة الفدائين في القناة في مصر بأنهم إرهابيين، وكان يتم تفصيل قوانين ضد حركة الفدائيين في القناة على أنهم إرهابيين ومتمردين وجماعات مسلحة وليسوا أصحاب أرض وقضية واحتلال".
ازدواجية المعايير والكرد
وتحدث كذلك الدكتور محمد رفعت الإمام عن نموذج لازدواجية المعايير وهو عندما وعدت بريطانيا العرب، الأرمن، الكرد، السريان، الكلدان، اليهود، خلال الحرب العالمية الأولى بتأسيس وطن قومي، مضيفاً إن "اليهود هم الوحيدون الذين فازوا بذلك الوعد وحصولوا على وطن قومي موحد لهم"، مشيراً إلى أن "العرب بآلية يطلق عليها عصبة الأمم فرض عليهم الانتداب، وانتداب عصبة الأمم، والانتداب أعطى شرعية للاحتلالات والاستعمار الفرنسي والإنجليزي والإيطالي"، موضحاً أن الأرمن والكرد بدورهم خرجوا خاسرين، فيما تم تأكيد ذلك في معاهدة لوزان 1923.
وأكد "الإمام" أن القانون الدولي وقع في أزمة ومأزق ازدواجية المعايير، بأنه "يقر بحق تقرير المصير وفقا للنقطة 14 من نقاط ويلسون، وفي الوقت ذاته، فإن شرط من شروط دخول عصبة الأمم لأي دولة وقتها كانت الموافقة على الحدود المصنوعة بين الدول في معاهدة لوزان 1923، وتم تكوين مبدأ وحدة الأراضي، فأصبح لدى القانون الدولي ذاته، حق تقرير المصير في مواجهة التمسك بوحدة الأراضي".
وضرب "الإمام" مثلاً بتركيا التي تجاهلت الاعتراف بحقوق الكرد، مبررة ذلك بأنها دخلت عصبة الأمم، وشرط أساسي من دخولها الاتفاق على الحدود الرسمية التي أقرتها معاهدة لوزان، وفي المقابل يقول الكرد بإن لهم حق تقرير المصير ومن هنا أتت ازدواجية المعايير في القانون الدولي.
أجواء دولية تعبر عن ازدواجية المعايير
بدوره، كان للباحث السياسي الدكتور طه علي مقاربة ربطت مسألة ازدواجية المعايير الدولية بفكرة القوة والمصلحة، مشيراً إلى أن "النظام الدولي يتكون من مجموعة من الفاعلين الدوليين تتراوح قوتهم ولكل منهم مصالح، ومن هنا تأتي فكرة تفاوت المصالح وهي سنة تاريخية ومع اختلاف المصالح والقدرات تأتي فكرة ازدواجية المعايير، وأننا نعيش أجواء دولية تتسم بازدواجية المعايير ويظهر ذلك في السلوك الغربي بوجه عام وليس الولايات المتحدة الأمريكية فقط".
وقال المحلل السياسي أنه "من المعروف أنه كانت هناك نظريتان تفسران الأحداث الدولية، أولها النظرية المثالية والتي لم تصمد حينما عجزت عن تفسير نشوب الحرب العالمية الأولى لتسقط وتحل محلها المدرسة الواقعية التي يرى القائمون عليها أن الأصل في الحياة المصالح في المقام الأول وهي المحدد الأساسي لمسار العلاقات الدولية بشكل عام".
وأشار الدكتور طه علي إلى أن ازدواجية المعايير لا ترتبط بالولايات المتحدة، وقال إن "الحضارة اليونانية على سبيل المثال حينما زعمت أن الديمقراطية، التي ظهرت في أثينا، لا يمكن أن تحارب بعضها، وأثينا اتخذت من الديمقراطية مبرراً فتوسعت وسيطرت على سوريا عام 338 قبل الميلاد، في إطار السيطرة على الآخر، وبالتالي فإن ازدواجية المعايير تأتي وكأن شخص ما يتحرك من أجل مصلحته والمصلحة بالضرورة متغيرة"، مشيراً إلى أن "واشنطن اتفقت في الرؤية مع الإيرانيين ضد العراقيين للحصول على منطقة "شط العرب"، ثم تكون هي نفسها الولايات المتحدة تتحالف مع العراقيين ضد الإيرانيين".
