كارثة المنطقة.. فرض اللون الواحد والإصرار عليه

تحدث الباحث السياسي أحمد شيخو خلال مقال عن هيمنة النظام العالمي وقيامه بإضعاف إرادة وثقافة الشعوب وصنع وخلق ذهنية وسلوك اللون الواحد من أجل الهيمنة على الشرق الأوسط ونهب موارد وثروات شعوبها.

قام النظام العالمي المهيمن بإضعاف الإرادة والثقافة التكاملية والوحدة الطوعية الديمقراطية بين شعوب ومجتمعات المنطقة، باصطناع وخلق ذهنية وسلوك اللون الواحد، وذلك لأجل تحقيق هيمنته ونهبه على منطقة الشرق الأوسط وشعوبها ومجتمعاتها ودولها بعد إضعافهم وتقسيمهم ومحاولة إنهاء وتصفية القيم والتقاليد المجتمعية الديمقراطية والأخلاقية، التي تحقق العيش المشترك وأخوة الشعوب، مع سد الطريق أمام أية تحركات شعبية اعتراضية أو انطلاقات فكرية متجددة أو سياقات نضالية حرة ومستقلة أولويتها مصالح الشعوب ومجتمعات المنطقة والتشارك الأخوي بينهم.

وبالرغم من أن ظاهرة أو كارثة اللون الواحد التي تم فرضها من الخارج على المنطقة وشعوبها، دون أخذ إرادة ومصالح شعوب ومجتمعات المنطقة بعين الاعتبار، إلا أن الكثير من الأحزاب والحركات والتيارات والقوى وكذلك السلطات والدولة في المنطقة وخاصة القومية والإسلامية، والذين تشكلوا تحت تأثير الفكر الاستشراقي الغربي وبتوجيهاتهم، والذين يدورون في فلك الاستعمار غير المباشر وكونهم أدوات وظيفية رغم تشدقهم بالاستقلال والحيادية والوطنية المزيفة، مازالت هذه الكيانات والهياكل السياسية والنخبوية الفوقية، تصر وبكل عزيمة وقوة أنه لامجال للألوان الطبيعية المتعددة التي خلقها الله سبحانه وتعالى، وأن لونهم الواحد يجب أن يسود وأن الأخرين ليسوا شركاء في الوطن والأرض بل هم أقليات أو أنهم أناس أقل شأنً أو وافدين وضيوف أو أنهم تابعين لهم أصلاً وأضلوا الطريق وضاعوا وعليهم الرجوع. وفي الحقيقة فإن أصحاب اللون الواحد، هم من يجسدون بسلوكهم الأحادي القومي والديني والمناطقي حالة أقلية ضيقة و سلطوية مقيتة وهم بعقليتهم وافدين جدد ولا يمثلون أصالة وعراقة الشعوب الذين يتكلمون ويستخدمون اسمائهم.

ويظل عند أيديولوجيا اللون الواحد ومعتنقيه، أية مطالبة بحقوق الحياة الطبيعية للتكوينات الاجتماعية المختلفة والعيش وفق ثقافاتهم وحقوقهم السياسية والاقتصادية والإدارية وخصوصيتهم، دعوات غير مقبولة ومرفوضة ويتم إلصاق العديد من التهم والأوصاف بهم، وإن على أصحابها إما الرضوخ والتراجع أو الموت أو السجن في أحسن الأحوال أو أن يقوم الإنسان بإنكار ذاته وهويته الاجتماعية ومجتمعه وشعبه وأن يكون ملحق وتابع وزيل لأصحاب اللون الواحد الطاغي بفعل وقوة السلطة القومية التي صاغها أصحاب اللون والثقافة الواحدة.

 لكن علينا الانتباه أنه من يتم حالة الفرض عليه أو يقبل أن يعيش وفق اللون المفروض والقسري، دون مقاومة ورفض، فأنه لا يمكن أن يكون إنسان طبيعي و مستقر وسيكون مغترب عن ذاته ومجتمعه الأصلي ومقلد لأمة اللون الواحد المفروض ويعيش عندها بحالة ازدواجية ونفاق كبير إن رضي بذلك وسيكون هذا المجتمع المخصي، حاضنة لكل أنواع الرذيلة والعنف والتطرف والتشرد، لأن حق الحياة الطبيعة المستقرة تم إزالته بحجة أن كل شيء يجب أن يكون واحد وليس اثنين أو ثلاثة في حالة نفاق وتأليه كبيرة لقومية السلطات التي تبيع وتشتري في الإنسان حتى من نفس القومية لأجل مصالحها وبقائها وخدمتها لنظام الهيمنة العالمي.

لا يختلف منطق اللون الواحد أو الذهنية والسلوك الأحادي بين إيران وتركيا والدول العربية وإسرائيل وغيرهم، فكل من يجسدون هذا الفكر والمنطق لديهم مرجعية واحدة وسلوك متشابه ومعادلة صفرية تجاه الآخر المختلف وتجاه الألوان المتعددة حتى من نفس القومية والدين والمذهب والحزب، فرفض الآخر وإنكار وجوده وحقوقه والحكم عليه بالموت أو جعله تابع، والقبول بالاستسلام والتخلي عن الكرامة والشرف والهوية المجتمعية هو دين هؤلاء الواحديون المنافقون السلطويون.

يتجسد أخلاق أي إنسان وكرامته وشرفه في مسؤوليته أمام مجتمعه، وحرية هذا المجتمع وحقوقه الطبيعة وثقافته الذاتية، ففرض اللون الواحد والقبول به، تعني أن يكون الإنسان مجرداً من الأخلاق والكرامة والشرف، ولذلك نرى أصحاب اللون الواحد يعملون لتفشي حالة عدم الأخلاق وانتشار الفساد والرذيلة، وهم بحد ذاتهم أي أصحاب ثقافة اللون الواحد و السلطويون والانتهازيون، مجردين من الأخلاق والكرامة والشرف، لأن من لديه شرف وأخلاق وكرامة، لا يطلب و لا يفرض على الآخرين الاستسلام والعيش من دون الأخلاق والشرف والكرامة، فمن لديه الكرامة لا يطلب من الآخرين العيش بدون كرامة والتخلي عن لونه ومجتمعه الأصلي وهويته الذاتية التي تمثله كوجود وإنسان ومجتمع وأمة.

لا يوجد أقاليم ومناطق وجغرافيات وبلدان بلون واحد سواءً أكانت اثنية أو دينية أو مذهبية، والطبيعي والغالب أن التعدد والتنوع هي السمة والخاصية الطبيعية الموجودة، مهما تم تسميتهم بأسماء محددة مصطنعة وبلون واحد، كما هي غالبية دول المنطقة، فتركيا كمثال، رغم أن الدستور التركي ينص بأن الموجودين ترك فقط وكل المواطنين من القومية التركية، ولكن الحقيقة والواقع يقول أن هناك العشرات من القوميات الأخرى، كالكردية والسريانية والآشورية والعربية والأرمنية واليونانية وغيرهم، ولكن العقلية الفاشية الطورانية التركية كتبت في الدستور ومنذ ١٩٢٥ وحتى اليوم، وتقول لا يوجد سوى أتراك، بل وفرضت على أطفال كل القوميات أن يقولوا في المدرسة وفي كل صباح أنه كم هم فخورين لأنهم أتراك وهو في الحقيقة ليس طفل تركي ولكن يتم إهانته بذكر ذلك الشعار كل صباح،

وإذا تنازلت بعض السلطات التركية وقالت هناك أمم وقوميات أخرى، لكنها تصر وتؤكد أن ليس لديهم حق العيش بثقافتهم ولغتهم وتعليم أطفالهم وحق إدارة مناطقهم وحماية مجتمعاتهم، كما هي منذ تشكيل هذه الدولة التركياتية الفاشية تحت اسم الجمهورية التركية التي لم تقبل سوى باللون التركي، وكذلك هي إيران وسوريا والعراق، ففي سوريا والعراق اللتان تم تسميتهم بلون واحد قومي من قبل الحزبين الفاشيين البعثيين، ظل حزبا البعث السوري والعراقي العنصريان، يتصارعان لأجل السلطة و يكذبون دهراً و يطعمون شعوبنا الشعارات الزائفة لإدامة واستمرار سلطتهم ومصالح عائلاتهم، عن أن لون معين هو فقط له الحياة والسيادة وأن الدولة والجمهورية هي ذات لون قومي واحد فقط في بلدين يمتاز بتعدد وتنوع القوميات والديانات والمذاهب، ولكنهم بذلك كانوا لا يريدون رؤية الحقيقة وواقع التعدد والتنوع الثقافي والاثني الذي يمتاز به سوريا والعراق والذي يشكل أهم مصادر القوة والجمال والفخر لدى الشعوب والمجتمعات في سوريا والعراق والذين يشكل أهم حاضنة ومنبع للديمقراطية والأخلاقية المجتمعية الذي يسعى إليه كل حر وشريف، وكذلك هي إيران فالفارسية والشيعة القومية هي اللون الواحد التي تم فرضها على العشرات من القوميات والديانات والمذاهب الأخرى كالكردية والعربية و الآذرية والبلوشية وغيرهم.