وأشار إلى مثال آخر لازدواجية الولايات المتحدة، وهي اعترافها بحكومة عبد الحميد الدبيبة في ليبيا كجزء من الجماعة الدولية وهي التي تعتمد على جماعات متطرفة وحركات إسلام سياسي وحركات متشددة، وهي نفسها الجماعات التي تصنف في سوريا إرهابية، وفي أفغانستان تعبر عن الإرهاب العالمي، وحتى الأخيرة في وقت ما توافقت مصالح واشنطن معها عندما قامت بتسمينها لمواجهة الخطر الروسي أو الشيوعي، وبالتالي حيثما تكون المصلحة فثمة شرع العلاقات الدولية.
السلوك التركي في منطقة الشرق الأوسط
وأشار كذلك إلى السلوك التركي في الشرق الأوسط كتعبير عن الازدواجية، ففي أكتوبر/تشرين أول 2019 حذر مسشتار الأمن القومي الأمريكي أنقرة من شن أية عمليات في الشمال السوري، لكن النظام التركي خاض العملية العسكرية تلو الأخرى، وبالتالي فتركيا لا تعبء بتلك المحاذير الدولية، وقد وقع الاتحاد الأوروبي عقوبات عليها عام 2020 بسبب الحفر غير الشرعي عن الثروات في شرق البحر المتوسط، وهي تركيا ذاتها التي تحتل قبرص التركية منذ عام 1974، وأنقرة هي التي تتعامل مع الكرد في شمال العراق وتعتبر أنهم داعمين لاستقرار العلاقات التركية معها، هي هي أنقرة التي تقوم بالعمليات العسكرية المتوالية ضد الكرد وتعتبرهم خطراً على الجغرافيا التركية.
ولفت الانتباه كذلك إلى الموقف من حزب العمال الكردستاني، حيث أشار إلى أنه "في شباط سنة 1986 تم اغتيال رئيس الوزراء السويدي فنسبت العملية إلى الحزب ليتم إدارجه كجماعة إرهابية، ورغم أنه بعد ذلك برأت محكمة سويدية حزب العمال الكردستاني، لكن خطوة تصنيفه تنظيماً إرهابياً في السويد أعقبتها أخرى في ألمانيا وإيطاليا ودول كثيرة حتى رغم تبرئته".
وواصل الحديث كذلك عن الموقف الأمريكي من العمليات التركية في شمال سوريا، إذ أشار إلى أن "الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في عام 2019 قال إن الكرد لم يقفوا مع الأمريكيين في معركة نورماندي، في تصريح يعبر عن جهل بالتاريخ وعن التواطؤ أو التغاضي الأمريكي عن العمليات التركية، وبالتالي الموضوع له رواسب تاريخية، والأمريكيون أنفسهم يؤيدون قطاعاً ما من الكرد ويختلفون معه في لحظة، وبالتالي هذا جزء من ازدواجية المعايير".
ازدواجية المعايير تعبر عن الاستعمار الجديد
أما الكاتب الصحفي والإعلامي نبيل نجم الدين، والذي كان ثالث المتحدثين وآخرهم، فاعتبر أن ازدواجية المعايير هي أحد أوجه الاستعمار أو يمكن وصفها بالوجه غير القبيح للاستعمار، منتقداً وصم حركات التحرر الوطني بالإرهاب، مشيراً على سبيل المثال إلى أن فكرة تعظيم الإرهاب بشكل هيستيري ومرضي بدأت بعد ضرب برجي التجارة العالمي في 2001، موضحاً أن تنظيم القاعدة تم تخليقه في معامل وكالة الاستخبارات الأمريكية "سي آي أيه" لتحقيق بعض الأهداف.
وشدد "نجم الدين" مجدداً على أنه ليس هناك ازدواجية معايير، بل هناك استعمار واستغلال وسيطرة، وأنه يجب أن يتوقف الترويج لهذا المصطلح الباطل المضلل، أما فيما يتعلق بحركات التحرر والإرهاب، فإن الخلط بينهما مرتبط بتضليل الضعفاء، فالدول الغربية تعرف أن الذي يرفع السلاح يرفعه لحماية نفسه أو الدفاع عن أرضه أو عرضه أو شرفه، ولكنهم يضعون عباءة الإرهاب عليه لاستمرار الاستغلال والاستعمار.
كما انتقد عدم ترويج الإعلام الغربي لقصة حق الفلسطينيين في الدفاع عن النفس، رغم ترويج الإعلام الغربي بشكل كبير حق إسرائيل بالدفاع عن النفس، ولما لا يعتبر الغرب أن عملية "طوفان الأقصى" حق لجماعة فلسطينية في أن تضرب محتلاً مستعمراً ينتهك كافة حقوق القانون الدولي وحقوق الإنسان.