إن التيارات القومية والتي أدلجت نفسها وما حولها حول لون واحد وقومية نمطية دولتية واحدة ومركزية شديدة، لا تعبّر بأي حال من الأحوال عن أممها التي تحاول استغلال اسمها ولا تمثل أمم المنطقة الأربعة الكبيرة الكردية والتركية والفارسية والعربية، وليس لها علاقة بقيم وأصالة هذه الشعوب العريقة، والتاريخ المشترك الذي عاشت فيه كل شعوب المنطقة مع بعضها دون أن يقول أية قومية أن لها حق الحياة والقيادة لوحدها وعلى الباقيين أن يغيروا جلدتهم ومجتمعهم وهويتهم وأصلهم ويكونوا تابعين فقط، ولكن مع التدخلات الخارجية وزيادة التابعين والعملاء لهم، ظهر من شعوبنا ومن أشقائنا من يريد أن يسيطر ويهيمن ويتسلط علينا مستندة في قوته وشرعيته على القوى الخارجية ونظام الهيمنة الدولي العالمي، والذي نثر الفكر القومي واللون الواحد حتى ينهي ويقضي على أي اتحاد أو تكامل بين شعوبنا ومجتمعاتنا وحتى يقسم المنطقة إلى دويلات قومية ضعيفة موجودة حالياً والتي تجسد حالة بلاء ومصيبة وكارثة على المنطقة وشعوبها وتشكل حجرة عثرة أمامهم وأمام مصالحهم وتشاركهم وتطور اقتصاداتهم.

إن المرفرض هو حالة الفرض والاجبار وإزالة ظروف التعايش والمشاركة في الشرق الأوسط و في دولها و بين كافة الشعوب والمجتمعات، أي محاولة القضاء على ديالكتيك الحياة الطبيعة، لأن الثقافات والأفكار والألوان وعندما تتوفر لها مساحات التشارك والأخوة، تأخذ من بعضها ويضيف كل لون للألوان الأخرى رونقه وجماله، ولكن عندما يبدأ الفرض والإنكار والاجبار تحت حجج مختلفة لحماية أصحاب السلطة ونفوذهم وتفردهم بالسلطة، عندها تتوقف الحياة والتطور والتلاقح الطبيعي، ونغدو أمام حالة تعدي و اغتصاب للحياة المتعددة والمتنوعة وارتكاب جرائم بحق شعوبنا وثقافات المنطقة الأصلية بحجة الأمن القومي والدولة الواحدة واللغة الواحدة وهيبة الدولة واللغة الواحدة والدين الواحد والنشيد والعلم الواحد، فيغدوا البلد سجن كبير له صفة أثنية واحدة ويتم إقصاء الأثنيات والديانات والأسماء الأخرى، فيشعر من هم من غير اللون الواحد أن البلد ليس بلدهم وأن دولة اللون الواحد لا تمثلهم وهم مغتربون ومنبوذون على أرضهم التاريخية التي تم إطلاق اسم قومية واحدة لا يمت لهم بصلة، سوى أن صاحب القوة والسلطة أراد ذلك دون التشاور معهم، فتبدأ عندها التناقضات تتراكم والمشاكل تتزايد، و لكن الطبيعي أن يكون أي اسم هو تعبير عن كل مكونات وشعوب البلد وليس أن يتم إطلاق اسم من لون واحد على جميع الألوان قسراً تحت حجة الأغلبية رغم أن الأغلبية ربما هي وافدة ومحتلة في العديد من البلدان.

ولو ذهبنا لعند غالبية الأحزاب القومية واليسارية الشوفينية أو اليمينية المتطرفة والإسلامية حالياً في غالبية دول المنطقة، فسنجد أن مركز تفكيرهم وهدفهم الأوحد هو الحفاظ على ثقافة اللون الواحد والإصرار عليه بل يعطون لأنفسهم حق أن يعتبروك منهم أو تابع لهم من دون أن يسألوك أو يأخذوا رأيك، مع العلم أنهم يعيشون حالة من الضعف والموت السريري وليس لهم أي وزن في الحياة وفي مجتمعاتهم ولكنهم ولحالة الفراغ الفكري والسياسي والثقافي الحقيقي، مازالوا يعيشون على المزابل الفكرية الغربية، مع العلم أن الأوربيون تجاوزوا الحالة القطرية والدولة القومية الضيقة من عشرات السنوات وأعطوا لمجتمعاتهم وشعوبهم مجالات للتحرك الأوسع دون جوازات سفر للعمل والتنظيم والتعبير الحر والتشارك، ولكن دول الشرق الأوسط مازالت تقتل وتسجن لمجرد أن الآخر لا ينتمي للون أو قومية أو دين الدولة المركزية أو منطقة معينة.

وعليه، لكي نكون لائقين بالتاريخ المشترك لشعوبنا و نستطيع حل المشاكل والقضايا العالقة وحتى نجتاز كارثة اللون الواحد ولكي لا تكون الدول القومية الموجودة أدوات وظيفية مستمرة للهيمنة العالمية ونهبهم مواردنا وثرواتنا، وحتى لا تكون الأحزاب والتيارات السياسية والثقافية مجرد بقايا الماضي و رواسب السلطات، علينا كشعوب ومجتمعات وقوى سياسية واجتماعية وثقافية وإعلامية وديمقراطية، أن نعمل بكل جد لنتجاوز ونتخلص من ثقافة اللون الواحد الدخيلة و العملية للتدخلات والهيمنة الخارجية و كذلك الخادمة للقوى السلطوية المحلية المرتزقة والمقسمة للمنطقة وشعوبها، ولابد أن نبحث في ما وراء القومية والإسلاموية الدينية بشقيها السني والشيعي والذكورية التسلطية، ولابد أن يكون هناك مسارات مجتمعية ديمقراطية و تحولات ديمقراطية حقيقية في دول المنطقة ومؤسساتها وساحاتها السياسية والثقافية والاقتصادية، وهذا لا يتم إلا بامتلاك ذهنية ديمقراطية تشاركية وإرادة مجتمعية حقيقية تلعب المرأة الحرة فيها دور الريادة و عندها لن يتم تسليم حق إدارة المجتمعات لنفسها وحمايتها لذاتها للآخرين أو لأي دولة أو سلطة مهما كانت، فمن لا يستطيع حماية وإدارة نفسه يكون عادة تابع وملحق لغيره، ولن يستطيع العيش بحريته وبثقافته وإدارة نفسه وموارده ومن لا يعمل ولا يقاوم لأجل كرامته وحقوق ذاته و مجتمعه لا يستحق الحياة الحرة أو أن يكون إنساناً، ولعل ما طرحه القائد والمفكر عبدالله أوجلان لحل القضية الكردية وقضايا الشرق الأوسط هي في مسار البحث عن نظام ديمقراطي للمجتمعات والشعوب خارج نطاق ومفهوم وهدف الدولة القومية وهي الكونفدرالية الديمقراطية التي تضمن الاتحاد الطوعي الديمقراطي بين كافة شعوب ومجتمعات المنطقة بعيداً عن منطق وذهنية وسلوك اللون الواحد، وبل حفاظاً لكافة الألوان والتكوينات الاجتماعية المختلفة بما يتحقق الاستقرار والأمن والسلام الحقيقي بوصول المجتمعات والشعوب لإدارة نفسها وحماية ذاتها ضمن منظومة كونفدرالية متكاملة وأمم ديمقراطية تعبر عن حقيقة الشرق الأوسط وتنوع وتعدد الشعوب والمجتمعات والقوميات والديانات فيه.